لأول مرة في تاريخه، تم بالموازاة مع الدورة الخامسة عشرة لمهرجان الصويرة لكناوة وموسيقى العالم، عرف يوما الجمعة والسبت، تنظيم منتدى «حركية المجتمعات، حرية الثقافات»، حاضر فيه عدة سياسيين ومثقفين وفنانين وجمعويين، حول حدود حرية الابداع، عن القواسم المشتركة للتعبيرات الفنية والثقافية في العالم، عن القيم الكونية التي تؤطره، ورووا خلاصاتهم في مختلف المجالات الابداعية، النظرية والعملية، مشكلين خلاصات مشتركة عديدة، أهمها أن الابداع حر، ولا يجوز تقييده بأي بشكل من أشكال الايديولوجيا أو السلطة المادية أو المعنوية، كل ذلك تحت بركة موسيقى كناوة، وبدعم من المجلس الوطني لحقوق الانسان. وعُنون العرض الأول في صبيحة يوم الجمعة ب«ثقافة المقاومة، من أجل بديل للنكوص والإنكفاء والإقصاء»، الجلسة الثانية في نفس اليوم كانت بعنوان «ثقافات في الحرية، مجالات ذات امتياز لحداثة كونية»، يوم السبت عرف ندوتين هما على التوالي «ثقافات في حراك، من أجل الرد على صدام الجهالات والتعرف مجددا على التنوع»، ثم «ثقافات أمام المسؤولية، الثقافة كفضلى عن الايديولوجية، من أجل تصافح اقتصادي واجتماعي، من أجل التبادل والتبادل والاحترام»، وعلى الرغم من قصر التدخلات من ناحية الوقت، إلا الندوات الأربع، عرفت لحظات مليئة بالحماس، خصوصا تلك التي كانت عبارة عن شهادات لمبدعين وفنانين، استفزت الكثير من التشجيع، من المئتي حاضر التي تتسع لهم القاعة الموجودة في أحد الفنادق الساحلية بالمدينة. أول التدخلات كان للسيدة نائلة التازي، وهي المنتجة ومديرة المهرجان، قرأت متأثرة الرسالة التي بعثتها مؤسسة اليونسكو للعلوم والثقافة والمهرجان، والذي مضمونها العرفان بالدور الأساسي الذي يلعبه المهرجان، في التعريف العالمي بالموسيقى الافريقية التقليدية وفي طليعتها موسيقى كناوة، التي تشجع على التعايش والاحترام المتبادل، ليتم في نفس المعنى والسياق المستشار الملكي والرئيس المؤسس لجمعية الصويرة موكادور أندري أزولاي، اذ قال أن «الثقافة تنجح حيث تفشل الايديولوجيا»، وأنه على الرغم من ظهور وانتشار العديد من أفكار تشجع على الصدام والصراع، فالحداثة معركة وجب أن تكسب في الأخير، مسرا للحاضرين، أن على الرغم من مشاركته في مؤتمرات حوار الأديان، إلا أن الحقيقة هي أن معلمي كناوة يتقنون ذلم الحوار بل يعيشونه وينشرونه دون الكثير من الكلام، وفقدان البوصلة، كان يتحدث عن نفسه أيضا - يجعلنا بحاجة إلى الانصات لهذا اللون الموسيقى، لا بهدف الرقص والفرح، بل هو انصات كامل، يستخلص الدروس، ويستشرد بالمعلم، في رسالة الفن التي يطلق، والتي تجعلنا نكسب معركة الحداثة ببركة الكناوي»! لحظة كلمة الفنانة لطيفة أحرار كانت بدون منازع أقوى لحظات المنتدى، اذ كانت كلمة مثيرة للمشاعر والتصفيقات بل والدموع من الكثير من الحاضرين، متحدثا عن تجربتها الفنية، خاصة أمام ردود الأفعال التي أثيرت في وجه مسرحيتها «كفر نعوم» المثيرة للجدل، في المغرب للتخفف من اللباس، وفي الأردن لجملة بالعبرية، بل وحتى في أقرباء عائلة وزملاء قاطعوها للكلام المشاع، وهم الذين لم يكلفوا أنسهم عناء حضور عرض المسرحية» لتختم بملاحظة استنكارية، قالت فيها أن «الخالق نفسه ليس له مشكل مع أجسادنا، ولو كان كذلك لما بعثنا للدنيا عراة». الروائي والرسام ماحي بينبين تحدث في تدخله المقتضب عن تجربته من خلال روايته «نجوم سيدي مومن» الذي حولها نبيل عيوش إلى فلم سينمائي هو الآن يحصد الجوائز تباعا، والذي اعتبر فيها أن الذين أقدموا على الأفعال الارهابية المنحدرين من سيدي مومن، هم في العمق ضحايا هم أيضا، الشيء الذي عبر عنه في يوم تقديم الكتاب، لكن حضور أهالي الضحايا أخافه من ردود الفعل المفترضة، إلا أن اخت أحد الضحايا منحت تأثرا بالكتاب وفكرته، حاجات الأخ المتوفي إلى أخ أحد الضحايا الذين قتلوا أنفسهم والناس معهم في أحداث ماي الأليمة، في نموذج على أن الرقابة الذاتية التي يفرض أحيانا المبدع على نفسه، هي غالبا لا مبرر لها. ومن تونس حضر صحفي رويترز محمد عمارة، الذي تحدث عن الابداع في تونس في لحظات قبل وبالموازاة وبعد ثورة 14 جانفيي، وهو الجرد الذي مكنته منه مهمته كصحفي لوكالة أنباء دولية ما تمكن أحد من ابعاده في المراحل الثلاث، تحدث عن أن في عصر بنعلي كان الفن مقموعا، بالقدر الذي كانت تمنع مسرحية تتحدث عن التعذيب في المجرد، إلا أن المنع تابعها لعشرات المرات، وهي من اخراج الفنان فاضل الجعايبي.. في ساعة الثورة يؤكد الصحفي الذي كان قريبا من الحدث أن المثقفين والفنانين كانو أول من نزل لشارع الحبيب بورقيبة، وأن القمع والوعي كانا سببا مباشرا في الثورة التونسية.. أما بعد الثورة فالحكومة واقعة في موقف محرج بين المجموعات العلمانية والمجموعات السلفية، الأولى تضغط عليها بنشاطاتها التي أحيانا تكون مستفزة لبعض الأطراف، والثانية تحكم عليها بالكفر والتفسح لأنها لا تطبق حدود الله، لكنه طمئن الحضور بأن المجموعات العلمانية تبقى متيقضة حارصة جبهة حرية الابداع، على الرغم من الانزلاقات التي تحدث أحيانا هنا وهناك. الأستاذ الروائي محمد برادة كانت كلمته عبارة عن قراءة في طريق تطور الابداع في المغرب، الذي كان في الستينات واقعيا ملتزما ثم بدأ منذ ذلك شيئا فشيئا يستقيل عن الايديولوجيا، ويبتعد عن الماضوية والتقاليد. لينطلق في التجريب الذي ينفتح على الحداثة، ولكن صفة الحداثة تظل مهددة لأن الفضاء يحتاج الحرص الدائم على مركزة الحرية كقيمة القيم. ليختم بقراءة في كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمن الكواكبي، الذي كان فيه من كل ذلك الذي نعيشه اليوم، وهو الذي كان قد كتب قبل مئة عام أو يزيد. المداخلات طيلة اليومين كانت مركزة في الوقت، لكنها كانت مجمعة على أن الثقافة والابداع حرين لا يمكن لأي قوة أن تأخذهما إلى غاية في نفسها، ولا أن تحد من فضاء تحركهما، لأن المبدع لا يقبل التوجيه، بل هو يبحث لنفسه دائما عن منافد، يعيش فيها ويخلق.