إذا كان المغرب محمية فرنسية سابقا، فإن للرباط حليفا أكثر استراتيجية من باريس، و هو الولاياتالمتحدة. فالمملكة العلوية كانت أول دولة تعترف سنة 1777 ، بالاستقلال الأمريكي، و هو موقف سياسي لن تنساه واشنطن أبدا. فالمغرب يشكل للبيت الأبيض، «الباب» السياسي و الاقتصادي خصوصا نحو إفريقيا و الشرق الأوسط. سلوك الولاياتالمتحدة في العالم العربي كان تاريخيا مبررا باعتبارات جيوستراتيجية تتمثل إجمالا في التضييق على الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، الدفاع عن إسرائيل،الأمن الطاقي و مساندة الأنظمة الموالية للغرب. حقا، تقوم واشنطن ببيع السلاح للمنطقة، وكذا الطائرات المدنية و المنتجات الصناعية أو الفلاحية، بيد أن العمل الدبلوماسي عموما، كان يفوق الانفتاح التجاري. و هذه الوضعية لم تكن ترضي عالم رجال الأعمال، لأنه في الوقت الذي كان الأمريكيون يحكمون قبضتهم على المنطقة سياسيا، كانت الدوائر المالية تشعر بمرارة بأن المنطقة تفلت من أيديهم على المستوى الاقتصادي. و في المقابل، فإن الروابط التاريخية مع أوربا كانت تجعل من الشرق الأوسط و خاصة من المغرب العربي، «منطقة محروسة» . فالمبادلات الأوربية مع الدول العربية، حتى مستهل سنة 2000 ، كانت تمثل أربعة أضعاف مثيلاتها مع الولاياتالمتحدة. و هو الوضع الذي لم يكن يعجب الأمريكيين مطلقا. و بعد تفجيرات 11 شتنبر 2001 و الحرب في أفغانستان، فإن صورة أول قوة عالمية كبرى قد تدهورت بالشرق الأوسط، محدثة تآكلا تجاريا أمريكيا بالمنطقة. في هذا السياق الصعب شرع البيت الأبيض في محاولة الهجوم الاقتصادي: و هكذا اقترح سنة 2002 اتفاق تبادل حر مع المغرب، تم التوقيع و المصادقة عليه سنة 2004، و دخل حيز التنفيذ سنتين بعد ذلك. وتعكس السرعة التي تم التفاوض خلالها حول نص الاتفاق، العلاقات الخاصة التي تربط المملكة بالولاياتالمتحدة، التي تم نسجها منذ 1787 بتوقيع معاهدة السلام و الصداقة، و مراجعتها سنة 1836، و التي مازالت سارية المفعول إلى اليوم. الاقتصاد في قلب العلاقة الثنائية المتينة: وافق الملك محمد السادس، خلال زيارته للولايات المتحدة، في أبريل 2002، على العرض الذي تقدم به الرئيس جورج بوش بالشروع في المفاوضات حول هذا الاتفاق و كلف كاتب دولة بضمان تنسيق الحوار. و منذ 21 يناير 2003، بدأت المفاوضات في واشنطن في جو متوتر، بسبب التحضير لغزو العراق و ردود الفعل المعادية من جانب الشركاء الأوربيين، خاصة فرنسا. و مع ذلك، لم تتواصل بوتيرة سريعة: فقد تشكلت 11 مجموعة عمل و بعد تسع جولات من المباحثات التي دامت حوالي 14 شهرا، تم إعداد اتفاق التبادل الحر يوم 2 مارس 2004 بواشنطن و تمت المصادقة عليه من طرف غرفتي الكونغريس الأمريكي يومي 21 و 22 يوليوز. و بعد أقل من شهر على ذلك، في17 غشت، وقع بوش مرسوم تطبيق الاتفاق. و بذلك يصبح أول اتفاق من نوعه بين الولاياتالمتحدة و بلد عربي، بعد الاتفاق مع الأردن سنة 2000 . و قد وصف الممثل الأمريكي الخاص للتجارة «روبرت زوليك» النص خلال ندوة صحفية له بأنه «الحجر الأول» في مشروع «الشرق الأوسط الكبير» ، مضيفا بأن هذا الاتفاق هو أفضل اتفاق أبرم مع بلد نامٍ ، و مثال ملموس على الالتزام الأمريكي في مساندة المجتمعات المسلمة المنفتحة . و من جهته قال وزير الشؤون الخارجية و التعاون المغربي السيد الطيب الفاسي الفهري، بأن الاتفاق يقدم فرصا جديدة للاقتصاد المغربي من أجل ولوج سوق من 300 مليون أمريكي، و تشجيع الحركة السياحية، و جلب الاستثمارات و تنويع أسواق التصدير. و مع ذلك، كان عليه مواجهة انتقادات الإعلام