تواجه مصر ثلاثة تحديات سياسية كبيرة ومترابطة للوصول إلى عملية انتقال ديمقراطي ناجحة: الدور الذي يلعبه الجيش وسيواصل لعبه، ووجود قوى إسلامية قوية، ليس فقط الإخوان المسلمين بل أيضاً الجماعات السلفية، والجماعة الإسلامية؛ وبشكل غير متوقع تزايد إحجام بعض من يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين عن وضع مستقبل البلاد في أيدي العملية الديمقراطية. والطريقة التي يتم بها التعامل مع هذه التحديات في الأشهر المقبلة ستحدّد ما إذا كانت مصر ستنتقل نحو الديمقراطية أو تغرق في أتون حكم سلطوي جديد. ثم: ما لم ينجح الإسلاميون والليبراليون في إيجاد تسوية مؤقتة في الأشهر المقبلة، فإن النتيجة ستكون سلطوية جديدة، حيث سيكون التحالف بين الجيش ومن يُسَمّون ليبراليين النتيجة الأكثر ترجيحاً من استيلاء الاسلاميين المتطرفين على الحكم. الجيش لو حكمنا ببساطة على التصريحات الرسمية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي ظل يعمل بوصفه نوعاً من الرئاسة الجماعية منذ إطاحة الرئيس حسني مبارك في فبراير 2011، لوجدنا أن الجيش لايشكّل عقبة أمام عملية الانتقال الديمقراطي. على العكس من ذلك، أخذ الجيش على عاتقه مهمة توجيه البلاد نحو هذا الانتقال، والحفاظ على الاستقرار، وضمان الاستمرارية حتى يتم انتخاب برلمان ورئيس. وفي الواقع، العديد من التقارير تشير إلى أن الجيش يبدو قلقاً إزاء الدور المحوري الذي يلعبه الآن، وأنه حريص على العودة، إن لم يكن إلى ثكناته، على الأقل إلى الوظيفة الأقل وضوحاً التي كان يشغلها في ظل نظام مبارك، بوصفه الضامن الأساسي للاستقرار من دون أي انخراط في إدارة شؤون البلاد اليومية. بيد أن هناك أيضاً دلائل تتناقض مع الرواية الرسمية. فأولاً، ليس ثمّة سبيل لتحديد ما إذا كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتحدث عن نفسه أو عن الجيش بأكمله. وليست هناك معلومات من مصادر مفتوحة حول مايحدث داخل الجيش تحت المراتب العليا الممثّلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كما ثمّة أسباب للاعتقاد بأن المصادر السرية لاتُغني عن جوع هي الأخرى. نتيجة لذلك، لا أحد يعرف على وجه اليقين ما إذا كانت هناك مجموعات في الجيش لديها طموحات سياسية مختلفة. تجربة الكاتبة تقول إن الأسئلة التي يتم طرحها حول هذا الموضوع لا تنتزع أجوبة محددة أبداً، ولكن لايتم تجاهلها أبداً بوصفها منافية للعقل. الظهور المفاجئ في أواخر أكتوبر ل «حملة» لانتخاب المشير طنطاوي رئيساً لمصر لايدع مجالاً للشك بأن بعض العناصر، على الأقل، في الجيش تريد أن تبقى السلطة في يد المؤسسة العسكرية. ثانياً، في حين لايريد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يحل محل حكومة مدنية، إلا أنه لا نيّة لديه لأن يخضع إلى مثل هذه الحكومة، بل يريد أن يظل في حلٍّ من الرقابة المدنية، ولاسيما في ما يتعلق بميزانيته ومصالحه الاقتصادية. هناك الكثير من التكهنات بشأن النسبة التي يسيطر عليها الجيش فعلياً من الاقتصاد المصري، حيث تتراوح التقديرات بين 5 و 40 في المئة. لكن من المعروف أن الأصول الاقتصادية للجيش تشمل مؤسسات صناعية، وشركات بناء، ومنتجعات سياحية على البحر الأحمر، وربما الأهم، مساحات شاسعة من الأراضي، بالإضافة إلى المؤسسات الصناعية التقليدية التي ظلت لفترة طويلة في يد الجيش. ثالثاً، أصبح واضحاً أن الجيش لم يعد في عجلة من أمره للتخلي عن السلطة، وأنه يرغب في التأثير على نتائج الانتخابات قبل أن يفعل ذلك. بعد الإطاحة بمبارك، وعد الجيش بإجراء انتخابات في غضون ستة