من محافظة الجيزة لشارع الهرم، بنايات وكوبريهات وأنفاق، وصوت الراديو في السيارة يستقبل آراء المستمعين في الدعوة التي أعلنت عليها حركة 6 أبريل الشبابية بالإنخراط في العصيان المدني ليوم السبت 11فبراير.. من مع ومن ضد؟ الآراء تختلف وتتنوع، وتتخللها أغاني وطنية لعلي الحجار، شيرين والأسكندراني (بلدي، الله حاميها،العيون باصة عليها، يا رب تحميها).. شارع الهرم بدأ يطل من بعيد مضيئا ومشتعل حيوية، وذلك بخلاف منطقة الجيزة، حيث تركنا الأهرام وكأنها انحنت وتقزمت، وحارسها أبو الهول وكأنه يبحث عن إخفاء رأسه خجلا لفشله في صيانة محروسته أرض الكنانة. هي حياة أخرى في شارع الهرم، لا مكان هنا للثوار، ولا مجال للعراك السياسي ولا ميدان للاحتجاج .. تغيب الأعلام والرايات المصرية، كما في كل الشوارع والحواري الأخرى، يغيب صوت الوطنية وحب البلد.. الإنارة والإضاءة في كل ركن من شارع الهرم.. الألوان البهية والملصقات الفنية، وأجساد شبه عارية لراقصات تحملهن تلك الملصقات.. في كل مداخل شارع الهرم، عن طريق الجيزة أو شارع جامعة الدول العربية أو وسط البلد حيث ميدان التحرير يعج بالمظاهرات وبالإعتصام، يستقبلك شباب يعرض عليك الانضمام لسهرة راقصة في هذا الكباريه أو ذاك: الجنيه بالربع يا بيه.. اتفضل حتنبسط معانا.. الجنيه بالربع؟ يشرح مرافقي مبتسما: تشاهد أستاذ في أفلامنا كيف يتم تشتيت الأموال فوق رأس وعلى جسد الراقصة.. في الكباريه، تشتري مثلا مائة جنيه بعشرين بشرط أن تشتت المائة على الراقصة.. بعد الثورة تأزمت الأوضاع، وتضررت سوق الشغل هنا بشارع الهرم، فلجلب الزبائن المتعودين على منح النوطة، أي الإكرامية على الراقصات، يمنح لهم الجنيه بالربع لتشجيعهم على منح الإكرامية.. تفضل نخش للكباريه لترى ما يحصل، بس إوعى تتكلم مغربي، لن تفارقك البنات هنا ولا الراقصات.. شيشة وكحول..موسيقى شعبية ومغنيات ومغنون يؤدون في قليل من الانسجام مع الفرقة الموسيقية أغنية (باحب الناس الرايقة).. وراقصة شبه عارية تتمايل بجسدها بابتسامة لا تفارق وجهها.. على الطاولة في ركن غير بعيد من خشبة العرض، اختار مرافقي الجلوس، حيث كان يجلس أحد معارفه.. كان منتشيا، يعيش في عالمه الخاص، شيشة وقنينة من النوع الأوروبي وأكل كثير.. رحب بنا بإشارة من يده، وكأنه كان يرغب في عدم تضييع تتبع أية حركة من رقصة الفتاة التي كان يحلو له أن يصفها بالحمامة الرشيقة.. تشربو حاجة؟ شاي .. أطلق ضحكة مدوية، والتفت لمرافقي : صاحبك من الإخوان؟ فأجبت متسائلا: الإخوان المسلمين؟ لتتغير نبرته وتعلو ملامحه، شيء من الجدية والحزم، استقام في جلسته، وفتح عينيه مركزا نظراته على عيني: اسمع يا صاحب صاحبي، دماغي متكيفة أوي، ونفوخي مكلفني أوي أوي.. فأرجوك، متبوزليش الأعدة دي بكلام عن الإخوان وعن الميدان.. أنا ميهمنيش غير دماغي وبس.. اللي عايز السياسة يروح للميدان.. ثم انتفض واقفا وهو يردد بصوت عال:رقصني يا جدع.. وأنا أتأمل المكان، أتجول بنظراتي لأكتشف شخوصا وكأني أعرفها وتبدو وجوهها مألوفة، هي السينما المصرية وما سطرته في ذاكرتنا ومخيلتنا، نفس الديكور، نفس المشاهد، رقص، وفلوس، خمر وشيشة، وبنات في كل مكان، وفي كل ركن وطاولة، ضحك وفرفشة.. ولا حديث عن مصر اليوم، وكأن المكان لا ينتمي مطلقا لمدينة تلبس أسود الحداد حزنا على شهداء وضحايا.. ولا حديث عن ثورة ولا عن غليان هناك على بعد مسافة ليست بالطويلة في ميدان الإعتصام و الاحتجاج.. ممنوع أي حديث هنا غير حديث الأنس والضحك والهوى والانبساط.. حتى لما صعد أحد الفكاهيين يقدم سكيتشا ويحكي نكتا، ما أن بدأ جملته، وهو يحكي نكتة عن صعيدي جاء للقاهرة يبحث عن شغل، وتوجه للميدان... حتى انتفض أحد الجالسين من الزبناء، وصاح فيه منفعلا وغاضبا: انزل يا وله، عاوز تفسد ليلتنا ليه؟ علق نادلنا، وهو يضع كأس الشاي ومعه الشيشة: دا حمار، يا ما ننصحه يتفادى أي حاجة عن الميدان، بس هو ميفهمش.. الناس عاوزة تنسى وتخسر فلوسها علشان تعيش لحظة كويسة.. لو زعلوا احنا حنروح فين؟ لا أعرف، وأنا أتابع مشاهد الكباريه الحقيقية وغير السينمائية، وجدت نفسي أتذكر الشاب عبدو سائق الطاكسي الذي هجر أهله وبلدته وغادر أسوان، ليتيه في القاهرة يجول في كل شوارعها وحواريها ليل نهار من أجل خمسمئة جنيه ( 750 درهما) في الشهر، يؤدي منها 100 جنيه واجب كراء السكن، يبعث 200 جنيه لأهله بالبلد، والباقي يعتمده لتغطية مصاريفه طيلة أيام الشهر..تذكرت كذلك الأستاذ شريف الذي يشتغل ثلاث وظائف من أجل التغلب على تكاليف الحياة، محام صباحا، منظم حفلات زوالا، وموظف استقبال فندقي مساء.. تذكرت الشاب كريم المعتصم في ميدان التحرير، الذي يحلم بمصر جديدة، بحريات وحقوق، لا يهمه الجوع في المخيم، ولا برودة الطقس، ولا سخونة عصى العساكر، ولا اضطراره الاقتراض من أجل مواصلة الاعتصام في الميدان.. تذكرت نادل مقهى (الأمل) بخان الخليلي الشيخ الذي لا يغير بذلته البيضاء المكتوب على ظهرها: أنا القائد، أنا ثورة 25يناير 2011 .. والذي يحلو له أن يحدثني كلما رآني: عبد الناصر كان رجلا شهما، السادات كان شجاعا، ومبارك حسني لم يختلف عنهما، بس للعشر سنوات الأولى من حكمه وبس.. بعد ذلك، تجبر وطغى.. غدا، سيتحدث الإعلام، في دار أخبار اليوم، ومع زملاء صحافيين، سنكتشف صاحبة الجلالة .. في قفص الاتهام.