في سياق تحليل مضاعفات الأزمة المالية العالمية، بتمظهراتها المتعددة، بما فيها تلك التي خلفها ما صار يعرف، في اللغة الاقتصادية المألوفة، بالديون السيادية، وفي باب رصد المخاطر، على مصائر البلدان والمجتمعات، التي قد تنجم بالتأكيد عن تزايد نفوذ القطاعات المالية على حساب الاقتصاد الفعلي المادي، اعتبر العديد من القادة والمفكرين الاشتراكيين من أمريكا اللاتينية، ومنهم من خبر لسنوات طوال دواليب الحكم والإدارة و التدبير، أن أخطر ما يتهدد أوضاع الأمم والشعوب، في الوضع الراهن، هو ذلك المسلسل الرهيب المرتسم في الأفق المتطور، مسسل اختلال التوازن بشكل كبير، بين المجال الذي ينظم حركية الاقتصاد وديناميته الجامحة، والمجال الذي ينظم حركية السياسة وقراراتها، مؤكدين في نفس المعنى، أن بعضا من مؤشرات هذا الاخلال الخطير، بدأت تظهر فعلا، وبصورة دورية منذ اندلاع الشرارة الأولى للأزمة المالية العاتية في كبريات المراكز الاقتصادية العالمية خريف سنة 2008. القادة والمفكرون الاشتراكيون الأمريكولاتينيين حملوا معهم هذه القناعة إلى مجلس الأممية الاشتراكية الذي انعقد بسان خوسي، عاصمة كوستاريكا يومي 23 و24 يناير الماضي, مقدمين قراءة أخرى جديدة للملابسات والأسباب العميقة للأزمة المالية وتداعياتها، غير القراءات المألوفة، التي اعتدنا سماعها من خبراء النقد ضمن نشرات الأخبار الاقتصادية في القنوات التلفزية العالمية أو في صفحات المال والأعمال في الصحف المشهورة، نموذج الفاينانشل تايمز على سبيل المثال. في القاعة الكبرى لفندق الأنتركونتنتال، أسفل الربوة المخضرة لضاحية سان خوسي الجنوبية، التي احتضنت جلسات أشغال مجلس الأممية الاشتراكية، تعاقب على منصة الخطابة قادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، من المكسيك إلى البرازيل، ومن كولومبيا الى سانطودومينغو ومن الأوروغواي الى الشيلي، بعد أن افتتحت السيدة لاورا شينشيا رئيسة كوستاريكا بخطابها الحماسي باب النقاش، ليكشفوا، في سياق تشخيص الأزمة، عن حقيقة أولية, اعتبروا أن مجريات التطور في كل المجتمعات المعاصرة، تؤكدها بكامل الوضوح والوثوقية, وتفيد هذه الحقيقة أن المدى الذي يمكن أن يصل إليه العمل السياسي من حيث الفاعلية والتأثير، وأن حجم طاقة التغيير التي قد تختزنها إرادة الفاعلين السياسيين يرتهنان - هذا الحجم وذاك المدى - بما قد تفرزه صيرورة الصراع من أجل إقرار التوازن بين قوانين السوق من جهة و بين الإجراءات والآليات التصحيحية، التعديلية، التوزيعية التي هي من صميم العمل السياسي من جهة ثانية. القادة الأمريكولاتينيين أكدوا في نفس السياق أن النتائج التي قد تتمخض عن صيرورة الصراع تلك, تتوقف بدرجة أولية وأساسية على نوعية الخيارات التي يسلكها الفاعلون السياسيون، وذلك وفق مرجعياتهم وميولاتهم الاجتماعية، وأن مسؤولية القوى الاشتراكية الديموقراطية في هذا الباب حاسمة حتى لا تتحول السياسة، الى مجرد "»لعبة لتسويغ الآثار المدمرة لقوانين السوق العمياء"« على حد تعبير أحد أعضاء الوفد الأرجنتيني إلى مجلس الأممية. وبالصراحة السياسية