أشهر، ماجعل العديد من المحللين يشعرون بالقلق من أن الجدول الزمني كان قصيراً بصورة غير واقعية. وفي إطار الخطة الحالية، لن تبدأ انتخابات مجلسي البرلمان إلا في نهاية نوفمبر، أي بعد حوالي عشرة أشهر على الإطاحة بمبارك، وسوف تمتد، على دفعات، حتى مارس 2012. عند تلك المرحلة، ستدق ساعة وضع الدستور، مايمنح البرلمان ستة أشهر لتعيين لجنة دستورية، والتي سيكون لديها ستة أشهر أخرى لوضع مسودة دستور. بعد أن تتم الموافقة على الدستور من خلال استفتاء عام، سوف يتصدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة لمهمة كتابة قانون انتخابي جديد وتنظيم انتخابات رئاسية، ربما في العام 2013. وإلى أن تجرى الانتخابات الرئاسية، سوف يستمر الجيش في الحكم لأن مصر لديها نظام رئاسي حيث رئيس الوزراء والحكومة مسؤولون أمام الرئيس، وليس أمام البرلمان، وحيث يعمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الآن بدلاً من الرئيس. والسؤال الذي يمكن طرحه بصورة مسوَّغة هو ما إذا كان الجيش سيظل، في نهاية هذه العملية التي طال أمدها، نافراً من السلطة، أم أنه سيكون قد اعتاد على ممارسة السلطة في دائرة الضوء. ولكي تعقّد المسألة أكثر، أصدرت الحكومة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر مسودة مثيرة للجدل من المبادئ فوق الدستورية ووثائق أخرى تتضمن بنداً سرياً يحمي ميزانية الجيش من الرقابة البرلمانية، وتمنح الجيش حق إحالة الدستور الجديد إلى المحكمة الدستورية العليا إذا ما كان ثمّة اعتقاد بأنه ينتهك أياً من الإعلانات الدستورية التي تصدرها المؤسسة العسكرية، وتنص على أن الجيش يمكن أن يحل محل اللجنة الدستورية اذا لم تقدم الدستور في خلال الأشهر الستة المخصصة لذلك. علاوة على ذلك، نصّ إعلان جديد صدر يوم 3 نوفمبر، على أن الجيش سيعيّن بصورة مباشرة ثمانين من بين أعضاء اللجنة الدستورية المئة، ويترك للبرلمان المنتخب تعيين عشرين عضواً فقط. أخيراً، ثمّة مؤشرات على أن الجيش ينظر بعين العطف إلى عودة الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم سابقاً إلى العمل السياسي. وقد قاوم الجيش حتى الآن الضغوط لمنع أعضاء الحزب الوطني السابق من الترشح لمنصب الرئاسة. علاوة على ذلك، رفض الجيش أيضاً طلب معظم الأحزاب السياسية بأن يتم ملء جميع المقاعد البرلمانية على أساس التمثيل النسبي، وأصر،ّ بدلاً من ذلك، على تخصيص ثلث المقاعد (نزولاً من النصف) للمرشحين الأفراد. ويُعتقد أن هذا يمثّل تفضيلاً لأعضاء الحزب الوطني السابق، الذين كان الكثيرون منهم قد بنوا شبكات محسوبية قوية. لايمكن اعتبار أي من العناصر التي تمت مناقشتها مؤشراً واضحاً على أن الجيش يعتزم البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى. ومع ذلك، إذا ما نظرنا إلى تلك العناصر معاً، فإنها تشير إلى أن ثمّة أسباباً تدعو إلى القلق بشأن دور الجيش، وكيف سيؤثر على إمكانية الانتقال الديمقراطي. الإسلاميون حتى يناير 2011، كان الحديث عن الإسلاميين في الحياة السياسية في مصر يعني الحديث عن الإخوان المسلمين. لطن بعد ذلك ازداد الوضع تعقيداً. فقد شكّلت جماعة الإخوان المسلمين حزباً سياسياً مستقلاً، حزب الحرية والعدالة. كما تمت الموافقة على تأسيس حزب الوسط، وهي مجموعة منشقة قديمة عن جماعة الإخوان المسلمين حاولت من دون جدوى تسجيل نفسها كحزب لأكثر من 15 عاماً. وبدأ بعض الشباب من أعضاء جماعة الإخوان يظهرون استقلالهم، حيث شاركوا أولاً في الانتفاضة حتى في الوقت الذي كان فيه كبار السن في الجماعة يحجمون عن ذلك، وانضموا إلى