و المجتمع المدني التي تلومه على «عدم شفافية» المفاوضات و غياب الحوار السياسي. وقد اتسع نطاق احتجاج بعض المنظمات المغربية خلال الشهور التي تلت توقيع الاتفاق. و هكذا وضع معارضون احتجاجا مبدئيا مفاده أنه لا يمكننا التفاوض مع قوة أمبريالية معادية لحقوق العرب و غازية للعراق و لا تحفل بمعاناة الشعب الفلسطيني و تفرض على المغرب»نوعا جديدا من الاستعمار» كما أكد ذلك المثقف المهدي المنجرة. و شجب آخرون «التنازلات المتسرعة» التي قدمتها الرباط و التي تتجاوز المعايير المطلوبة من طرف المنظمة العالمية للتجارة. كما ارتفعت أصوات مثل «جوزيف ستيغليتز» الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد سنة 2001 و «جاك شيراك» الرئيس الفرنسي آنذاك و الصديق الشخصي للعائلة الملكية، حيث دعيا الملك محمد السادس إلى الحذر. و بالفعل فإن الاتفاق ينص على إلغاء الرسوم الجمركية على أكثر من 95 بالمائة من المنتجات. و يعرض الاتفاق أيضا الولوج لخدمات مثل حماية الملكية الفكرية و الوسائل القانونية لضمان أمن المستثمرين الأمريكيين و تخليق المنافسة في تفويت الصفقات العمومية. و بذلك اعتقد الأوربيون بأنهم يفقدون موقعا كان محفوظا لهم حتى ذلك الحين. و في 16 يناير 2005 كتبت صحيفة «إيل بايس» الإسبانية بأن محمد السادس أجابهم بحزم: «نحن المغاربة، ملزمون بعدم وضع بيضنا كله في سلة واحدة...إن الأمر يتعلق بمبادرة تكمل، و لا تعوض الاتفاقات المبرمة مع الاتحاد الأوربي...و هذا قرار يهم السيادة المغربية» . تم تبني الاتفاق في 13 يناير 2005 من طرف مجلس النواب المغربي و من طرف مجلس المستشارين في 18 يناير، دون أن يتم توضيح المدى الجغرافي للاتفاق. و بالفعل، ففي الوقت الذي يؤكد السيد «زوليك» بأن الاتفاق يطال «التراب المغربي المعترف به دوليا» و لا يتضمن الصحراء الغربية، يعتبر السيد الطيب الفاسي الفهري أنه يطال «مجموع التراب المغربي، بما في ذلك الأقاليم الصحراوية الجنوبية»، غير أن الأمر لم يتم الحسم فيه لحد الآن. على الصعيد التجاري، يبدو المغرب شريكا غير مهم بالنسبة لواشنطن. ففي نهاية 2005، كانت المملكة هي السوق التاسع و السبعون للصادرات الأمريكية و التاسع و الثمانون بالنسبة للواردات، و في بداية 2006، صدر المغرب أقل بمرتين مما يستورد. و كانت حصة الولاياتالمتحدة ذلك العام مع الدول العربية لا تتعدى 3 بالمائة من مجموع الصادرات و الواردات، و هي نسبة قليلة جدا مقارنة مع الأنشطة التجارية بين المغرب و الاتحاد الأوربي التي وصلت إلى 65 بالمائة. و في سنة 2010 عرفت المبادلات التجارية بين المغرب و الولاياتالمتحدة قفزة مهمة، إذ بلغ مجموع حجم المبادلات مليارين و 100 مليون دولار، و مع ذلك فإن العجز التجاري للمغرب في إطار هذه العلاقة الثنائية وصل إلى 715 مليون دولار في الوقت الذي لم يكن يتجاوز 85 مليون دولار قبل خمس سنوات. دعم دبلوماسي في قضية الصحراء: بيد أن المغرب يكسب أرباحه بأشكال أخرى. فالأمريكيون الذين دافعوا عن استقلال المغرب بعد الحرب العالمية الثانية، قد ساندوا الرباط دوما في قضية «الصحراء الغربية». ففي سنة 1986، قام البلدان بمناورات عسكرية مشتركة في عرض سواحل المستعمرة الإسبانية السابقة.