هل تشكل عملية إشهار لوائح الريع خطوة ستتجاوز مبادرة التعرية الموضوعية لمعلومات ظلت طي الكتمان الشكلي...؟ وهل ستجسد بذلك فعلا تدشين عهد الشفافية والدفع نحو الإبراز والإظهار؟ أم أنها ستبقى بمثابة بوح الذي لا حول له ولا قوة وصرخة الانبهار بثقل الموجود والصيحة المثقلة بسذاجة من لا يزال لم يفقه بعد في المنطق العام لدولة الامتيازات؟ هل ستتجسد الإرادة الثابتة في الانتهاء من آليات الاستمالة والتركيع ،والترويض على اقتناص المنافع والامتيازات واللهاث وراءها مقابل مناصرة التسلط والسكوت عن التجاوزات وتعضيد الظلم والاستبداد؟ هل ستبقى ظاهرة المأذونيات والرخص والعطايا والإكراميات والهبات والأوامر بصرف معاشات اليسر والبذخ لصيقة بنمط الحكم في المغرب، تستشري في كل أركان الأنشطة التي لها علاقات مباشرة وغير مباشرة بإنتاج القيم والثروات ...؟ هل يشكل التنديد بالريع وهو ينشر غسيل لوائحه، تأكيدا أوليا للرغبة في تجاوز تبعية الاقتصادي للسياسي بما لن يسمح مستقبلا بتزكية ذلك التوجه الدفين وتلك العادة المقيتة المترسخة لدى الدوائر العليا للسلطة في ممارسة الاقتطاعات وتكوين الثروات بالغلبة والقهر السلطوي؟ يفرض هذا النوع من التساؤلات نفسه في وقت يتميز بانتفاء ،أو على الأقل، بتليين عدد من العوارض والعقبات والمغرب والمغاربة يترقبون المؤشرات الأولى «لتنزيل» الدستور الجديد حتى يصبح الكشف والنشر نعمة وفضيلة تتلوها خطوات عملية في التعرض لمفاسد المجتمع. ولكي يكون الكشف أول قطرة في عملية التصدي لما يحس به ضعاف القوم، وهم يتجرعون غمة النهب والاستئثار والاستحواذ بغير حق، من الأنجع تناول آليات تكون بؤر الريع بالمملكة واحدة واحدة لأن الريع أصناف تختلف منابعها ومصادرها ، أرزاؤها ونوازلها، آثارها ونتائجها . ولأن متطلبات معالجتها بشكل رصين خفيفة في القول وعسيرة في الإعمال والتطبيق، سيكون من الأقوم تناول أنواع الريع ككل علنا نظفر بفهم الكيفية التي جعلت منطق تخويل الامتيازات الآلية المفضلة لحبك وإنعاش الولاءات داخل جهاز الدولة ومن خلاله إلى ثنايا المجتمع. وسننطلق من حقيقة كون إرادة منح الريع وتوزيعه، كمنة وكعطاء أو هبة من السلطة المركزية وحواشيها، على فئات ودوائر معينة، رسخت منطق السعي نحو اصطياد فرص الامتياز كمنطلق للكسب السريع وتكديس الثروة، بما أثر على المنطق العام للعمل وللمبادرة في ميدان الاقتصاد. لقد طفا على السطح فقط اختلاف عابر بين مؤيد ومتحفظ ومعارض لعملية نشر لوائح المستفيدين من رخص ومأذونيات النقل الطرقي. لكن سيكون من المنطقي مواصلة إفادة المواطنين بالمعلومات كلها حول تنوع عالم الريع وتعدد مجالاته مع تصحيح الأخطاء التي ظهرت بعد أن احتج البعض ممن وردت أسماؤهم، واضطر البعض الآخر إلى إصدار بيانات حقيقة يعلن فيها دون حجج ودون «يمين» أنه لم يتقدم بطلب ولم يستفد قط. يجب أن تظهر الحقيقة كل الحقيقة ليس فقط في النقل الطرقي، بل في كل ما يدخل في عداد ريع البر. فبعد النقل البين حضري وجب الكشف عن الكم الهائل من رخص الطاكسيات، كبراها وصغراها. لكن لا يجب أن يتم الاكتفاء بلوائح فضفاضة، بل يتعين أن يتم التحري في مصدر وقناة الترخيص لتنكشف جليا الأطراف المستفيدة في قنوات التوسط والوساطة وتحويل الرخص، كما تجلى ذلك مؤخرا لما تمت معاقبة أشخاص تجندوا لاقتناص