التلقائية المعهودة في الأمريكولاتينيين عموما،صراحة تلمسها من تقاسيم الوجوه، وأنت تستمع إليهم، ومن ثنايا لغة يسابق فيها المعنى والمقصود كل الاحترازات، فقد نبهوا من على منصة الخطابة من مغبة السقوط في شرك التردد عندما يتعلق الأمر بنوعية الاختيارات المطلوبة، وذلك في إشارة واضحة الى ترددات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الأوربية، والتي كثيرا ما سلك قادتها، في موضوع تدبير الأزمة، طرقا ومسالك، لم تكن دائما، بحسب تعبير أحد أعضاء وفد الحزب الاشتراكي الفنزويلي »"مفهومة على ضوء المبادئ المرجعية للاشتراكية الديمقراطية«" بدا السيد باباندريو، رئيس الأممية الاشتراكية الذي ترأس أشغال مجلس سان خوسي، مستغرقا بالكامل في الاستماع للتحليلات والتشخيصات التي كان يقدمها تباعا مندوبو الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأمريكولاتينية، لم يبرح كرسي رئاسة الجلسة الطويلة التي فاقت 4 ساعات متصلة، التي استغرقتها مناقشة الورقة المركزية والمعنونة ب" »الاقتصاد العالمي, السوق والديموقراطية العدالة البيئية«" Economia mundial. mercado y democracia. Justicia climaticau: بدا الرجل، وهو يتابع تلك الكلمات الحاملة لحرارة القناعات، والمفعمة بعاطفة إنسانية فياضة صارت اليوم قليلة الظهور في لغة سياسية إعلامية غزتها البرودة التكنوقراطية - بدا كمن يستمع إلى أفكار جديدة لم يألفها إطلاقا خلال لقاءاته وتنقلاته في المؤتمرات والمنتديات والمؤسسات الأوربية من لدن أصدقائه الأوربيين، ضمن عائلته السياسية، حينما كان رئيسا لحكومة بلده، بدا الرجل كمن يكتشف لتوه أن هنالك حقا بدائل واسعة ممكنة لما ظل أصدقاؤه الأوربيين يقترحونه عليه بغلاظة وصلف حينما واجه ملف تداعيات الأزمة المالية في بلده قبل أن تضطره الظروف والملابسات المعقدة إلى تقدم الاستقالة. تذكرت وأنا أتابع كلمات قادة الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية الأمريكولاتينية الحاملة لتحذيرات رفاقية من السقوط في غواية التردد في اتخاذ المواقف الصحيحة قصة السير كودوين الرئيس السابق للروايال بانك أوف سكوتلاند، وهو واحد من أكبر الأبناك الانجليزية والعالمية, لقد سلك السير كودوين سلوكاً مضارباتياً خطيراً ,بأن سمح للمتصرفين تحت إمرته وشجعهم على بيع وترويج منتوجات ومشتقات بنكية ائتمانية لم يكن حتى هؤلاء المتصرفون أنفسهم قادرين على تفسيرها لجمهور المشترين، كما لاحظ ذلك، بنوع من التندر، وزير المالية البريطاني الحالي جورج أوسبورن (وهو بالمناسبة محافظ) خلال مؤتمر حزبه الأخير. لقد قاد السير كودوين الروايال بانك أوف سكوتلاندا إلى حافة الإفلاس واستدعى الأمر، إنقاذه بالبايل آوت Bail out وهي نوع من إعادة الرسملة تحمل عبء تكاليفها دافعو الضرائب من مختلف الشرائح الاجتماعية، ثم بعد ذلك ترك هذا البنكي المضارب منصبه ومكتبه لغيره في حي السيتي، بعد أن أخذ تعويضاً بملايين الباوندات (الجنيهات الاسترلينية) مخلفاً وراءه زوبعة إعلامية لم تتوقف لحد الآن، وتعبيرات إدانة عارمة جعلت صحيفة الدايلي تلغراف وقتها تتساءل