لا بد من الاعتراف أولا أن كرة القدم المغربية حاولت في أكثر من مناسبة تجريب وصفة الاحتراف، لكنها لم تنجح لأسباب فيها الذاتي والموضوعي. وقد سميت هذه المحاولات مرة بما قبل الاحتراف، ومرة باللاهواية، خصوصا بعد الذي حدث بعد مشاركة المنتخب المغربي في نهائيات كأس العالم، التي جرت بأمريكا في 1994 على عهد الرئيس الجنرال حسني بن سليمان. كما لا بد أن نذكر أن دخول المال العمومي لعالم الكرة حدث قبل الآن بسنوات. وهو ما اصطلح عليه وقتها بالاحتضان، حيث استفادت جل الفرق المغربية من دعم مالي كبير كان يصرف لها من قبل مؤسسات عمومية أو شبه عمومية. وقد لعبت العلاقات الخاصة دورا كبيرا في هذا المجال، حيث سجلنا مثلا أن فريق النهضة السطاتية استفاد من احتضان الخطوط الملكية المغربية، على الرغم من أن سطات لم تكن تتوفر على مطار، فقط لأنها وجدت في وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري كل الدعم، الذي طار اليوم وتقهقر فريق النهضة إلى الحضيض. كما أن فريق الكوكب المراكشي استفاد من احتضان مؤسسة «كوماناف» على الرغم من أن مراكش بدون بحر، فقط لأنها وجدت في رئيسها الحاج محمد المديوري كل الدعم، باعتباره الحارس الخاص للملك الراحل الحسن الثاني. وهكذا وزعت الأموال العمومية هنا وهناك بدون ضوابط ولا دفاتر تحملات. والحصيلة هي أن أموال الاحتضان لم تغير من واقع الحال، ولم تحمل كرة القدم المغربية إلى ما راهنت عليه وظلت على حالها في الهواية. اليوم كانت جامعة الكرة مضطرة للرضوخ لتوجهات الاتحاد الدولي للعبة «فيفا»، الذي هدد بمنع الفرق المغربية من المشاركات الدولية إذا ظلت كرة القدم تعيش الهواية. ولعل هذا هو أقوى مبرر دفعها لإعلان نوايا الاحتراف، الذي يبدو أنه يراوح مكانه. لم تغير البطولة المغربية في كرة القدم الكثير من علاماتها، على الرغم من أنها دخلت هذا الموسم تجربة الاحتراف وأضحت تسمى بالبطولة الاحترافية «برو». وبعد أن أسدل ستار الشطر الأول منها بإجراء خمس عشرة مباراة، عشنا الكثير من صور المواسم السابقة، ما جعل الكثيرين يطرحون السؤال عن هذا الذي جاء به الاحتراف الذي انتظرناه طويلا. لقد استمرت الاحتجاجات حول التحكيم، الذي ارتكب في بعض المباريات مجازر اعترف بها جل المتدخلين في اللعبة. ولم يعد الكثيرون يفهمون سر البرمجة التي اختارت أحيانا أن تجري مباريات الجولة الواحدة خلال ستة أيام، ولا سر التوقيت الذي قد يكون زوالا أو مساء أو في ساعة متأخرة من الليل. لذلك اشتكت الفرق من هذه البرمجة الغريبة دون أن يسمع صوتها. وتوالت صور الشغب سواء خلال إجراء المباريات أو في المدرجات أو خارج الملاعب، لدرجة كدنا معها ننسى قانونا أطلق عليه شغب الملاعب الذي لم يفعل بعد. وقد عشنا في الأسابيع القليلة الماضية أحداثا غريبة، كان في مقدمتها ما عرفه الملعب الشرفي لمكناس، حينما التقى النادي المحلي بضيفه المغرب الفاسي، أو ما عرفه ملعب العبدي بالجديدة، وما خلفته مباراة الديربي التي جمعت بين الوداد والرجاء البيضاويين. والحصيلة هي أنه مباشرة بعد نهاية كل أسبوع لا بد أن نعود لإحصاء ضحايا الشغب ومخلفاته. تقنيا، لم