و تعتبر الولاياتالمتحدة اليوم أن الحل الوحيد للنزاع مع جبهة البوليزاريو هو تطبيق المخطط المقترح من طرف محمد السادس. فخلال ندوة صحفية بواشنطن، في 23 مارس 2011، مع نظيرها المغربي الطيب الفاسي الفهري، أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية «هيلاري كلينتون» موقف البيت الأبيض : «لقد عبرنا فيما سبق عن قناعتنا بأن المقترح المغربي حول الحكم الذاتي يشكل مقترحا جديا، واقعيا و ذا مصداقية، إضافة إلى مقاربة تستجيب لطموحات السكان (الصحراويين) لتدبير شؤونهم الخاصة في سلام و كرامة» . المثال الآخر على هذا الدعم السياسي تمثل في رد فعل القوة الكبرى العالمية بخصوص وعود الإصلاحات التي قدمها الملك في الوقت الذي كان «الربيع العربي» يطيح بالنظامين المستبدين في كل من تونس و مصر.ففي 9 مارس 2011، بعد مظاهرات الرباط و الدارالبيضاء و مراكش، أعلن محمد السادس عن «إصلاح دستوري شامل» وصفه الدبلوماسيون الأمريكيون بأنه «استثناء محمود» يميز المغرب عن محيطه. فالمملكة العلوية تعتبر ركنا لواشنطن بالمغرب العربي و حجر الزاوية في استراتيجيتها للتوسع الاقتصادي في إفريقيا.فليس صدفة إذن إذا كان هو أول بلد إفريقي يوقع اتفاق التبادل الحر مع الولاياتالمتحدة. هذه المعاملات المميزة تعود إلى التحالف التقليدي للبلدين خلال الحرب الباردة، و إلى مساندة المغرب لحرب الخليج سنة 1991 ، و كذا إلى الدور المفترض للمغرب باعتباره «جدارا» أمام الإرهاب الدولي و القاعدة و إلى موقفه المعتدل من النزاع العربي الإسرائيلي و إلى دوره كجسر طبيعي نحو إفريقيا و الانفتاح التدريجي لنظامه السياسي. و في الواقع العملي، فإن المغرب يتلقى كل سنة من الولاياتالمتحدة مساعدة للتنمية بقيمة 20 مليون دولار. على الصعيد العسكري، فضلت المملكة سنة 2009، طائرات «إف 16 « الأمريكية بدل «رافال» الفرنسية. و تقوم السلطات المغربية حاليا بالتفاوض لإقامة قاعدة قيادة إقليمية أمريكية لإفريقيا قرب طانطانجنوب البلاد، و هي تمنح رسوا بحريا دائما للقوات البحرية الأمريكية بالقرب من مدينة القصر الصغير غير بعيد من ميناء طنجة المتوسط على مضيق جبل طارق الاستراتيجي. الهدف هو الأمن: تطور الولاياتالمتحدةالأمريكية شراكات مماثلة للشراكة مع المغرب، في الشرق الأوسط، لأن الإصلاحات المالية و السياسية، إضافة للتبادل الحر و الحكامة الجيدة و برامج المساعدة للتنمية و الإدماج الاجتماعي، من شأنها تقليص مخاطر زعزعة الاستقرار. و الهدف محمود في حد ذاته و هو يندرج في أهداف الشراكة الأورو متوسطية. باستثناء أن الحلقات المتسلسلة : انفتاح اقتصادي إصلاح سياسي جاذبية استقرار أمن ، لن تتم بشكل آلي. من الواضح، أنه في سياق تنافس غير متكافئ، فإن مكاسب التبادل الحر لن تكون موزعة بالعدل بين الجانبين، كما أن القطاع الفلاحي المغربي قد يكون الخاسر الأكبر. و هكذا، فخلال الأشهر الستة الأولى لسنة 2006، عرفت الصادرات الأمريكية من الحبوب إلى المغرب قفزة ب 50 بالمائة. ف»الإندماج التنافسي» داخل الاقتصاد العالمي يتوقف بشكل كبير على الحكامة الجيدة سياسيا و اقتصاديا، و كذا على أهمية المنتوج و تنوع النسيج الصناعي و على قدرة المقاولات الوطنية على التكيف مع إكراهات السوق و آليات التنظيم و على تربية ملائمة للحاجيات. فإذا كان المغرب قد توصل إلى الاستجابة لهذه المعايير، فبإمكانه استثمار الإمكانات التي يتيحها اتفاق التبادل الحر مع واشنطن، و بالتالي تمتين علاقته الخاصة مع الولاياتالمتحدة. على الصعيد السياسي، فإن هذه الأخيرة قد اختارت «الوضع القائم» مع محمد السادس، فهي تدعمه في إصلاحاته، حتى و لو تبين أن هذه الإصلاحات «شكلية و تجميلية لا غير» إذ مازال يحتفظ بجميع السلطات. بيد أنه بعد «الربيع العربي» فإن مغربا مستقرا يعتبر قيمة أساسية في منطقة تقوم الدول الغربية ، الولاياتالمتحدة و فرنسا على رأسها، بإعادة تشكيل دبلوماسيتها حيالها. مجلة «مويان أوريون» الفرنسية عدد أبريل ماي 2012