نالت دنيا باطما الإعجاب من الجمهور الواسع بصوتها العذب، وشقت طريقها في الغناء كحنجرة تترنم بالشعر الجميل، وتختار اللحن الذي يتناسب مع الذبذبات الصوتية التي تمتلكها. إذ اجتمعت الكلمة والصوت واللحن، كانت البداية ممهدة لها لأن تكون مغنية المستقبل وهي متعددة الألوان، ولا تقتصر على نمط واحد. ولتتمكن من اجتياز عدة محطات للوصول إلى مستوى الإبداع وخلق شخصية متميزة لابد من الغوص في أعماق هذا العلم الغنائي عن طريق المعرفة والممارسة والخبرة. لماذا هذه المسؤولية خطيرة؟ لأن الفن الغنائي لا يسلسل قيادته إلا لمن عرف خفايا الصوت بحسناته وعوراته. فليس كل من دندن فهو مغني. ونحن لا نريد منه إلا أن يطربنا وعن ذوق رفيع يرفعنا درجات. وهذا الذي يجذبنا قد أشارت إليه الأصابع عندما أبدع. لا نريد لدنيا باطما أن تردد نفسها وتقتصر على نمطية واحدة، ما سمعناه البارحة نسمعه اليوم. وهذا ما يقع لأولئك الواقفين على الشاطىء، لا يحصلون إلا على الزّبَد الذي يذهب جفاء. أما ما يرفع ذوق الناس إلى الخلود، فيكمن في تجديد المقطوعات الغنائية، وكل واحدة لا تشبهُ الأخرى. من هنا تقف دنيا باطما على مفترق الطرق لتتأمل دربها وسط الأضواء المحيطة بها. إن الأنظار تتوجه إليها وتتخوف عليها من الانبهار.. وحتى لا تنجرف مع تيار الابتذال، عليها أن لا تقنع ببساطة اللحن الذي يقتصر على نغمة واحدة. فالقطع الشعرية المغناة تشمل عدة معاني، ولكل معنى لحنه الخاص. ومن أجل ذلك، كان لابد أن يحمل كل بيت شعري نغمه المعبر. وهذا ما يجعل الأغنية المتنوعة الأنغام تحمل في طياتها الإشراق والخلود، فيما إذا كان صاحبها يملك رصيداً من العلم الموسيقي ويحسن وضع النغمات في محلها، مثلما فعل الموسيقار محمد الموجي في «قارئة الفنجان» للشاعر العظيم نزار قباني وغناء المطرب عبد الحليم حافظ. هذا المستوى الرفيع من اللحن هو الذي نقترحه على دنيا باطمة. فعليها أن تختار الملحن الجيد الذي يعرف كيف يصيغ النغمات التي تتناسب مع صوتها، وتكون وحيدة تعبيراتها، أي لا يمكن تغييرها بأخرى. وهذا لا يتأتى لمن هب ودب، بل لمن لامسته عبقرية الإبداع. لا يكفي ل دنيا أن تجد مثل هذا الملحن وتؤدي ما يطلب منها. إضافة إلى ذلك، عليها أن ترتفع إلى مستوى الملحن وتتفهم اللغة الموسيقية التي يرسمها للمعاني الشعرية. ويتطلب منها ذلك أن تمتلك ثقافة واسعة حتى تحسن فهم الكلمات لتحسن إعطاء مجالها الصوتي في سياستها اللحنية. وهذا ما يطلق عليه برعاية الموهبة. إذ الصوت وحده لا يكفي. فلابد من تشذيبه وتثقيفه كلما حنّ إلى الغناء. كل المطربين العظام لم يعتلوا خشبة المسرح إلا بعد مراس طويل تقلبوا فيه بين الفشل والنجاح، وعانوا تعب الليالي بحثاً عن معرفة الذات وما تتطلع إليه من غناء متقن. لقد مروا من مرحلة التقليد ردحاً من الزمن حتى إذا استوت حنجرتهم على الأداء خلقوا لأنفسهم شخصية خاصة بهم، ولا يطرأ عليها صفة الشبه. بخلاف الآخرين الذين لا يتعبون أنفسهم ويعتمدون على ما يتلقفونه من ألحان سهلة، فإننا لا نستطيع التمييز بينهم وكأنهم نسخة واحدة. ومن هذه الطائفة التي ننبه دنيا أن لا تنضم إليها، أولئك الذين يختارون الشعر الهزيل الذي يبتعد عن الذوق الأدبي فيتصف غناؤه بدوره بالتفاهة والانحطاط. التجربة الغنائية الراقية هي التي تشتمل على الشعر العربي الفصيح. فكما نعلم أنه بطبعه مبني على الميزان الغنائي. يساعد الملحن على التقاط النغمات السحرية مثل ما فعل السنباطي بقصائد شوقي فتدفقت على صوت أم كلثوم سلسبيلا. إنه السحر المبين لمن عرف طريقه. وبعد، فماذا بعد آرب إدول، هل ستكون دنيا عند حسن ظننا وتمتعنا بالذي فقدناه؟ بيننا وبينها الأيام القادمة.