مجموعات شبابية أخرى، وأخيراً شكّلوا حزب التيار المصري، إضافة إلى حزب أصغر هو «حزب الريادة». الأكثر إثارة للدهشة هو أن السلفيين، الذين كانوا يعتبرون دوماً غير مُسيَّسين في الغالب، أو داعمين صامتين للنظام القديم طالما تم تركهم وشأنهم، دخلوا المعترك السياسي وشكّلوا مجموعة من الأحزاب السياسية، أبرزها «النور»، و»الأصالة»، و»الفضيلة»، لكنها ليست الوحيدة. كما دخلت «الجماعة الإسلامية» ( وهي حركة اقتحمت الساحة السياسية المصرية مع اغتيال السادات في العام 1981، ولكن قادتها تابوا آنذاك بعد الكثير من المراجعات العقدية التي شجعتهم عليها سنوات السجن الطويلة) الساحة القانونية والسياسية من خلال إطلاق حزبها الخاص «حزب البناء والتنمية». أخيراً، أسس الصوفية حزبين سياسيين على الأقل: حزب التحرير المصري وحزب صوت الحرية. قوة هذه الأحزاب موضع تكهنات كثيرة، وسوف تظل كذلك حتى تجرى الانتخابات. على سبيل المثال، يفترض على نطاق واسع أن السلفيين أقوياء في الإسكندرية وصعيد مصر، ولكن لا توجد وسيلة لتحديد مدى تأييدهم أو قدرتهم على التنظيم، وبالتالي ترجمة التعاطف مع موقفهم إلى أصوات فعلية. وينطبق الأمر نفسه على جميع التنظيمات الجديدة الأخرى. لكن، ما هو واضح أنه من غير المرجح أن تمتلك الأحزاب الجديدة قدرة على التنظيم تقارب قدرة حزب الحرية والعدالة، والذي يمكنه الاعتماد على هيئات الإخوان المسلمين. جماعة الإخوان لديها سجلّ حافل من التنظيم الفعًال، ليس فقط في السياسة، بل أيضاً في أعمالها الدعوية والخيرية، وتتمتع بشهرة ليس لها مثيل، وهي لاتشعر بتبكيت الضمير في استخدام شبكتها الدينية في خدمة حزب الحرية والعدالة وفرصه في الانتخابات. في الآونة الأخيرة، تم إبلاغ أعضاء جماعة الإخوان بوجوب الانضمام إلى الحزب، ومن المفترض أن يُصوِّتوا لصالحه. بالطبع لن يصوت له جميع الأعضاء، ولكن ليس ثمّة شك في أن حزب الحرية والعدالة يتمتع بمزايا تفتقر إليها الأحزاب الإسلامية التي تم تشكيلها مؤخراً. بيد أن حزب الحرية والعدالة لم يتمكن من إدخال جميع الأحزاب الإسلامية في حظيرة التحالف الديمقراطي، على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله في هذا السبيل. لا بل هو، على العكس من ذلك، نفّرها إلى درجة أن معظمها انضم الى تحالف إسلامي منفصل ينافس الإخوان. يبدو أن ذلك الانقسام يعود إلى المنافسات السياسية أكثر منه إلى الخلافات الإيديولوجية، حيث ترغب الأحزاب الجديدة في أن يكون لها تمثيل في القوائم الانتخابية المشتركة أكبر من التمثيل الذي كان حزب الحرية والعدالة على استعداد لمنحها إياه. الديمقراطيون اللاليبراليون الديمقراطيون اللاليبراليون هم مصريون ينادون بالديمقراطية، وهم معروفون أحياناً بأنهم دعاة ديمقراطية، لكنهم في النهاية قلقون جداً من أن الديمقراطية سوف تجلب الإخوان المسلمين إلى السلطة إلى درجة أنهم يلجأون إلى اتخاذ مواقف غير ليبرالية ويدافعون عن سياسات غير ليبرالية أملاً في تجنب مثل هذه النتيجة. بطبيعة الحال، معظم دعاة الديمقراطية لا يندرجون ضمن هذه الفئة، لكن بما أن الديمقراطيين الملتزمين ليسوا عائقاً أمام الديمقراطية، فلا حاجة لمناقشتهم هنا. عمليات الانتقال الديمقراطي صعبة وتنطوي على قدر كبير من عدم اليقين. وليس ثمّة أبداً أي ضمانة بأن العمليات الديمقراطية، والانتخابات الحرة بشكل خاص، ستؤدي إلى نتائج ديمقراطية في شكل أغلبية برلمانية ملتزمة بالمبادئ والحكم الديمقراطي. عدم اليقين هذا هو الذي يؤدي إلى رفض الديمقراطيين اللاليبراليين للعمليات الديمقراطية واختيار السلطوية