بنوع من التحسر عن نوعية الخدمات التي أداها هذا البنكي الجشع Greedy BANKER ليستحق لقب "»السير"«, والأمر الذي دفع، كذلك أعضاء حكومة براون وأعضاء مجلس العموم المحافظين إلى "»تقطير الشمع«" بصفة بعدية، على حكومة براون حينما أثير الموضوع خلال جلسات الأسئلة الشفوية بالبرلمان، اعتباراً لكون الخراب المالي والاقتصادي الذي مارسه السير كودوين، والتعويضات السخية التي تلقاها قبل مغادرته لمنصبه حدثت على عهد حكومة براون العمالية!! بل الأكثر من ذلك، فإن حكومة كامرون المحافظة فكرت في أن تقدم لمجلس العموم البريطاني، فيما يشبه حركة انقلاب في الأدوار والمواقع الايديولوجية، مشروع قانون يسمح علي خلفية واقعة السير كودوين بتحريك مسطرة المتابعة، في حق مدراء الأبناك الكبار الذين قد يتصرفون في المستقبل بشكل يؤدي إلى إلحاق أضرار فادحة بالاقتصاد القومي. وكانت تحذيرات القادة الاشتراكيين الأمريكولاتينيين من السقوط في غواية التردد بين اتخاذ القرار السياسي المناسب أو إخضاع السياسة لسلطة المال، تحذيرات في محلها، كما توضح ذلك سابقة تعامل العماليين تجاه السير كودوين. جالت بذاكرتي كذلك وأنا أستحضر مضمون تلك التحذيرات, كلام ذلك الشاب اليوناني ضمن جموع المتظاهرين قبالة مقر البرلمان في أثينا، وهو يجيب مستجوبه من مراسلي إحدى القنوات الفرنسية بخصوص ما يطرحه المتظاهرون من بدائل لسياسات التقشف، وفيما إذا كان البديل الذي يقترحونه، عن شروط التقشف الواردة في دفتر تحملات صناع القرار في منطقة اليورو، وفي مقدمتهم المستشارة الألمانية ميركل, فيما إذا كان البديل هو القبول بإفلاس البلد، حيث رد ذلك الشاب بثقة واعتدال، وبتلقائية بريئة، ليس قدراً محتوماً أن تخضع السياسة وأن يخضع السياسيون لهيمنة المال بهذه الصورة المذلة، وليس قدراً محتوماً ولا هو قانون طبيعي أن نختار إما الإفلاس وإما اجراءات تقشق مهينة. هناك بدون شك مسالك أخرى وبدائل أخرى. وكانت تحذيرات القادة الاشتراكيين من مغبة ترك الحبل على الغارب في موضوع العلاقة بين المال والسياسة, تجيب بشكل مباشر على ما يخالج صدر ذلك الشاب اليوناني المتظاهر قبالة البرلمان اليوناني من مشاعر وأحاسيس. تحليل إشكالية التوازن المطلوب بين قوانين السوق والدور التصحيحي للسياسة، والتحذير من هيمنة المال على السياسة ومخاطر تقزيمه لها وصلا ذروتهما في الخطابين المؤثرين اللذين ألقاهما كل من الرئيس السابق لكوستاريكا الحائز على جائزة نوبل للسلام لقاء جهوده على هذا الصعيد من أمريكا الوسطى السيد أوسكار أرياس سانشيز, ومرشح الرئاسة السابق في گواتيمالا السيد ألفارو كولومب كاباييروس. خطاب آرياس كان درساً بليغاً، مبنى ومعنى، في حاجة الاشتراكيين الديمقراطيين اليوم الى استيعاب هذه الحقيقة الأولية التي تقول إنه كلما غابت إرادة الفعل السياسي تفوق نزوع السوق إلى تكسير كل الحواجز والضمانات، وأنه كلما تم إرجاء البت في الاختيارات من طرف السياسيين، كلما أسلمت السياسة لقوى عشوائية عمياء. وفي نوع من الدعوة إلى تقديم نوع من النقد الذاتي من طرف الاشتراكيين الأمريكولاتينيين ذكر السيد