يضف الاحتراف الشيء الكثير. فالمباريات ظلت في مجملها باردة، ونسبة الأهداف تقل ولا يحدث العكس إلا استثناء، وجل المدربين يفضلون اتخاذ ما يكفي من الحيطة والحذر خوفا على مستقبلهم المهني، لذلك يحكمون قبضة الدفاع وينتظرون أن تجود عليهم بعض المرتدات بتسجيل أهداف. لذلك عاش جمهور الكرة على صيام متكرر في التسجيل وفي الأهداف التي هي ملح الكرة. ولعل هذا هو ما يفسر توالي إقالات عدد من المدربين خلال الشطر الأول من البطولة الاحترافية، حيث غيرت فرق أولمبيك خريبكة والوداد والجيش الملكي وحسنية أكادير مدربيها. ولا تستبعد فرق أخرى اللجوء لهذا الخيار حتى قبل أن تنطلق منافسات الجولة الثانية من البطولة الاحترافية. لقد اختارت جامعة الكرة أن تقطع مسار البطولة لمدة شهر كامل، يعتبره البعض ضروريا في ما يشبه العطلة التي يستفيد منها اللاعبون الذين لم يتوقفوا عن الممارسة منذ الصيف الماضي، فيما يرى البعض الآخر أن المدة التي حددت في شهر كامل قد تعيق انطلاقتهم الجيدة، خصوصا تلك الفرق التي حققت نتائج جيدة خلال الشطر الأول. جامعة الكرة تعتبر هذا التوقف الشتوي ضروريا لأكثر من سبب. فقد راهنت على انطلاق دوري الأمل في نسخته الثانية، والذي تشارك فيه فرق القسم الأول والثاني بلاعبين تقل أعمارهم عن العشرين سنة، ويجب ألا يقل عددهم عن الخمسة. كما تركت لجمهور الكرة متابعة منافسات كأس أمم إفريقيا التي انطلقت في 21 من الشهر الجاري وتمتد إلى 12 من فبراير، في ضيافة كل من الغابون وغينيا الإستوائية. لكل هذه الاعتبارات اختارت جامعة الكرة لأول مرة أن توقف البطولة كل هذه المدة، التي يمكن أن تمنح الفرق متنفسا لإعادة بناء ذاتها في أفق الرقي بالمستوى العام الذي تنتظره جماهير اللعبة، وينتظره المتتبعون للبطولة الاحترافية «برو» في نسختها الأولى. كشف الشطر الأول من هذه البطولة الاحترافية عن فرق جديدة تبني نفسها وتصارع من أجل التتويج في ما يشبه الخريطة الجديدة للكرة المغربية. فلم يعد الأمر يعني فرق الرجاء أو الوداد أو الجيش الملكي، ولكنه أضحى يعني فريق الفتح الرباطي، الذي توج بطلا للخريف بفارق مريح عن مطارده الرجاء البيضاوي، الذي عاد من بعيد بعد انطلاقة متعثرة أخرجته من عصبة أبطال إفريقيا، حيث غير مدربه، وهو اليوم يحتل الصف الثاني بعد آخر انتصار حققه في الجولة الأخيرة من شطر البطولة الأول. أما فريق الفتح الرباطي، الذي بدأ عاديا، فسرعان ما استعاد قوتة وحقق بالتالي نتائج جيدة بفضل استقرار تقني واستمرار في الترقي الذي صنعه فريق من حسن حظه أنه بدون نجوم، ما ساعده على أن يكون جل لاعبيه نجوما يسجلون الأهداف ويخلقون الفارق. وخلف هذا الثنائي يعلن فريق المغرب الفاسي عن حضوره المتميز، وليس من المستبعد أن يكون له الكلمة الأولى في غضون مباريات الشطر الثاني من البطولة الاحترافية. لقد عاش فريق المغرب الفاسي خلال هذه المدة أزهى أيامه حينما توج بلقب كأس الإتحاد الإفريقي كأول تتويج قاري يصل إلى العاصمة العلمية للمملكة. وعاش أياما بعد ذلك سعادة تتويج ثان بفوزه بلقب كأس العرش على حساب جاره وغريمه النادي المكناسي. وتوج