إن برنامج البحث المتعلق بالتغيير المفاهيمي يرتكز على السؤال التالي : كيف يمكن أن نجعل تعلم المفاهيم العلمية أمرا يسيرا ؟ يعتقد البعض أنه يكفي أن ندرس المفاهيم العلمية لكي يمتلكها التلاميذ. هذا الاعتقاد يعتمد فرضية مفادها أن التلاميذ لا يمتلكون مسبقا أية تمثلات خاصة بهذه المفاهيم وحتى عندما يمتلكونها فإنها ستُمحى وتُستبدل بالمعارف العلمية التي نقوم بتدريسها. ولكن، بالاعتماد على أعمال جان بياجي السيكولوجية و أعمال غاستون باشلار الابستمولوجية تبين أن المعارف القديمة للمتعلمين تتفاعل مع المعارف الجديدة. إذن، ماهي معارف التلاميذ الخاصة المتعلقة بالظواهر الطبيعية وما هي الأدوار التي تلعبها في بناء المعارف الجديدة ؟ حاولت العديد من البحوث الديداكتيكية التي اهتمت بالتمثلات والتغيير المفاهيمي الإجابة على هذه الأسئلة. حيث بدأت تظهر مع منتصف سنوات الثمانينيات النتائج الأولى للبحوث الديداكتيكية التي مكنت المهتمين والمشتغلين في حقل البيداغوجيا والديداكتيك من الحصول على بعض عناصر الإجابة على الأسئلة المطروحة (Duit, 1993). نجد أيضا بعض الأواليات الفينومينولوجية مثل : القوة كفاعل مولد للحركة : حسب هذه الاوالية فإن جسما ما يتحرك دائما في نفس الاتجاه الذي تؤثر فيه القوة. فعندما نطبق قوة على جسم كانت له سرعة بدئية منعدمة، فإنه يتحرك في الاتجاه نفسه للقوة المؤثرة. وعندما يكون الجسم في حركة، فإنه يتحرك في نفس اتجاه القوة المطبقة كيفما كانت حركته الأصلية. النقصان : حسب هذه الأوالية، تنقص الحركة وتضعف إلى حد السكون كيفما كانت الشروط الخارجية. تنتهي حركة جسم ما إلى حالة السكون. بالنسبة لنواس يتذبذب فإن وسعه Amplitude ينخفض باستمرار. حرارة الأكل تنخفض مع مرور الزمن. الإبطال : تتعلق هذه الأوالية بحالات التوازن الديناميكي حيث يبطل مفعول معين مفعولا آخرا، حيث التأثير المركب لا يحدث أي مفعول. التجاوز أو انعدام التوازن : عكس أوالية p-prim الإبطال، فإن أوالية التجاوز تظهر عندما يتواجد تأثيران ليست لهما نفس الشدة. عند تجاوز شدة أحدهما شدة الآخر ينعدم الإبطال. تتواجد الأوالية الفينومينولوجية في مستوى وسيط بين العالم المجرد والعالم الواقعي، بين عالم الأفكار وعالم الادراكات. إنها تكون الجسر التي يربط بين الملاحظات المباشرة والمعارف السابقة. في هذا السياق، يصبح الهدف من التعلم هو تفعيل وتشغيل الأواليات الفينوينولوجية في الوقت المناسب. ولحث وتفعيل الأواليات الفينومينولوجية، يتحدث دي سيسا عن بعض الخواص مثل : خاصية «الاستدعاء» : إذا كانت هناك خاصية الاستدعاء عالية فهذا يعني أن الأوالية الفينومينولوجية مفعلة بشكل أكثر سهولة في سياق معين. خاصية «العلائقية» : تتعلق هذه الأوالية بقياس درجة التأثير التي يمكن أن يحدثها تفعيل أولية فينومينولوجية على الحالة المستقبلية لنفس الأوالية بسبب تفعيل أوالية أخرى بواسطة خاصية «الاستدعاء» التي تعزز أو تلغي الأولية االبدئية. فبناء على نموذجه، يعرف» دي سيسا « التعلم بمعرفة اختيار واستعمال الأواليات الفينومينولوجية المناسبة في الوضعيات المناسبة. فأول مرحلة في التعلم هي تغيير طريقة استعمال الأواليات.» فأرسطو» استعمل أوالية «أوم» في مبدئه الأساسي للحركة. حيث تؤدي القوة (الفاعل) إلى تحريك الجسم المدفوع بسرعة ثابتة (النتيجة)، وهذه الأخيرة تتعلق بمقاومة الوسط (المقاومة). واستعمل نيوتن نفس الاستدلال، ولكنه عوض السرعة بالتسارع ومقاومة الوسط بالكتلة (ويمكن كذلك أن لا يكون