آرياس أن هذه المنطقة تعودت أن تترك المهام الصعبة" »للحكومة المقبلة أو للجيل المقبل أو للقرن المقبل«"، وأن أهم مكسب حققته كوستاريكا خلال السنوات الأخيرة أنها قطعت مع هذا الإرجاء المستمر للمهام مقررة العمل. وبخصوص المضامين العميقة للديمقراطية الاجتماعية، هوية الاشتراكيين، ذكر آرياس استناداً إلى مقولة مأثورة عن الروائي الكبير أوكتافيو باس، أن الديمقراطية في منطقتنا (يقصد أمريكا اللاتينية) هي بمثابة شجرة لا نريدها أن تلقي الأوراق فوق الأرض لإقناعنا بأنها معطاء، بل نريدها أن تزيد من مد الجذور تحت الأرض، منبها إلى أن الوظيفة الأساسية، والمهمة المركزية لأية حكومة اشتراكية ديمقراطية هو إعطاء مضمون اقتصادي، سياسي، وبصفة خاصة اجتماعي للديمقراطية. وكانت عبارات آرياس وكلماته المنتقاة بعناية، شديدة الإيحاء والترميز، تذكر الحاضرين في المجلس من العائلة الاشتراكية الديمقراطية الدولية بواجبهم الأول في ربط اختيار الالتزام السياسي بالاختيار الاقتصادي والاجتماعي الصحيح والواضح وعدم السقوط في حبال الفكر الوحيد أو الاختباء وراء التوافقات المائعة. خطاب السيد ألفارو كولومب كاباييروس، مرشح الرئاسة السابق في غواتيمالا، الذي فضل التدخل من مكانه ضمن الجانب المخصص لوفد حزبه، والذي كان بجوار وفدنا، حمل تدقيقاً إضافيا وضافيا لعلاقة التحديد المتبادلة بين اختيار قوانين السوق تفعل فعلها بدون ضوابط وحدود، وبين ترك سياسة الحبل على الغارب لكارتيلات المخدرات المافيوزية، في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، حيث اعتبر المسألتان وجهان لعملة واحدة، مفصلا القول في حاجة الاشتراكيين الديمقراطيين الى منع تحول الاقتصاد السياسي الى اقتصاد سياسي غير أخلاقي. جلسات النقاش الغنية والطويلة التي أعقبت تقديم الورقة الرئيسية في موضوع الأزمة المالية، السوق والديمقراطية، أبرزت أن هناك خطا فاصلا صار يميز اليوم تصورات الحلول للأزمة المالية وتداعياتها الاجتماعية الأكثر منظورية، فهناك من جهة، طرق المعالجة التي تعتبر خفض العجز بالاقتطاعات الكبيرة والسريعة أولوية الأولويات، فيما نجد في التصورات المقابلة طرق معالجة بديلة تنطلق من نتائج وتداعيات الأزمة ذاتها، وترى أن أضمن الطرق للخروج من الأزمة هو دعم النمو في الاقتصاد الفعلي ودعم التشغيل. وهكذا ففيما تنفد كلمتا "»الاقتطاع«" ,"الخفض" برامج الحلول ضمن التصور الأمل، تتموقع كلمتا العمل التضبيط Regulation في صدارة الاهتمام ضمن التصور الثاني، الاشتراكي الديمقراطي. الاشتراكيون الأمريكولاتينيين، فيما ظهر من أشغال الأممية بسان خوسي لم ينتظروا نزول الشباب العاطل ولا جموع المحتجين على السياسات التقشفية المهينة التي صارت كل زاد اليمين، على نحو ما يحدث في أوربا اليوم في الساحات والميادين في كبريات مدن اسبانيا وفرنسا واليونان وإيطاليا - لم ينتظروا حدوث ذلك للاقتناع بتغيير المسار وتبني بدائل أكثر تساوقا مع الهوية الاشتراكية الديمقراطية، مثل ما حدث لرفاقهم الأوربيين، بل ظلوا متشبثين بقوة بالنواة الصلبة للمرجعية التي شكلت، حتى في أحلك