التي يعرفونها. وجود الديمقراطيين اللاليبراليين واضح في العديد من المناقشات الجارية في مصر، ولاسيما تلك التي تتعلق بوضع الدستور، وتوقيت الانتخابات، ودور الجيش في المرحلة الانتقالية. فقد كان المصريون الناشطون سياسياً منقسمين في مارس الماضي حول مسألة ما إذا كان ينبغي وضع الدستور قبل الانتخابات - وبالتالي من قبل هيئة غير منتخبة - أو بعد الانتخابات من خلال جمعية تأسيسية وبرلمان منتخب، أو لجنة يتم إنشاؤها من قبل البرلمان. الذين يريدون وضع الدستور من قبل هيئة غير منتخبة كانوا دعاة ديمقراطية مجاهرين بأنفسهم ويخشون من أن هيئة منتخبة لن تنتج دستوراً يجسّد المبادئ التي أيّدوها، وبالتالي كانوا على استعداد للتضحية بفكرة المشاركة الشعبية، ووضع مهمة كتابة الدستور الجديد في أيدي خبراء يشاركونهم وجهات نظرهم. مايثير الدهشة في هذا الجدل ليس حقيقة أنه حدث في البداية، ولكن أنه لايزال مستمراً بعد فترة طويلة من بدء توالي الخطوات الانتقالية. فالانتخابات النيابية ستجري على أساس «إعلان دستوري»، هو أساساً دستور مؤقت وضعه المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ وسيشكّل البرلمان المنتخب لجنة دستورية لوضع الدستور لا تتكوَّن من أعضائه فقط، بل ايضاً من ممثّلي مجموعة من المنظمات والخبراء الدستوريين؛ وستجرى الانتخابات الرئاسية بعد أن تتم الموافقة على الدستور الجديد في استفتاء عام. لايقتصر الأمر على أن الجدل مستمر، بيد أن التدابير التي دعا إليها من لا يريدون لهيئة منتخبة أن تضع الدستور أصبحوا غير ديمقراطيين على نحو متزايد، على الرغم من أنه تم اقتراحها باسم الديمقراطية. أحد تلك التدابير يتمثّل في فرض مجموعة من المبادئ «فوق الدستورية» التي يجب أن تلتزم بها اللجنة الدستورية، والتي لايمكن أن تعدّل أبداً، وهي فكرة تنفي مفهوم السيادة الشعبية على المستوى النظري وغير مجدية على الصعيد السياسي، لأن أي جماعة تمتلك سلطة كافية لن تعير اهتماماً للمبادئ التي لا تؤمن بها. وهناك فكرة أخرى، أكثر تطرفاً، تقول أنه يجب تأجيل الانتخابات ويجب أن ينقل المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة الى رئيس وزراء قوي ذي فكر ليبرالي لفترة غير محددة من الزمن وتحت رعاية الجيش. ولاتزال نسخ مختلفة من هذه المقاربة تنتشر في دوامة من الإشاعات. وبينما لم يحدث أي شيء ملموس، وربما لن يحدث، فإن إصرار الديمقراطيين اللاليبراليين على السيطرة على نتائج المرحلة الانتقالية حتى لو عنى ذلك استخدام أساليب غير ديمقراطية يبدو واضحاً. الخوف من الأفراد ذوي التوجهات العلمانية بشأن إمكانية أن يحاول الإسلاميون وضع بصماتهم على الدستور أمر مفهوم، مثلما كان الخوف من الشيوعية في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الأولى مفهوماً. لكن استعداد الديمقراطيين المفترضين للجوء إلى أساليب غير ديمقراطية يمثّل تهديداً للديمقراطية بقدر ما تمثّل أي محاولة من جانب الأحزاب الإسلامية لفرض آرائها على البلاد. ثمّة سوابق في بلدان أخرى وفي ومصر، تظهر كيف أن الخوف من نتيجة غير ديمقراطية يمكن أن يدفع بمواطني بلد آخر إلى اختيار نتيجة غير ديمقراطية على حد سواء. في أوروبا، تم التبشير بالأنظمة الفاشية ورحّب بها المواطنون الذين كانوا يخشون الشيوعية، وفضلوا سلطوية اليمين على سلطوية اليسار. وفي مصر، كان نظام مبارك يدين بطول بقائه في السلطة، في جزء منه، إلى القبول الضمني للناس الذين أعلنوا عن رغبتهم بالديمقراطية ولكنهم فضلوا في النهاية الأمن النسبي الذي يوفِّره الوضع القائم على عدم يقين التغيير.