حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . كانت جلسات الإستماع لنشرات الأخبار وخاصة إذاعة لندن بي بي سي التي كان لها مصداقية عند الناس ، رغم معرفة بعضهم أنها تمارس سياسة ( دس السم في الدسم ) ، وكذا تعليقات أحمد سعيد ومحمد عروق ، تتم ضمن طقوس خاصة ، حيث أن على النساء أن يخرجن أطفالهن إلى الحوش ويلتزمن الصمت ، لفسح المجال للرجال لسماعها والتمعّن فيها . كانت هناك بعض البرامج أو المسلسلات التمثيلية تحوز إعجاب الأهالي ، مثل برنامج ( سفينة نوح ) من الإذاعة الإسرائيلية ، وهو برنامج خبيث تشرف عليه المخابرات الإسرائيلية ، ويتضمن ثلاث شخصيات أساسية : يهودي / الخواجة أندريا ، ومسيحي/ أبوخليل ، ومسلم / أبو طافش ، وكان يدعو إلى الخنوع والقبول بالإحتلال كأمر واقع ، ولكنه كان في إعداده وتقديمه يتضمن كل مقومات التشويق من فكاهة وغناء بجعل الناس يتابعونه بغض النظرعن محتواه . والبرنامج الثاني يحمل اسم مضافة أبو محمود يتم بثّه من الإذاعة الأردنية ، ويتحدث عن هموم وقضايا تقع عادة في المجتمعين الفلاحي والبدوي ، دون رسالة توجيهية سليمة أو أي رسالة . ولكنه كان يتضمن بعض الفكاهة والغناء البدوي على أنغام ربابة المغني الشهير عبده موسى تجعل الناس يتابعونه رغم تفاهته. وكانت الأوقات التي يتم فيها بث مثل هذه البرامج تشهد ما يشبه حالة منع التجو ل . وعلى ذكر الغناء ، فقد كان عموم الناس وخاصة النساء يفضلون سماع أغاني المطربات فيروز وصباح وسميرة توفيق ونور الهدى والمطربين وديع الصافي ونصري شمس الدين وتوفيق النمري ، لما في أغانيهم من تراث شامي ، وكان الرجال الناضجون والمتعلمون وذوو المكانة يفضلون سماع أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان ومحمد عبد المطلب وإلى حد ما أغاني فايزة أحمد ونجاة الصغيرة . وكنا نحن الشباب نتوزع على مجموعتين : الأولى أنصار فريد الأطرش ، والثانية أنصار عبدالحليم حافظ . وكانت سهرة الخميس الأول من كل شهر للسيدة أم كلثوم التي تبثها إذاعة القاهرة مناسبة خاصة ، يستعد لها مغرمو أم كلثوم ، بإعداد أباريق الشاي وغلّايات القهوة وبعض المسلّيات من فستق وحمص مقلي وغيره . وقد يتساءل البعض عن هذا اللامعقول الذي يجري . . تشرّد وسكنى في خيام أو أشباه غرف ننام فيها بشكل كوميدي يصفه اللاجئون بسخرية لاذعة قائلين ( إذا وضعت رأسك داخل الغرفة ، خرجت رجلاك من الباب ) ، جوع وعري وفقر مدقع ، ومع ذلك يجد اللاجئون وقتا للطرب ؟ ولكن هؤلاء المتسائلون ينسون أمرا هاما يتمثل في أن فلسطين قبل 1948 كانت قبلة لكل الباحثين عن العمل والغنى . ويروي كبار السن من أهالي مدن القدس وحيفا ويافا ونابلس كيف أن قاعات هذه المدن شهدت العديد من حفلات كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ، ومسرحيات فرقة يوسف وهبي وفرقة نجيب الريحاني وغيرهم . كما يروي الباحثون أن بيت عائلة طوقان في مدينة نابلس شهد في عام 1906 عرضا لفيلم سينمائي من قياس 8 ملمترات ، مما يؤكد أن النهضة الفنية وصلت إلى فلسطين في وقت مبكّر ، كما أن الحالة المادية الجيدة للفلسطينيين كانت تساعدهم على قيام نهضة فنية ، وعلى إستجلاب الفرق الفنية من الدول العربية الأخرى . ارتباطا بالراديو وتلصّص الشرطة لمعرفة من يستمع لإذاعة صوت العرب ، اشتهر احد أفراد الشرطة بكونه أكثرهم إيذاء للمواطنين واسمه أبو حسن . كان كل أهل المخيم يكرهونه ويتحيّن الشباب الفرصة لضربه والإ نتقام منه. وفي أواخر الخمسينات إبتدع النظام الأردني نظام تجنيد إسمه ( الحرس الوطني ) خاص بأبناء المخيمات الذين لم يكن مسموحا لهم الإنخراط في الجيش الأردني بسبب الشك في ولائهم . كان أفراد الحرس الوطني يلبسون الكاكي ولكنه مختلف عن الكا كي الذي يلبسه أفراد الجيش ، وشعارهم الذي يضعونه على طا قيا تهم يختلف عن شعار الجيش الأردني ، وكانوا يتلقون راتبا شهريا قدره ديناران أردنيان في حين أن أفراد الجيش كانوا يتقاضون خمسة دنانير . رغم كل ذلك فإن بعض الشباب أجبر على الإنخراط في الحرس الوطني ، وبعض العاطلين عن العمل التحقوا به لأنه يعطيهم ميزات بسيطة كاللباس والحذاء والأكل ومصروف الجيب ، وأهم من ذلك إعتبارهم ( أبناء دولة) لا تستطيع الشرطة التعرض لهم أو إعتقالهم . وذات يوم من عام 1959 قررت مجموعة من أقاربنا وأصدقائهم ممن دخلوا الحرس الوطني أن ينتقموا من الشرطي أبو حسن ، واختاروا ليلة عرس أحد أبناء المخيم . وكانت الخطة تقوم على أن ينتظروا قدوم أبو حسن إلى العرس ، فينزلوا إلى حلقة الدبكة بلباسهم العسكري ، وفي لحظة معينة يتم كسرزجاج القنديل الكبير الذي يضيء مكان الحفل ويسمى ( لوكس ) حيث لم تكن قد وصلت الكهرباء إلى مخيمنا ، فيغتنم الشباب فرصة الظلام والفوضى التي ستد بّ في المكان لضرب أبو حسن. وقع إختيار العم أبو وحيد عليّ لأقوم بكسر اللوكس ، فأخبرني بالأمر وطلب مني إنتظار إشارة منه للتنفيذ . وفي الوقت المحدد أعطاني العم أبو وحيد الإشارة ، فضربت اللوكس بحجر وكسرته ، فوقعت فوضى وتدافع ، استغله الشباب وهجموا على أبو حسن وكسروا أضلاعه وشوّهوا وجهه ضربا وركلا بالأحذية العسكرية الثقيلة التي يلبسونها . وبسرعة فائقة إنسحبوا من مكان الحفل وأكملوا طريقهم جريا إلى معسكرهم الذي يبعد أكثرمن عشرين كيلومتراعن المخيم ، وتعمّدوا أن يشعروا ضابط الحراسة المناوب بأنهم عادوا إلى المعسكر وسيبيتون فيه . وفي الصباح اتهم الشرطي أبو حسن كلا من أبو وحيد وأبو حنان وأبو مالك وآخرين لم أعد أتذكر أسماءهم بالإعتداء عليه ، فاتصل قائد المخفر بقائد كتيبة الحرس الوطني ، وكان بدويا شهما يسمى ( أبو تخينة) ، ليخبره بالأمر ويطلب منه تسليم المذكورين. سأ ل أبو تخينة الضابط المناوب عن الأسماء المذكورة ، فأجابه بأنهم باتوا الليلة الماضية في المعسكر. فردّ على قائد المخفر بغلظة قائلا بأن ما يقوله كذب ، وأنه لا يحق له أن يطلب منه تسليم جنوده إلى الشرطة ، إذ لم تكن العلاقة بين أفراد الجيش وأفراد الشرطة على ما يرام . وانتهى الأمر على هذه الصفة ، وراحت على أبو حسن الذي اضطر لاحقا لطلب الإنتقال من مخفر المخيم ، لأنه فقد هيبته واحترامه وأصبح محل سخرية من عموم الناس . كانت إعانات الأونروا بالكاد تسدّ رمق اللاجئين الذين كانوا يرددون مقولة ( من العيد للعيد تانشوف اللحمة بالإيد ) ومعظم طعامهم أعشاب بريّة كالخبّيزة والسلق والحمّيضة والهندباء والفرفحينة/الرجلة ، بحيث يمكن الجزم بأن اللاجئين الفلسطينيين هم أكثر شعوب الأرض التي استهلكت بقولا برية . وكان الحصول على حبة من الفواكه يشكل بالنسبة لهم مجرد حلم بعيد التحقق وينطبق عليهم قول الشاعر : ويخال الرغيف في البعد بدرا ويظنّ اللحوم صيدا حراما . ولما كانت تحيط بعين ماء الفارعة وبمجرى مياهها الذي يمتد بضعة كيلومترات بحيث يلتقي مع مجاري مياه أخرى فيشكل واحدا من أهم روافد نهر الأردن ، تحيط بها بسا تين لمواطنين من قرية طلوزة المجاورة ،فقد كانت هذه البساتين عرضة للسرقة بين الحين والآخر ، والمسروق لم يكن يزيد عن بضع حبات من التين الفجّ أو البرقوق أو البرتقال أو قطفا من العنب حتى ولو كان ( (حصرم ) لم ينضج بعد . كان أصحاب هذه البسا تين يحيطون بساتينهم بأشجار شوكية متشابكة ويقتنون كلابا شرسة للحراسة ، ويظلون هم ونساؤهم وابناؤهم حذرين متنبّهين ، وإذا صادف أن تخطّى أحدنا السياج الشوكي لأحد البساتين ووقع في قبضة صاحب البستان ، فإنه يشبعه ضربا وفي بعض الأحيان يسلّمه لمخفر الشرطة الذي يتوصل قائده بسلال من الخضار والفواكه باستمرار، فيقوم جنود المخفربإشباع المقبوض عليه ضربا ، ويستدعون وليّ أمره لأخذ تعهد عليه بألا يعود إلى هذه الفعلة ثانية. كثيرون منا قد تعرضوا للضرب بسبب هذه السرقات البسيطة ، وأحيانا بسبب إ قترابنا من السياج فقط لأكل ثمار العلّيق . ولكن ( القتلة ) التي تعرضت لها شخصيا لا يمكن نسيانها ، وأسميها ( قتلة طبقية) . فذات يوم تسلّلت مع بعض رفاقي إلى بستان أبو عدنان للحصول على أي شيء ، ولكنني بعد إختراق السياج لمحت قرب المنزل شجرتين من الورد الجوري ، فقررت الحصول على وردة منها ، وجريت باتجاههما رغم تحذيرباقي المجموعة ، فوقعت بين يدي أبو عدنان . وبالطبع أكلت من الضرب ما يكفي ولكنني لم أكن أتألم من الضرب بل من الكلام الذي كان يردده وهو يقوم بضربي . فقد كان يقول لي : يا جوعان يا إبن الجوعان ، بدلا من أن تسرق لك حبة باذنجان تأكلها جئت لتسرق وردة ؟ هل حصلت على كل شيء ولم يبق لك إلا الورد ؟ وهو ما اعتبرته اضطهادا طبقيا يحرم اللاجئين من حق التمتع بالجمال . قررت مجموعتنا أن تنتقم من أصحاب البساتين ، با لتسلل إلى أحد البساتين وتخريب ما نستطيع تخريبه . وفي الوقت المحدد بعد منتصف الليل عبرنا السياج من نقطة رصدناها في النهار ، فوجدنا قريبا من تلك الفتحة صندوقا خشبيا كبيرا مملوءا بالعنب ، يبدو أن صاحب البستان جناه في المساء بانتظار أن ينقله في الصباح على ظهر حماره إلى السوق . تخلينا عن فكرة التخريب ، وقررنا الإكتفاء بأخذ الصندوق الذي كان يحتوي على أكثر من عشرين كيلوغراما . وبعد أن أخرجنا الصندوق من الفتحة نفسها ، واجهتنا مشكلة أين سنذهب بالصندوق واين سنخبؤه في هذا الوقت المتأخر من الليل . فاتفقنا على أن نذهب به إلى بيت أحد أقاربنا الذي كان يكبرنا بأكثر من عشر سنين ومع ذلك كان صديقا لنا يشاركنا في كثير من شغبنا . ذهبنا إلى بيت قريبنا هذا الذي هو عبارة عن غرفة واحدة بنتها له الأونروا ينام فيها هو وأطفاله ، وغرفة أخرى بناها هو كيفما تهيأ تستعمل كمطبخ وحمام ولأغراض أخرى عديدة في حوش صغير له بوابة عبارة عن لوح من الزتك مثبت على خشبتين بالمسامير . ضربنا على البوابة ففتح لنا ودخلنا بسرعة حاملين صندوق العنب . رحّب بنا وأيقظ زوجته وأطفاله وأكلنا جميعا ، وأخذ كل واحد من المجموعة عنقودا أو عنقودين وتركنا لهم الباقي ليأكلوه في الغد أو يصنعوا منه مربّى .وكان الأهم عنده صندوق الخشب الذي صنع من ألواحه خزانة للملابس. كانت جلسات الإستماع لنشرات الأخبار وخاصة إذاعة لندن بي بي سي التي كان لها مصداقية عند الناس ، رغم معرفة بعضهم أنها تمارس سياسة ( دس السم في الدسم ) ، وكذا تعليقات أحمد سعيد ومحمد عروق ، تتم ضمن طقوس خاصة ، حيث أن على النساء أن يخرجن أطفالهن إلى الحوش ويلتزمن الصمت ، لفسح المجال للرجال لسماعها والتمعّن فيها . كانت هناك بعض البرامج أو المسلسلات التمثيلية تحوز إعجاب الأهالي ، مثل برنامج ( سفينة نوح ) من الإذاعة الإسرائيلية ، وهو برنامج خبيث تشرف عليه المخابرات الإسرائيلية ، ويتضمن ثلاث شخصيات أساسية : يهودي / الخواجة أندريا ، ومسيحي/ أبوخليل ، ومسلم / أبو طافش ، وكان يدعو إلى الخنوع والقبول بالإحتلال كأمر واقع ، ولكنه كان في إعداده وتقديمه يتضمن كل مقومات التشويق من فكاهة وغناء بجعل الناس يتابعونه بغض النظرعن محتواه . والبرنامج الثاني يحمل اسم مضافة أبو محمود يتم بثّه من الإذاعة الأردنية ، ويتحدث عن هموم وقضايا تقع عادة في المجتمعين الفلاحي والبدوي ، دون رسالة توجيهية سليمة أو أي رسالة . ولكنه كان يتضمن بعض الفكاهة والغناء البدوي على أنغام ربابة المغني الشهير عبده موسى تجعل الناس يتابعونه رغم تفاهته. وكانت الأوقات التي يتم فيها بث مثل هذه البرامج تشهد ما يشبه حالة منع التجو ل . وعلى ذكر الغناء ، فقد كان عموم الناس وخاصة النساء