الظروف، مصدر قربهم من طبقات الشعب العريضة، دون تردد أو ردة أو اهتزاز في القناعات على شاكلة ما سجل في البلدان الأوربية خلال العقدين الماضيين. ومن تنايا خطاب »ارياس، الرئيس السابق لكوستاريكا الحائز على جائزة نوبل للسلام في اليوم الثاني من جلسات الأممية الاشتراكية في اليوم الثاني من جلسات أشغال مجلس سان خوسي (سنقدمه مترجما لاحقا)، كانت تبرز بوضوح و بدون مواربة تلك الحقيقة التي تقول: - إن إنكار قوانين السوق بالمرة، وتغليب الارادوية السياسية- الايديولوجية بسذاجة وبالكامل أدى في الماضي طيلة ستة عقود من الزمن، ضمن تجارب التسيير المركزي البيروقراطي إلى توطد الأنظمة الشمولية البيروقراطية التي بدأت بانكار قيمة الفرد - المواطن وانتهت بمصادرة حقوق المجتمع. وتغليب قوانين السوق بلا حدود مع تسليم مقاليد القيادة لسلطة المال على نحو ما حدث بتبعاته المعروفة، يؤدى الى تقزيم السياسة، أو تلجيمها في أقل الأحوال، وتحويل الفاعلين السياسيين، تبعا لذلك إلى مجرد وسطاء يستجدون سماحة أوساط المال والأعمال، حفاظا على الموقع والوظيفة. وبشكل ما, فإن الاشتراكيين الأمريكولاتينين وهم يذكرون رفاقهم بهذه الحقيقة، هم الذين خبروا في بلدانهم كل أشكال الأزمات الاجتماعية، وكل أنواع الحماقات الإيديولوجية - بتعبير أرياس - ثم وهم يحذروننا من مخاطر هيمنة المال على السياسة، إنما ينبهون الجميع بصدق، إلى تلافي الانزلاقات والغوايات النيولبرالية، التي كثيرا أفقدت بوصلة الطريق للعديد من الاشتراكيين خلال مراحل التسيير. وبشكل ما كذلك, فإن مجلس سان خوسي ,كان فرصة للإفاقة من الدوخة كما كانت تعبر عن ذلك الإيماءات... الليل، والمطروالوحل ومجموعة صغيرة من الظلال البشرية تتحرك مجتمعة تحت ثقل ما تحمله, أنهار من المطر وحقول من الوحل، تجتاز حائطا، ثم وحل أكثر إلى درجة أنه يمتص الأرجل. حائط آخر, الظلال البشرية تتسلل بين البساتين والضيعات المعزولة تنزلق بعد تخطي قناة، تتعثر لكنها لا تخون السكون، بالكاد توقظ كلبا، كل ظل يحمل ما يستطيع على ظهره، الدقيق، حليب الأطفال, أدوية. ملحمة نمل لتموين حمص، أو بالأحرى بابا عمرو آخر حي مازال خارج سيطرة القوات النظامية. رمز رموز الانتفاضة السورية المحاصر منذ أشهر والذي يتعرض لقصف منذ أكثر من 15 يوما من طلوع الشمس إلى غروبها دون توقف. هذا المسلك من الوحل الكثيف الذي يتسلل بين مراكز الجيش، هو الطريق الوحيد الممكن للوصول إلى بابا عمرو. الرابط الوحيد مع العالم الخارجي. بعد البادية هناك الممر السري - لا نستطيع الكشف عن مكانه، مخافة أن تدمره القوات السورية كما فعلت مع ممر قبله - قناة تحت الأرض على طوال 4 كلم. بمجرد الدخول الى حمص، يأخذ أفراد الجيش السوري الحر، وأغلبهم شبان متوترون، المؤونة ويتكلفون بتوزيعها .