لمفهوم القوة نفس المدلول عند كل من أرسطو ونيوتن). في مرحلة ثانية يتجلى التعلم في استعمال أوالية p-prim مختلفة في وضعية معينة. يعتمد «دي سيسا» في أبحاثه على منهجية ترتكز على وصف وتحليل المسار المعرفي الذي يسلكه التلاميذ عندما نضعهم أمام وضعيات مشكلة. من أجل ذلك يستعمل «دي سيسا « ما نسميه «ميكرو عالم» «micromonde» في بحوثه المتعلقة بدراسة التغيير المفاهيمي بخصوص الحركة كوسائط للحصول على المعطيات وخصوصا منها الشفهية. ف»عوض أن نطلب من التلميذ التفسير، أطلب منه أن يصف ما يقوم به، لماذا فعل هذا الشيئ ولم يفعل شيئا آخرا» (ترجمة حرة) (Masson, 2005). إجمالا، ما يحاول «دي سيسا» وصفه هو سيروة أكثر منه بنية معارف منظمة مسبقا. ثالثا المقارنة بين نموذج فوسنيادو ونموذج دي سيسا بعد الاطلاع على مختلف النماذج المتعلقة بالتغيير المفاهيمي، يمكن أن نتساءل ماهو النموذج الذي يصف بشكل أحسن سيرورات التغيير المفاهيمي لدى التلاميذ ؟ ففي جميع الحالات وبالنسبة لجميع النماذج، نلاحظ أن الجميع يعتمد المقاربة البنائية للتعلم ولا احد يضعها موضع التساؤل أو التشكيك. فجميع النماذج تأخذ بعين الاعتبار المعارف السابقة لتسهيل استيعاب حقيقي للمعارف العلمية من طرف المتعلمين. ولكننا نجد أن هذه النماذج لا تنظر بنفس الشكل لطبيعة، وخصوصا درجة تنظيم بنية المعارف السابقة للمتعلم. فبالنسبة لنموذج القطيعة لفوسنيادو (Vosniadou, 1994)، تكون بنية المعارف السابقة للمتعلم جد منظمة، عكس نموذج دي سيسا (diSessa, 1993) الذي يعتبر أن هذه البنية غير منظمة بالشكل المطلوب. لقد تم توضيح هذا الاختلاف الجوهري بين نموذجي «فوسنيادو ودي سيسا « في مقالة من تأليف هاذين الباحثين (Kaufman, Vosniadou, diSessa & Thagard, 2000). فحسب فوسنيادو تتميز مقاربة دي سيسا المعبر عنها من خلال آرائه (diSessa, 1988) بكون بنيات المعرفة الأولية المتعلقة بالعالم الفيزيائي ترتكز على مجموعة غير منتظمة لعناصر معرفية جد صغيرة والتي يسميها «الأواليات الفينومينولوجية» (p-prims). إذن فالتغيير المفاهيمي حسب مقاربة دي سيسا هو تجميع وتنظيم هذه العناصر في بنية متماسكة ومنتظمة. واعتمادا على كون ‘دي سيسا' يعتبر تعلم العلوم كعملية لتنظيم بنية معارف المتعلم غير المنظمة في الأصل، يطرح ‘فوسنيادو' علامات استفهام حول تفسير ‘دي سيسا' المتعلق بغياب معارف منظمة بشكل واضح. إجمالا، يؤكد فوسنيادو أن فرضية دي سيسا لا تتلائم بشكل جيد مع بعض النتائج التجريبية ويقترح اعتماد الفرضية المضادة : يتوفر التلاميذ على إطار تفسيري منظم يتكون من اعتقادات ابستمولوجية وانطلوجية. ولكن إذا كان صحيحا أن بعض النتائج التجريبية قد أثبتت أن التلاميذ يمكنهم أن يتوفروا على بنية معارف تكون الإطار المرجعي لتفسير الظواهر، يجب أن نقر كذلك بوجود بحوث تجريبية تثبت العكس. ففي إطار بحث حول المسارات المعرفية المعتمدة من طرف تلاميذ التعليم الثانوي لفهم الوضعيات المرتبطة بميكرو عوالم خاصة بالحركة، أوضح بوتفان (Potvin, 2002) أن تمثلات التلاميذ لا تعتمد على بنية معارف منظمة ومصاغة بشكل جيد. ففي المرحلة الحالية للبحث حول التغيير المفاهيمي، لا يمكن أن نعتمد بشكل تام نموذجا بعينه، ففي بحث حول تفسيرات التلاميذ لمختلف الظواهر البيولوجية، اعتمد مجموعة من الباحثين (Southerland et al., 2001) على النموذجين لتحليل الانتاجات الشفهية للفئة المستهدفة. فبناء على النموذج الأول تكون تفسيرات التلاميذ ناتجة عن بنية منظمة