هبات إثر جولات جلالة الملك في البلاد. إن الكشف عن مواقع الوساطة ودرجات التدخل بشكل أو بآخر هو الذي سيساعد على معالجة منزلقات الترخيص الإداري، وهو الذي سييسر تفادي ما تعاني منه اليوم الرخص الممنوحة في ميدان استغلال المعادن ومصادر المياه والغابات ومقالع الرمال ومواد البناء والرخام. فالقاعدة العامة الملازمة لسلطة منح الترخيص والإشراف عليه في سياق انعدام التعامل الديمقراطي هي كونها نشاطا تحكميا قد يمنح أو قد يمنع، ييسر أو يعطل ويماطل، وفق منطق المسايرة والولاء والتبعية... ونفس الشيء ينطبق على التعامل في الصفقات العمومية في سياق مناخ يتيح تفضيل مقاولة على أخرى ومساعدة مقاول وسد الأبواب في وجه مقاول آخر لتيسير الصفقة للمقربين أو إعدادها للجهة التي ستتفاهم وستتقاسم المكسب. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، نفس التعامل يطال ميدان الامتيازات المخولة في الخدمات العمومية، تعلق الأمر بجمع النفايات أو بالإنارة العمومية أو برخص استغلال شبكات النقل الحضري أو توزيع الكهرباء ومختلف أصناف الأشغال العمومية، محليا ومركزيا... ولا يجب أن ننسى بطبيعة الحال ذلكم الميدان الحيوي جدا والمربح جدا كذلك للتعليم. فقد أعطيت رخص في أماكن بعينها أولا ومهد ذلك لنشأة مجموعات أصبحت لها قدرات وامتدادات جغرافية في كبريات المدن، وهي اليوم تدر على أصحابها أرباحا مسترسلة بعد أن نعمت بتسهيلات وصلت إلى حد «صرف النظر» وإرجاء عمليات المراقبة والتذكير بدفاتر التحملات.. في مضمار التجهيزات الضرورية والسلامة وشروط الممارسة البيداغوجية وتكللت بسن إعفاءات جبائية عملية، معلنة أو متسترة. من مصادر الريع أيضا ما يتعلق بمنح حقوق استغلال الأراضي الفلاحية العمومية. فحتى على أساس وجود دفاتر للتحملات، بقيت المنزلقات واردة من جراء نقص أو عدم وجود مراقبة موضوعية للشروط الموضوعة أصلا، ومن حيث التباين الحاصل في ميدان الولوج إلى المعلومة إبان تحضير العروض... وفي القدرة على تقديم الطلبات ودعمها بالتوصيات والتعليمات والدسائس المسطرية...والتي أباحت لغير الفلاحين، أصلا ومفصلا، الدخول إلى عالم الفلاحة من بابه الواسع ومكنت الضالعين بمزايا التشدق بتمثيل العالم القروي في المملكة، من توسيع قاعدتهم المادية وتحديث أواصر علائقهم وإبرازها كسند يعضد حظوة الموقع السياسي بالمركز الاقتصادي المترتب عن دخول عالم الانتماء أو المساهمة في برنامج المغرب الأخضر. وقد نضيف إلى هذا وذاك ودون الدخول في التفاصيل، آليات الريع المترتبة عن ظاهرة التعمير ببلادنا. ذلك أن تطور التعمير بكل زخمه وتنوع مجالاته وأشكال ومساطر الانتفاع من تجزئاته وبقعه وقواعده وعوائده الانتخابية ونتائجه السياسية كذلك، تطور ساهم في تكوين ثروات لا حصر لها وساعد على تغيير سلم الارتقاء المادي داخل المجتمع المغربي. فمن خلال عمليات إعلان وتجهيز وتوزيع تجزئات الدولة، تكونت شبكات لتوزيع المغانم وفق منطق الحظوة والقرب والتجند والمسايرة بما جعل من السياسة السكنية والحضرية للدولة سياسة يقررها منطق الريع تحت ضغط متطلبات الانتقال الديمغرافي الذي عاشته البلاد، والذي ربط منح مختلف أنواع الاستفادة والاتجار بالمجال الحضري كنواة مؤثرة في المسار الجديد للدولة والمجتمع، بأولئك اللذين يخدمون المنطق العام للحكم الذي