سياراتهم تزمجر، تم تنطلق بسرعة في الليل دون أضواء، ورغم الليل الحالك يتم اكتشافها وتتبعها, زخات رصاص القناصة المتربصين، إلى أن تصل إلى طلائع البنايات المدمرة التي توفر ملاذا غير مضمون. بعد ذلك هناك الأزقة التي توجد تحت رحمة القناصة وتلك التي لا يسيطرون عليها، في هذه الأخيرة يمكن اشعال أضواء السيارة والسياقة بسرعة أقل. وفي الشوارع الأخرى الحياة من اليانصيب. عندما تنظر إلى المدينة، تعتقد أنها لم تعد تتنفس, الأزقة استسلمت للأزبال والدمار، لا أحد يسير باستثناء بضعة مقاتلين أو طبيب يجري متحديا رصاص القناصة. عازم على العودة إلى منزله لطمأنة ذويه. في الليل بعض السيارات تغامر بالسير في الشوارع المدمرة بحثاً عن طعام في أحياء أخرى، مازالت لم تسقط كليا في أيدي قوات الجيش السوري، أضواء قليلة، منها أضواء المركز الصغير للصحافة الذي نسفته القنابل في اليوم السابق و قتلت صحفيين غربيين، كانا في الطابق السفلي لبناية من ثلاثة طوابق، الطابق الثالث دمرته في وقت سابق قذيفة، سكان البناية، عائلة أبو عمر، سائق الطاكسي، رحلت الى منزل صغير مجاور. بعد أيام، يوم 9 فبراير، ضربت قذيفة أخرى المنزل الصغير، قتلت زوجة السائق وابنته وطفلة أخرى استضافوها »قتلوا وهم نيام. في تلك اللحظة، كنت خارجاً أبحث عن العطام, لذلك نجوت من الموت«، يقول أبو عمر الذي يحكي بالإشارات كل أساليب التعذيب التي يتمنى ممارستها على بشار الأسد، لم يتبق سوى أطلال من البيت الصغير. غير بعيد، هناك عمارة أخرى، اعتقدنا أنها خالية، لكن اكتشفنا أن عائلة بأكملها تختبىء هناك. حميدة، 30 سنة تعيش مع ستة أطفال، أطفالها وأطفال أفراد من عائلتها ، وبسبب الخوف، هرب الحليب من ثدييهاالذي تغذي به رضيعها في شهره السادس عشر، »لا أعرف كيف أشغل الأطفال الآخرين. يبكون، يصيحون، إنهم مرعوبون، حتى صغار السن بينهم غاضبون يسألون لماذا يفعلون بنا هكذا. نحس أن المجتمع الدولي تخلى عنا، ولكن هؤلاء الأطفال ليسوا إرهابيين!« ديانا طفلة في الثامنة من عمرها تتدخل:» »أنا، أخاف كثيراً من بشار الأسد«« العائلة فقدت أحمد 16 سنة, قتل وهو خارج للبحث عن الطعام. مركز الصحافة الصغير وهو في الواقع غرفة واحدة يعمل ويأكل وينام داخلها جنباً إلى جنب السوريون والصحفيون الأجانب القلائل الذين يمرون من هنا. الغرفة يسيرها بيد من حديد أبو حنين، المهددة حياته بشكل خاص، قرر القيام بواجب الإخبار حتى النهاية. يبذل كل ما في وسعه لتوفير البنزين قصد تشغيل مولد الكهرباء، وبالتالي توفير إمكانية الولوج إلى الأنترنيت وإمكانية مشاهدة التلفزيون. على قناة الجزيرة، يمكن مشاهدة الممثلين يناقشون في الأممالمتحدة الملف السوري وإمكانية إصدار قرار، يعلق بانجليزية سليمة »»هيا أيها السادة، ناقشوا، ناقشوا... لكي تصلوا إلى لاشيء» وفي هذا الوقت، تتواصل المجزرة, اليوم، يوم جميل، لقد سقطت عشرات القدائف«. منذ 10 أشهر، يقوم أبو حنين بالإخبار بأي ثمن. ولهذا الغرض جمع حوالي 10 صحفيين نشيطين ينجزون فيديوهات حول حصار حي باب عمرو، أحدهم عاد للتو: »استهدفني رصاص قناص قرب المسجد« يقولها بلامبالاة، كما لو أنه يتحدث عن نزول المطر، لا أحد يهتم بما يقول. مرة أخرى، أبو حنين هو من قبل مرافقة الصحفيين العابرين في زيارة للأزقة القليلة التي مازالت بها مظاهر حياة: مراكز الإسعافات الأولية والتموين، أماكن تحت الأرض يُصنع بها الخبر، حيث تتكدس أكثر من 300 