إلى حد ما للمعارف ؛ أما بالنسبة للنموذج الثاني، فتعتمد التفسيرات على أواليات فينومينولوجية (p-prims). و حسب سوترلاند وآخرين (Southerland et al., 2001)،- بما أن هناك عدد ضئيل من البحوث التي تتعلق بطبيعة بنيات معارف المتعلمين-، فإنه من الصعب اختيار نموذج معين. هذا الاختيار من الصعوبة بمكان حيث أن نتائج بحوثهم لا تبرر استبعاد نموذج القطيعة المفاهيمية ؛ ذلك أن تفسيرات التلاميذ تعكس إطارهم المفاهيمي. ولكن، يؤكد بوترلاند وآخرون أن عدم يقينية التفسيرات تبين أن الإطار المفاهيهي غير علمي، وبالأخص مبني بشكل ضعيف. وحسب نتائج البحث، فإن هذا صحيح خصوصا بالنسبة للتلاميذ في سن مبكرة. ففي هذا البحث، يتأكد أن نظرية الأواليات الفينومينولوجية لها قدرة تفسيرية أكبر من تلك التي يوفرها الإطار النظري. ملاحظات واستنتاجات لاحظنا في الفقرات السابقة أن هناك اختلاف بين الباحثين في ديداكتيك العلوم حول نموذج التغيير المفاهيمي الذي يجب استعماله في بحوثهم. ونعتقد أن هذا الاختلاف يجد ما يبرره في النتائج المتوصل إليها في بعض البحوث، حيث اعتمد البعض على نموذجين مختلفين. إن هذه الوضعية توضح أن ديداكتيك العلوم هو علم لازال في طور التشكل، وبالتالي لم يستطع بعد أن يبني نموذجا إرشاديا خاصا به. والكل يعرف أن ديداكتيك العلوم لا زالت في بداياتها، ومن الطبيعي أن نلاحظ بعض الاختلافات بين الباحثين والتي تميز جميع المجالات المعرفية التي تكون في مرحلة النشأة والتطور. ولا بد من التذكير أن البدايات الأولى الأساسية والمهمة لهذا المجال المعرفي لم تظهر إلا مع بداية سنوات الثمانينات (معروف، 2008). إن هذه الملاحظة الهامة تدعو الباحثين في ديداكتيك العلوم إلى بذل مجهودات أكبر وتعميق البحث حول التغيير المفاهيمي من أجل إيجاد أرضية مشتركة تمكن من تطوير البحث حول هذا المفهوم الأساسي في ديداكتيك العلوم. نعلم أن الهدف من تعليم العلوم هو تطوير التمثلات العفوية للتلاميذ نحو تمثلات أكثر انسجاما مع المعارف العلمية. هذا التطور نسميه أحيانا التغيير المفاهيمي (Duit, 1999). فحسب رأي فوسنيادو ويونيدس (Vosniadou & Ioannides, 1998) تتحول البنيات المفاهيمية الأصلية – المبنية أساسا على تفسيرات طفولية للتجارب اليومية - تدريجيا نحو بنيات أكثر غنى وبنينة. هذا التغيير في وجهات النظر الأصلية يمكن أن يتم بشكل كلي (يستبدل التمثل القديم بالتمثل الجديد) (Hallden, 1999)، أو بشكل جزئي (هامشي) (يكون التمثل القديم مقاوما ويندمج داخل بنية المعرفة الجديدة)(Duit, 1999) . وبشكل خاص، يمكن أن تخضع التمثلات الاصلية للتلاميذ لعدة تحولات خلال التغيير المفاهيمي (Nersessian, 1991)، حيث يمكن إضافة أو حذف العلاقات بين المفاهيم، أو إحداث تغيير جذري في بنية التمثلات الأصلية (diSessa & Sherin, 1998). عندما نسجل في تعليم العلوم تغييرا مفاهيميا، فإن هذا يشكل دليلا على نجاح التعلم. ولكن لا يمكن تحقيق الهدف من التغيير المفاهيمي لأن مجموعة من العوامل تحد من ذلك : يكون أحيانا فهم الظاهرة المدروسة صعب جدا (Garisson & Bentley, 1990) ؛ يستوعب التلاميذ أحيانا المعرفة الجديدة ولكنهم لا يؤمنون بها ؛ يدافع التلاميذ عن أفكارهم الأصلية باعتبارها صحيحة ويتجاهلون بعض المعطيات ليحتفظوا برأيهم الأصلي (Duit, 1999) ؛ يظهر التلاميذ أحيانا قليلا من الاهتمام اتجاه الظاهرة المدروسة (Duit, 1999) ؛ في بعض الأحيان يتقاسم أفراد المجتمع الذي يعيش فيه التلاميذ آراء مختلفة عن تلك التي نريد