طنجة والمضيق لا يفصل بينهما سوى حوالي 70 كيلومترا، يجمعهما الانتماء إلى الوطن وإلى تاريخه المتعدد وحضارته المتنوعة. لكن، خلال الأسبوعين الأخيرين أريد لهما أن يعيشا على وقع «خلاف» يبعد عنهما آلاف الكيلومترات. فطنجة فقدت أحد أبنائها المغاربة جراء عمل إرهابي فوق التراب البلجيكي، والمضيق رزئت، هي الأخرى، في أحد شبابها نتيجة عمل إرهابي، أيضا، فوق التراب الفرنسي. وخلال تشييع جنازة الفقيدين كان العلم المغربي حاضرا بقوة سواء في طنجة أو في المضيق، كانت الإشارة واضحة من طرف أهل الضحيتين، الانتماء لهذا الوطن لا تحول دونه مسألة التجنس بجنسية أخرى ولا الانتماء إلى مذهب. لكن، بعد انتشار خبر مقتل وأثناء جنازة الإمام المغربي عبد الله الدهدوه بطنجة غابت الدولة وغابت الحكومة، بالمقابل حضرتا بقوة خلال مقتل وتشييع المضلي عماد بن زياتن وعلى أعلى مستوى. المشهد كان قاسيا، بل قاسيا جدا، أن تغيب الدولة والحكومة عن التنديد بمقتل مواطن مغربي مهاجر وتقاطع عزاءه وجنازته، بسبب أنه مغربي مسلم شيعي. إنه لأمر محزن أن يصل المغرب إلى حد التمييز بين أبنائه على أساس اختياراتهم المذهبية، فهل بعد الذي وقع يمكن الحديث عن مغرب تسود فيه «قيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء»، كما نص على ذلك الدستور؟. ما وقع يجعلنا نخشى من الغلو الذي وصل إليه التنميط المذهبي الإيديولوجي حتى أنسانا ذاكرتنا وعمق تاريخنا وحضارتنا. ما وقع يجعلنا نتساءل حول مدى الاختراق الوهابي السلفي وكيف يراد لنا أن نعيش معارك بالوكالة، معارك وخلافات ليست ولم تكن قط ضمن أولوياتنا، لأن رحاها يدور على خطوط تماس في المشرق العربي لاعتبارات جيوسياسية وإقليمية معروفة. تاريخنا يقول إننا نحن البلد السني الذي عاشت وتلاقحت فيه عدة مكونات، أمازيغية وعربية وعبرية وإفريقية وأندلسية، شكلت مزيجا حضاريا استثنائيا. تاريخنا يقول إننا نحن البلد السني المتعدد عرفنا تشيعا رقيقا ورهيفا، على مر تاريخنا، يمكن أن نصفه بت «التشيع السني»، ولم يكن قط محط صراع أو صدام. تاريخنا يقول إن الدولة في المغرب بنت شرعيتها، مند الأدارسة مرورا بالسعديين وانتهاء بالعلويين، على الانتماء إلى آل البيت، وأن الشرفاء، وهم آل البيت، كانوا محط توقير واحترام إلى اليوم في الثقافة الشعبية. ويقول تاريخنا، أيضا، إننا البلد السني الوحيد الذي يحتفي بطقس عاشوراء دون أن يشكل ذلك أي تناقض أو صدام. اليوم، يراد لنا أن نعيش نفس التوتر الذي تعرفه الحدود السعودية والإيرانية لتهريب الخصوصية التي طبعت المغرب، لذلك لم يكن مستغربا أن يتم التمهيد والتمكين للاختراق الوهابي السلفي عبر المغالاة في التحذير، بشكل لا يتوقف، من «الاختراق الشيعي والعلماني»، كما جاء في كتابات بعض المحسوبين على المؤسسة الدينية. طبعا هذا «التحذير» سيجد من يعلي من درجته، سواء في «حركة التوحيد والإصلاح» أو باقي التيارات الأصولية. ما معنى هذا التحذير؟ أليس هدفه هو محاربة الخصوصية الدينية للمغاربة واستيراد إشكالات دينية من المشرق بدعوى «الاختراق الشيعي» والنفخ فيه بدون تدقيق، ومحاربة التيارات الحداثية والديمقراطية تحت مبرر «الاختراق العلماني»؟. ما وقع مؤخرا يجعلنا نتساءل ونساءل الدولة عن خطورة الاختراق الوهابي والسلفي للنسيج الداخلي الوطني، وهل من مصلحتنا أن تنتقل حدودنا إلى انفعالات المشرق العربي. فالأصوات التي تحذر من مكون أصيل في تاريخ المغرب وتيار عقلاني تحديثي، تفعل ذلك للتمكين لاختراق سياسي تحت غطاء ديني يستلهم إشكالات مشرقية منفعلة ومتشددة. مقاطعة الحكومة لجنازة الإمام عبد الله الدهدوه وعدم تنديدها بحادث مقتله، وهي التي اعتادت أن تواكب ما يتعرض له المهاجرون المغاربة من اعتداءات، لا يمكن قراءته سوى بكونه تصريف لنظرة مذهبية إقصائية مغالية في التشدد. ما وقع هو رد فعل إيديولوجي ديني لتيار معين لا يستقيم مع منطق الدولة الراعية للجميع، وهنا مكمن خطورته. أي خطورة أن تصبح الأصولية تمارس «ولاية الفقيه» علينا مجتمعا ودولة.