لا يتبرع بفضائله إلا للأوساط التي تدين بديدنه وتتعبأ لنصرته وتيسير الموالاة له. ومن هذا المنطلق لن نخطئ المسعى إذا نحن اعتبرنا أن عددا لا يستهان به من الذين استفادوا مثنى وثلاث ورباع.. في هذه التجزئة أو تلك هم من المتنفذين في الحصول على ريع، ناهيك عن أولئك الدين مكنتهم مواقعهم من الاستفادة من مختلف التجزئات ومن مسقط رأسهم إلى عاصمة المملكة الرباط، مرورا بتجزئات مراكش وأكادير. فالذي وقع هو أن الرغبة في الاستمالة والسعي نحو الإغراء والتلجيم والإرشاء، جعلت من المنح بدعة حكم ومن إكثار مناسبات وفرص الاستفادة معبرا نحو ربط أوساط متزايدة بمنطق تسيير الدولة القائم على المنن والهدايا والعطاءات السخية. ومعلوم أن مداخيل الريع الحضري شكلت وباستمرار مرتكزا للتدخل في المشهد السياسي، ومنطلقا لصنع نخبة على مقاس منطق الولاء المدفوع الأجر. وبطبيعة الحال ينضاف إلى مختلف مصادر الريع في البر ، سطحه وباطنه، ريع البحر. وفي حالة المغرب بالذات من المعروف أن استغلال خيرات البحر شكلت موضوعا لرخص عديدة تكونت عن طريقها ثروات هائلة لدوائر عليا في قربها من مراكز النفوذ والجاه. من كل هذه الأصناف ننتهي إلى القول بأن تأسيس الريع تم برعاية النظام السياسي. فهو الذي قرر هنا أو هنالك منح الامتياز وتخويل حصر الانتفاع به إلى من هم في عداد الأتباع والموالين والخدام. وهو ما سيتبين مثلا لو اهتم الباحثون بتاريخ «لكريمات» وبالتاريخ الخاص لعدد من الثروات التي تكونت في بلادنا تحت ظل الدولة وبرعاية إدارة من جهازها. وسيتبين كيف سمح النفاذ إلى مصدر الريع في هذا القطاع أو النشاط الاقتصادي للبعض بأن يصبح ثريا كفرد وكجماعة عائلية، وكيف تم تدبير الثروة بما جعلها تساهم بوتيرة ملموسة أو باهتة في إنعاش الدورة الاقتصادية بهذه المنطقة أو تلك أو بما جعلها تحجب خيرات الله عن العباد. لذلك وجب عدم نسيان ما يسمى بريع الموقع أو المكانة الاجتماعية، وهو الصنف الأعظم في مصادر الريع بل أخطرها على الإطلاق لأنه يحرك باستمرار منطق الريع ويذكي آلياته من خلال الحظوة والجاه الذي يجعل صاحبه يملي قرارات منح المأذونيات والتراخيص ولو بطرق ملتوية. فالتدخلات المتنوعة للماسكين لمواقع اجتماعية تجعلهم من منطلق فئوي وتمييزي يعبئون نفوذهم في التعيينات والتسهيلات والوساطات المدرة لمكاسب ومناصب سرعان ما تتحول إلى ريع. هكذا نعتقد بأن معرفة مكونات نظام الريع بالمغرب مدخل ضروري ومثمر لاتقاء شروره مستقبلا. فهو نظام أسس لمصالح ولكتل من الامتيازات ولسلط ، أنعشها وقواها وهو اليوم يتعهدها ويدافع عنها. فأكيد أن بؤر الانتفاع من الريع لن تستسلم إما باسم الحقوق المكتسبة و«حقوق الإنسان» حتى ،وإما باسم الحفاظ على أدوات الإنتاج وضمان المردودية والمساهمة في رفع تنافسية الاقتصاد الوطني! لذلك وجب التصدي الحازم لآليات الريع ككل من خلال العمل على تغليب منطق دولة الحق والقانون، والدفع المنهجي نحو شفافية المعاملات وربط حق الانتفاع والاستغلال الفردي والفئوي لنشاط ما بالواجبات والالتزامات نحو الجماعة من حيث تفادي الاحتكار والتسلط وتبذير الموارد والسطو على حقوق الأجيال المقبلة. وفي هذا الميدان بالضبط سينطلق أولا التجسيد الفعلي لما يسمى بتنزيل الدستور وفق تأويل ديمقراطي حتى نبعد عن المغرب مزالق خزانات الريع.