على يمين المدخل العام للقاعة الكبرى للمعرض الدولي للنشر والكتاب، كانت صورة الراحل محمد البردوزي منتصبة، كما لو تدعوا إلى لحظة للتأمل الهادئ الرصين، على عادة الراحل الذي خبر الفكر والسياسة معا في حياته. خاصة وأن موضوع اللقاء في ذلك المساء البارد جدا ليوم الجمعة الماضي، ساخن وحام وغير بسيط. كونه من أسئلة اللحظة العربية بامتياز، التي ميزتها الحراك العربي الذي يخلقه جيل جديد من العرب من أجل التغيير السياسي السلمي الشعبي الجماهيري، الذي يوسم ب "الثورة". كان الجو في المعرض الدولي لا يزال جو بدايات، وكان الحضور الجماهيري كثيفا، على عادة جمهور الكتاب، الذين يتسابقون في اليوم الأول لافتتاح المعرض للعموم إلى اقتناص آخر الإصدارات قبل أن تختفي من الرفوف. لهذا كانت كثافة الحضور، التي زادتها العطلة الفصلية الأولى للتعليم بكل أسلاكه قوة، ما جعل ذلك المساء البيضاوي عند شط المحيط، لحظة للشغف بالكتاب وبالفكر معا. بدليل حجم الحضور الذي ظل ينصت بقاعة الراحل البردوزي لسؤال الفكر حول موضوعة "الثقافي في التحولات السياسية والإجتماعية في العالم العربي". وهو الإنصات الذي لم تخدله قيمة المداخلات التي اعتبرت، أن التحولات السياسية والإجتماعية الجديدة في عالمنا العربي، هي نتاج ثقافة كونية للتواصل، ساهمت في خلق شكل جديد للفرد العربي. مثلما أن دور المؤسسات التعليمية (خاصة الجامعة) قد كان لها دور في رسم ملامح هذه التحولات كونها ظلت منتجة على مدى سنوات لرؤية نقدية للواقع على كافة مستويات المعرفة وإنتاج الأفكار. كما أن ما أفرزه الواقع من أشكال إقصاء ومن أشكال استبداد قد أنضج ثقافة الإحتجاج، التي لم تأتي من فراغ، بل وجدت نفسها أمام آليات تنظيمية أبدعتها أجيال جديدة من الشباب العربي، وتفاعلت معها تيارات ساسية كانت كامنة ومنظمة ومقموعة، مما وهب لنا ثقافة جديدة للإحتجاج في عالمنا العربي. وهي الثقافة التي أصبحت مرجعا في العالم ومنحت للعربي سمة مميزة ضمن سجل الثورات في تاريخ البشرية. وإذا كانت بعض المداخلات قد بقيت في مستوى التحليل السياسي الصرف، بسبب من مرجعية التكوين والفعل المؤطرة لأصحابها، فإن قيمة مداخلات أخرى كانت في نزوعها إلى قراءة لحظة التحولات السياسية والإجتماعية من موقع التحليل العلمي، لكنها ظلت ملاحظات أكثر منها تحليلا متكاملا للحظة، من خلال الرؤية للثقافي في تلك التحولات. وكما أجمعت كل المداخلات، فإن مكمن الصعوبة في موضوع شائك وحيوي مثل موضوع "الثقافي في التحولات السياسية والإجتماعية في العالم العربي" آت من طبيعة التحليل الفكري والعلمي، الذي يتطلب مسافة في الزمن تسمح بتفكيك كل متعالقات الواقعة بعيدا عن صخب وحيوية لحظتها الآنية، وهو الأمر الذي لا يزال غير متحقق في الآني العربي اليوم، خاصة وأن طراوة الفعل لا تزال متواصلة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والمغرب والعراق والبحرين والأردن. مثلما أن كل أشكال التواصل العمومية المنتجة للقيم اليومية والموجهة للرأي العام لا تزال تنتج أشكال فعل ثقافية سلوكية حامية وطازجة تستوجب الكثير من المسافة لفك ألغازها وآليات اشتغالها. وذلك كان الرأي المشترك الأكبر بين نوري الجراح من سورية (كانت كلمته جد بليغة ومؤثرة) وحسن داوود من لبنان (بعادته في المقاربة الهادئة الرصينة) وعبد الغني أبو العزم من المغرب (بذات حيويته في الفعل السياسي والتأمل الفكري) ومحمد الأصفر من ليبيا (الذي كانت مداخلته شهادة مفعمة بالإنساني وبتفاصيل التحدي الذي يواجه الليبيين اليوم في بناء الدولة الجديدة). بينما سجل غياب أسماء مغربية أخرى كان منتظرا حضورها بمرجعياتها الإجتماعية ومسؤولياتها السياسية (محمد الناجي، محمد يتيم وامحمد كرين). وكان للدور التنسيقي للاستاذ عبد الحميد عقار أثر في الرفع من أسئلة المعرفي أكثر من السياسي في موضوعة شائكة مثل موضوعة "الثقافي في التحولات السياسية والإجتماعية في العالم العربي". على أن أكبر ربح ربحته هذه الدورة هو مصالحة المثقفين وجمهور محبي الكتاب والفكر مع المعرض الدولي للكتاب بعد الخصومة التي ميزت الدورتين الأخيرتين.