يفضلون سماع أغاني المطربات فيروز وصباح وسميرة توفيق ونور الهدى والمطربين وديع الصافي ونصري شمس الدين وتوفيق النمري ، لما في أغانيهم من تراث شامي ، وكان الرجال الناضجون والمتعلمون وذوو المكانة يفضلون سماع أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان ومحمد عبد المطلب وإلى حد ما أغاني فايزة أحمد ونجاة الصغيرة . وكنا نحن الشباب نتوزع على مجموعتين : الأولى أنصار فريد الأطرش ، والثانية أنصار عبدالحليم حافظ . وكانت سهرة الخميس الأول من كل شهر للسيدة أم كلثوم التي تبثها إذاعة القاهرة مناسبة خاصة ، يستعد لها مغرمو أم كلثوم ، بإعداد أباريق الشاي وغلّايات القهوة وبعض المسلّيات من فستق وحمص مقلي وغيره . وقد يتساءل البعض عن هذا اللامعقول الذي يجري . . تشرّد وسكنى في خيام أو أشباه غرف ننام فيها بشكل كوميدي يصفه اللاجئون بسخرية لاذعة قائلين ( إذا وضعت رأسك داخل الغرفة ، خرجت رجلاك من الباب ) ، جوع وعري وفقر مدقع ، ومع ذلك يجد اللاجئون وقتا للطرب ؟ ولكن هؤلاء المتسائلون ينسون أمرا هاما يتمثل في أن فلسطين قبل 1948 كانت قبلة لكل الباحثين عن العمل والغنى . ويروي كبار السن من أهالي مدن القدس وحيفا ويافا ونابلس كيف أن قاعات هذه المدن شهدت العديد من حفلات كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ، ومسرحيات فرقة يوسف وهبي وفرقة نجيب الريحاني وغيرهم . كما يروي الباحثون أن بيت عائلة طوقان في مدينة نابلس شهد في عام 1906 عرضا لفيلم سينمائي من قياس 8 ملمترات ، مما يؤكد أن النهضة الفنية وصلت إلى فلسطين في وقت مبكّر ، كما أن الحالة المادية الجيدة للفلسطينيين كانت تساعدهم على قيام نهضة فنية ، وعلى إستجلاب الفرق الفنية من الدول العربية الأخرى . ارتباطا بالراديو وتلصّص الشرطة لمعرفة من يستمع لإذاعة صوت العرب ، اشتهر احد أفراد الشرطة بكونه أكثرهم إيذاء للمواطنين واسمه أبو حسن . كان كل أهل المخيم يكرهونه ويتحيّن الشباب الفرصة لضربه والإ نتقام منه. وفي أواخر الخمسينات إبتدع النظام الأردني نظام تجنيد إسمه ( الحرس الوطني ) خاص بأبناء المخيمات الذين لم يكن مسموحا لهم الإنخراط في الجيش الأردني بسبب الشك في ولائهم . كان أفراد الحرس الوطني يلبسون الكاكي ولكنه مختلف عن الكا كي الذي يلبسه أفراد الجيش ، وشعارهم الذي يضعونه على طا قيا تهم يختلف عن شعار الجيش الأردني ، وكانوا يتلقون راتبا شهريا قدره ديناران أردنيان في حين أن أفراد الجيش كانوا يتقاضون خمسة دنانير . رغم كل ذلك فإن بعض الشباب أجبر على الإنخراط في الحرس الوطني ، وبعض العاطلين عن العمل التحقوا به لأنه يعطيهم ميزات بسيطة كاللباس والحذاء والأكل ومصروف الجيب ، وأهم من ذلك إعتبارهم ( أبناء دولة) لا تستطيع الشرطة التعرض لهم أو إعتقالهم . وذات يوم من عام 1959 