الطاوسي مدرب السنة من قبل الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم. لذلك لم يتبق للفاسيين اليوم غير لقب البطولة، الذي انتظروه طويلا، بل إنهم كانوا أقرب لنيله في الموسم الماضي قبل أن يطير به فريق الرجاء البيضاوي. غير أنه خلف هذه الصور الوردية لفريق الماص، تختفي الكثير من صور سوداء، لعل أغربها أن يعيش الفريق ضائقة مالية وهو المتوج بلقبين متتاليين في ظرف موسم واحد، ما يطرح السؤال عريضا كيف تعيش بقية الفرق الأخرى المتوسطة التي لم تحقق أي لقب، ولا تضع في حسبانها أي رهان مستقبلي. ويبقى فريق الوداد البيضاوي واحدا من الأندية التي عاشت الكثير من المفارقات خلال الشطر الأول من البطولة الذي نودعه. لقد طلق في الأيام القليلة الماضية مدربه السويسري دو كاستل، وتعاقد مع مدرب إسباني جديد. وظلت نتائج الفريق متذبذبة منذ غادر كأس عصبة الأبطال الإفريقية، التي خسر مباراة نهايتها أمام فريق الترجي التونسي. وقد اعتقد الكثيرون أن وصول الفريق لهذه النهاية التي غاب عنها منذ مواسم يعد إنجازا كبيرا، ومن ثم يمكنه أن يواصل تألقه في الدوري بنفس الحماس أو أكثر، غير أن العكس هو الذي حدث، حيث عاش الفريق تراجعا في الأداء وفي النتيجة، ما جعله عرضة للكثير من الانتقادات من قبل جمهور لا يرحم. والحصيلة هي أن فريقا بحجم الوداد البيضاوي لم يعد يقدم منتوجا كرويا يليق بقيمته، رغم كل الظروف التي يعيشها، ما يجعله واحدا من أغنى الفرق المغربية، لذلك استطاع أن يتعاقد مع عدد كبير من أجود اللاعبين لم يجدوا مدربا كبيرا يمكنه أن يصنع منهم فريقا قويا وكبيرا. اليوم قد تكون عطلة شهر كامل فرصة للفريق الأحمر لكي يستعيد عافيته ويرمم صفوفه مع مدرب جديد لن يكون أفضل إلا إذا كان مغربيا يعرف عقلية اللاعبين ومتتبعا لمسار البطولة المغربية ويعرف تفاصيلها. ويبقى فريق الجيش الملكي، الذي عودنا على المنافسة على الألقاب محليا وقاريا، هو نشاز هذا الموسم والمواسم السابقة، حيث تراجعت نتائجه بشكل كبير ومثير جعله في بعض المحطات يحتل الصف الأخير في البطولة المحلية، على الرغم من كل العمليات الجراحية التي جربها، والتي كان آخرها التعاقد مع المدرب فتحي جمال، الذي حمل معه إلى الفريق العسكري عددا كبيرا من اللاعبين قد يعيدون للفريق العسكري بعض توازنه خلال الشطر الثاني من البطولة بعد شهر. ولعل هذا التوقف الذي يعرفه الدوري المحلي هو فرصة العمر لفريق مثل الجيش الملكي لكي يستعيد توازنه، وهو الذي شكل رفقة ثنائي البيضاء الرجاء والوداد، فريق التنافس حول الألقاب محليا وقاريا. لم تغير البطولة الاحترافية، التي جربتها كرة القدم المغربية، الكثير من علاماتها السلبية على الخصوص. وباستثناء بعض الضبط الذي شمل عقود اللاعبين ومالية الفرق وإدارتها، ظل الحال على ما هو عليه مع تحكيم مزاجي وبرمجة لا أحد يفهم خلفياتها، وحالات شغب هنا وهناك. لذلك يتطلع الكثيرون ليحمل الشطر الثاني من البطولة الاحترافية بعض الصور الإيجابية بعد هذا التوقف الممتد لشهر كامل. أما الاحتراف الحقيقي الذي ينتظره المغاربة فلا يزال حلما قد تحمله المواسم الكروية القادمة.