امرأة وطفل... يعرف كيف يتوقع حسب ساعات النهار طوفان القذائف، وإمكانية المغامرة بالتحرك هنا أو هناك.. على متن سيارته، نكتشف رجلا آخر, في الأزقة الأقل عرضة يركز كثيرا وهو يقود ببطء، تم فجأة يرمي بسيارته في عاصفة الصلب، يقطع الأزقة والشوارع المحفرة والغارقة في الوحل بسرعة لا تصدق. يرتمي بالسيارة في برك الماء الواسعة دون أن تظهر عليه علامات النرفزة. هوليس البطل العادي الوحيد, أحد سكان الحي واسمه أبوزيد, تقني عمره 47 سنة وملامحه تقول أن عمره 70 سنة. يضع قبعة تزحلق على الجليد تغطي رأسه حتى الحاجبين، يلبس معطفا من الجلد، بلحية أنيقة رغم الظروف, يقوم بعمليات ذهاب وإياب لا تتوقف عبر خطوط الجيش لتموين السكان. في كل مرة يجلب كيسا وزنه 70 إلى 80 كلغ، في الغالب يجلب أكياس الدم للجرحى وأدوية وحليب للأطفال. يضع ما يجلبه على دراجة نارية صينية الصنع، يتنقل بها في هدوء، عبر أزقة ملتوية تمكن من الاقتراب من حمص. ثم يخبئ الدراجة، يحمل الكيس الثقيل على كتفه، وتحت جنح الظلام، يدخل المدينة المحاصرة، يحكي» »أسير على الأقدام مسافة حوالي كلم واحد, أنتبه للمدارس المملوءة بالجنود, ثم أصل الى الخندق الأول الذي حفره الجنود والذي يصل عرضه أربعة أمتار وعمقه متران، بعد ذلك أقطع الطريق، ثم الخندق الثاني شبيه بالأول««. هذا الأب لثلاثة أولاد، من بينهم طفلة يقول عنها أنها »»أثمن شيء في حياتي«« لا يعي حقا أنه ينجز يوميا عملا بطوليا، يتساءل فقط» »إذا لم نقم بمثل هذه الأعمال، من غيرنا سيعتني بأطفالنا؟»« ببعض من الدعابة قبل استئناف مهمته، يضحك قائلا» »عندما ستنتهي ثورتنا، سآتي لأساعدكم على ثورتكم، سآتي بدراجتي الصغيرة، لكنها لن تكون صينية«« في إحالة ساخرة على موقف بكين المساند للأسد. بطل آخر، الدكتور محمد محمد، طبيب عسكري سابق، فر من الجيش في دجنبر الماضي,هوالمهني الحقيقي الوحيد في مركز الاسعافات الأولية، بعد أن وضع عائلته في مكان آمن خارج البلاد ,جاء خصيصا من شمال البلاد إلى جحيم حمص ليتقاسم مصير سكانها. بملقط ينزع بقوة شظية قذيفة من عين جريح توفي نتيجة غياب المعدات الملائمة، والطريقة الوحيدة لتجاوز التوتر الناجم عن هذا العجز، يبدأ في الصراخ وسب النظام بعنف لا يصدق. أمام الكاميرا، بمركز الصحافة، يقول بنرفزة و توتر» »أن ترى الناس يموتون دون أن تستطيع فعل شيء بينما بالإمكان انقاذهم، هذا أفظع شيء يمكن أن يقع لطبيب، قبل مدة ,مات رجل بعد يومين من المعاناة بسبب شظية قذيفة استقرت في الرأس«. بالنسبة لأبو حنين المسؤول عن المركز الصحفي، «ما يتمناه النظام ليس الإستيلاء على المدينة, بل ليجعل منها عبرة .حمص» لا يدافع عنها سوى بضع مئات من المقاتلين. وبإمكان بشار، بذباباته وآلاف جنوده أن يستولي عليها متى أراد. لا، ما يريده أولا هو معاقبتها وتدمير باب عمرو يعني تدمير قلب الثورة«« قصف الحي كثيف إلى درجة أن الهدوء نادر, ومع ذلك بين غارتين من القذائف,يسمع صوت الديكة المميز والفريد, الوحيد الذي يذكر بأن الحياة لم تستسلم في المدينة المحتضرة، ومصرة على الاستمرار مهما كلف الثمن. عن ليبراسيون