قررت مجموعة من أقاربنا وأصدقائهم ممن دخلوا الحرس الوطني أن ينتقموا من الشرطي أبو حسن ، واختاروا ليلة عرس أحد أبناء المخيم . وكانت الخطة تقوم على أن ينتظروا قدوم أبو حسن إلى العرس ، فينزلوا إلى حلقة الدبكة بلباسهم العسكري ، وفي لحظة معينة يتم كسرزجاج القنديل الكبير الذي يضيء مكان الحفل ويسمى ( لوكس ) حيث لم تكن قد وصلت الكهرباء إلى مخيمنا ، فيغتنم الشباب فرصة الظلام والفوضى التي ستد بّ في المكان لضرب أبو حسن. وقع إختيار العم أبو وحيد عليّ لأقوم بكسر اللوكس ، فأخبرني بالأمر وطلب مني إنتظار إشارة منه للتنفيذ . وفي الوقت المحدد أعطاني العم أبو وحيد الإشارة ، فضربت اللوكس بحجر وكسرته ، فوقعت فوضى وتدافع ، استغله الشباب وهجموا على أبو حسن وكسروا أضلاعه وشوّهوا وجهه ضربا وركلا بالأحذية العسكرية الثقيلة التي يلبسونها . وبسرعة فائقة إنسحبوا من مكان الحفل وأكملوا طريقهم جريا إلى معسكرهم الذي يبعد أكثرمن عشرين كيلومتراعن المخيم ، وتعمّدوا أن يشعروا ضابط الحراسة المناوب بأنهم عادوا إلى المعسكر وسيبيتون فيه . وفي الصباح اتهم الشرطي أبو حسن كلا من أبو وحيد وأبو حنان وأبو مالك وآخرين لم أعد أتذكر أسماءهم بالإعتداء عليه ، فاتصل قائد المخفر بقائد كتيبة الحرس الوطني ، وكان بدويا شهما يسمى ( أبو تخينة) ، ليخبره بالأمر ويطلب منه تسليم المذكورين. سأ ل أبو تخينة الضابط المناوب عن الأسماء المذكورة ، فأجابه بأنهم باتوا الليلة الماضية في المعسكر. فردّ على قائد المخفر بغلظة قائلا بأن ما يقوله كذب ، وأنه لا يحق له أن يطلب منه تسليم جنوده إلى الشرطة ، إذ لم تكن العلاقة بين أفراد الجيش وأفراد الشرطة على ما يرام . وانتهى الأمر على هذه الصفة ، وراحت على أبو حسن الذي اضطر لاحقا لطلب الإنتقال من مخفر المخيم ، لأنه فقد هيبته واحترامه وأصبح محل سخرية من عموم الناس . كانت إعانات الأونروا بالكاد تسدّ رمق اللاجئين الذين كانوا يرددون مقولة ( من العيد للعيد تانشوف اللحمة بالإيد ) ومعظم طعامهم أعشاب بريّة كالخبّيزة والسلق والحمّيضة والهندباء والفرفحينة/الرجلة ، بحيث يمكن الجزم بأن اللاجئين الفلسطينيين هم أكثر شعوب الأرض التي استهلكت بقولا برية . وكان الحصول على حبة من الفواكه يشكل بالنسبة لهم مجرد حلم بعيد التحقق وينطبق عليهم قول الشاعر : ويخال الرغيف في البعد بدرا ويظنّ اللحوم صيدا حراما . ولما كانت تحيط بعين ماء الفارعة وبمجرى مياهها الذي يمتد بضعة كيلومترات بحيث يلتقي مع مجاري مياه أخرى فيشكل واحدا من أهم روافد نهر الأردن ، تحيط بها بسا تين لمواطنين من قرية طلوزة المجاورة ،فقد كانت هذه البساتين عرضة للسرقة بين الحين والآخر ، والمسروق لم يكن يزيد عن بضع حبات من التين الفجّ أو البرقوق أو البرتقال أو قطفا من العنب حتى ولو كان ( (حصرم ) لم ينضج بعد . كان أصحاب هذه البسا تين يحيطون بساتينهم بأشجار شوكية متشابكة ويقتنون كلابا شرسة للحراسة ، ويظلون هم ونساؤهم وابناؤهم حذرين متنبّهين ، وإذا صادف أن تخطّى أحدنا السياج الشوكي لأحد البساتين ووقع في قبضة صاحب البستان ، فإنه يشبعه ضربا وفي بعض الأحيان يسلّمه لمخفر الشرطة الذي يتوصل قائده بسلال من الخضار والفواكه باستمرار، فيقوم جنود المخفربإشباع المقبوض عليه ضربا ، ويستدعون وليّ أمره لأخذ تعهد عليه بألا يعود إلى هذه الفعلة ثانية. كثيرون منا قد تعرضوا للضرب بسبب هذه السرقات البسيطة ، وأحيانا بسبب إ قترابنا من السياج فقط لأكل ثمار العلّيق . ولكن ( القتلة ) التي تعرضت لها شخصيا لا يمكن نسيانها ، وأسميها ( قتلة طبقية) . فذات يوم تسلّلت مع بعض رفاقي إلى بستان أبو عدنان للحصول على أي شيء ، ولكنني بعد إختراق السياج لمحت قرب المنزل شجرتين من الورد الجوري ، فقررت الحصول على وردة منها ، وجريت باتجاههما رغم تحذيرباقي المجموعة ، فوقعت بين يدي أبو عدنان . وبالطبع أكلت من الضرب ما يكفي ولكنني لم أكن أتألم من الضرب بل من الكلام الذي كان يردده وهو يقوم بضربي . فقد كان يقول لي : يا جوعان يا إبن الجوعان ، بدلا من أن تسرق لك حبة باذنجان تأكلها جئت لتسرق وردة ؟ هل حصلت على كل شيء ولم يبق لك إلا الورد ؟ وهو ما اعتبرته اضطهادا طبقيا يحرم اللاجئين من حق التمتع بالجمال . قررت مجموعتنا أن تنتقم من أصحاب البساتين ، با لتسلل إلى أحد البساتين وتخريب ما نستطيع تخريبه . وفي الوقت المحدد بعد منتصف الليل عبرنا السياج من نقطة رصدناها في النهار ، فوجدنا قريبا من تلك الفتحة صندوقا خشبيا كبيرا مملوءا بالعنب ، يبدو أن صاحب البستان جناه في المساء بانتظار أن ينقله في الصباح على ظهر حماره إلى السوق . تخلينا عن فكرة التخريب ، وقررنا الإكتفاء بأخذ الصندوق الذي كان يحتوي على أكثر من عشرين كيلوغراما . وبعد أن أخرجنا الصندوق من الفتحة نفسها ، واجهتنا مشكلة أين سنذهب بالصندوق واين سنخبؤه في هذا الوقت المتأخر من الليل . فاتفقنا على أن نذهب به إلى بيت أحد أقاربنا الذي كان يكبرنا بأكثر من عشر سنين ومع ذلك كان صديقا لنا يشاركنا في كثير من شغبنا . ذهبنا إلى بيت قريبنا هذا الذي هو عبارة عن غرفة واحدة بنتها له الأونروا ينام فيها هو وأطفاله ، وغرفة أخرى بناها هو كيفما تهيأ تستعمل كمطبخ وحمام ولأغراض أخرى عديدة في حوش صغير له بوابة عبارة عن لوح من الزتك مثبت على خشبتين بالمسامير . ضربنا على البوابة ففتح لنا ودخلنا بسرعة حاملين صندوق العنب . رحّب بنا وأيقظ زوجته وأطفاله وأكلنا جميعا ، وأخذ كل واحد من المجموعة عنقودا أو عنقودين وتركنا لهم الباقي ليأكلوه في الغد أو يصنعوا منه مربّى .وكان الأهم عنده صندوق الخشب الذي صنع من ألواحه خزانة للملابس.