تدريسها لهم (Inagaki & Hatano, 2002). وقد تعرض نموذج مجموعة بوزنر لعدة انتقادات من طرف العديد من الباحثين في السنوات الأخيرة. يؤكد دويت (Duit, 1999) أن التمثلات الأصلية تكون صلبة، مترسخة وتقاوم الصراع المعرفي. ومن جانبهم يؤكد كل من بانتريش، ماركس وبويل (Pintrich, Marx et Boyle, 1993) أن نموذج مجموعة بوزنر لا يأخذ بعين الاعتبار العوامل التحفيزية والوجدانية للمتعلمين. أما بالنسبة لهوسن، بييت وتورلي (Hewson, Beeth et Thorley, 1998) فإن التعليم يجب أن يسهل التعبير عن مختلف الأفكار لمختلف الأفراد المنتمين للقسم خلال عملية التعلم، ويجب أن يدعو الأستاذ تلامذته إلى تبرير أفكارهم بالاضافة إلى استعمال عملية التفكير حول الأفكار métacognition وعملية التفكير حول قيمة الأفكار. ومن جانبهما، يؤكد فوسنيادو ويوانيدس (Vosniadou et Ioannides, 1998) كذلك على أهمية التفكير حول الأفكار métacognition في سيرورة التغيير المفاهيمي، باعتبار أن التلاميذ لا يكونون دائما واعين بأن تمثلاتهم ومعتقداتهم هي مجرد فرضيات. لذلك من الأهمية بمكان أن نوفر للتلاميذ بيئة تعليمية تشجع على التعبير عن الأفكار والمعتقدات وتمكنهم من التعامل مع تجارب ذات معنى تسمح لهم بفهم حدود تمثلاتهم ومعتقداتهم، وبالتالي تحفيزهم على مراجعتها ومسائلتها. لقد اقترح الباحثون في ديداكتيك العلوم استراتيجيات أخرى لتحقيق التغيير المفاهيمي. من ضمن هذه الاستراتيجيات، نجد استراتيجية التعلم التجريبي. يعرف برينو ولابوانت (Pruneau et Lapointe, 2002) التعلم التجريبي بسيرورة يتمكن من خلالها المتعلم من إعادة تشكيل تمثلاته بالاعتماد على التفاعلات المعرفية والوجدانية مع الوسط المادي والاجتماعي. أما مراحل هذا التعلم فقد حددها سوفي (Sauvé, 1994) في : 1 التجريب المادي، 2 الملاحظة المتمركزة حول التفكير، 3 المفهمة conceptualisation التلميذ( يفكر، يشكل ويبني التمثلات)، 4 التجريب النشيط (انتقال التعلمات). يتمكن التلاميذ من خلال التعلم التجريبي من الاحساس بمختلف المشاعر مثل التحدي، المتعة، الرغبة في مشاركة الآخرين في انفعالاتهم، الانبهار، التعاطف، ....(Pruneau et Lapointe, 2002) وفي الوقت نفسه يخضع المتعلم تمثلاته للمساءلة ومواجهتها مع الواقع ومع تمثلات أقرانه (Inagaki et Hatano, 2002). ومن جانبه، يعتبر درايفر (Driver, 1989) أن النقاش هو كذلك استراتيجية تشجع على التطور المفاهيمي. فالتفاعلات الشفهية مع الأقران تمكن التلاميذ من التعبير عن أفكارهم وآرائهم. كما تخلق التفاعلات الاجتماعية حالة من الاختلاف والتفاوت المعرفي والحجاج بين التلاميذ، الشيء الذي يؤدي إلى الوعي بوجود أفكار مختلفة حيث يؤدي وجود التناقض إلى تغيير الأفكار الأصلية (Fleer, 1992). وأخيرا يمكن أن نتحدث عن دور الكتابة في تعلم العلوم بوصفها استراتيجية تمكن من تحقيق التغيير المفاهمي. ففعل كتابة الأفكار يمكن المتعلمين من تعميقها وتقييمها ومراجعتها (Rivard, 1994). إذن يمكن أن نؤكد أن النماذج المتعلقة بالتغيير المفاهيمي تطرح حاليا مجموعة من الاشكالات على الباحثين في ديداكتيك العلوم. ومن أجل التصدي لهذه الاشكالات من اللازم تعميق البحث في المفهوم وتجريب مختلف النماذج في أفق : أولا : تجاوز الاختلافات بين الباحثين، والتي تصل أحيانا إلى حد التناقض ؛ ثانيا : ايجاد أرضية مشتركة تمكن الباحثين من بناء الاستراتيجيات الممكن وضعها رهن إشارة الممارسين لتجاوز المشاكل المتعلقة بتعلم المفاهيم العلمية.