ثلاث كلمات اختارتها «الأحداث المغربية» لنعي الراحل صالح الشرقي الذي توفي بمسقط رأسه في سلا عصر الاثنين 21 نوفمبر. «القانون» المغربي في حداد كان «أحسن عنوان » لإخبار المغاربة برحيل «أحسن عازف على القانون». وتشاء الأقدار أن أكون خارج الرباط كلما حل موعد رحيل واحد من أصدقائي المغاربة الكبار في عالم الموسيقى والطرب. كنت ممثلا لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» بقرار من المرحوم مصطفى القرشاوي لأكون ضمن الصحفيين رافقوا الملك الراحل الحسن الثاني يوم زار لأول مرة ما كان يسمى بالجماهيرية الليبية في فاتح شتنبر 1989 بمناسبة مرور 20 عاما على الانقلاب الذي دبره القذافي ضد الملك ادريس السنوسي رحمه الله في 1969 . في تلك الأيام قال لي مهندس كان يشرف على الطاقم التقني للتلفزة حل بليبيا ليسهر على النقل المباشر لوقائع الرحلة الملكية إلى «الجماهيرية» قال : «أجركم الله صديقنا أحمد البيضاوي وافته المنية» وتشاء الأقدار أن يتوفى صديق آخر فنان وافته المنية في شتنبر 1999 . يتعلق الأمر بالفنان والمبدع الكبير عبد القادر الراشدي الذي لم أحضر جنازته لأنني كنت في رحلة مع العائلة والأحفاد إلى إسبانيا وحضرت فقط مراسيم «اليوم الثالث» بعد ما عدت إلى الرباط. ولي مع الفنان الثالث، أي المرحوم سيدي صالح، ذكريات تتعدى إعجابي. علاقاتي برجل «القانون» صالح الشرقي تعززت في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت إحدى قريباتي شريكة لحياة ولده سعيد. منذ ستين عاما قررت إذاعة «راديو ماروك»، لأول مرة، التوفر على جوقين : - الجوق الأندلسي برئاسة الفنان المرحوم أحمد الوكيلي. - الجوق العصري للإذاعة الذي ظل لمدة طويلة بدون رئيس إلى حدود صيف 1953 عندما انحل الجوق الملكي جراء إبعاد الملك عن عرشه. أحمد البيضاوي كبيضاوي، أصبح رباطيا في منتصف الأربعينيات حل بالعاصمة لأن الملك رحمه الله اختاره ليكون على رأس الجوق الملكي. ولم يكن معقولا من أحمد البيضاوي كفنان أن يتوقف عن الطرب والغناء احتجاجا على إبعاد الملك عن عرشه. لهذا أصبح أحمد البيضاوي في شتنبر 1953 على رأس الجوق العصري على غرار أحمد الوكيلي رئيس الجوق الأندلسي. لنعد إلى فقيدنا «رجل القانون» الذي دخل إلى إذاعة راديو ماروك سنة 1951 يوم تأسيس جوق بدون رئيس. كان تأسيس «الاوركيسترا» كما لو تعلق الأمر بتكوين نخبة من لاعبي كرة القدم ينحدرون من مختلف الفرق، لهذا جاء إلى الرباط من مختلف المدن : - المرحومان عبد الرحيم السقاط وأحمد الشجعي ومحمد المزكلدي. - المرحوم أحمد بالهاشمي وعمرو الطانطاوي من الدارالبيضاء. - المرحوم صالح الشرقي من سلا ومعه المعطي بنقاسم لا فقط كمغني، بل أساسا كعازف عى الكونترباس. - العازفان الكبيران في الكمان الأخوان سمير والطالبي من الجوق الملكي. - عبد النبي الجيراري وإسماعيل أحمد «مثلا» الرباط في تأسيس الجوق العصري، وكان معهم أربعة آخرون، وهم عبد الكريم بوهلا العوينة (الدربوكة) مورينو (الطر) العوفير وعبد الحفيظ بخوت (الفيولونسيل). وإذا لم تخني الذاكرة، فهذه هي كل عناصر الموسيقي والطرب التي أسست أول جوق عصر للإذاعة عام 1951، ولا حاجة إلى التذكير بأن أهم هذه العناصر هو «رجل القانون» صالح الشرقي رحمه الله، لأن العازفين على هذه الآلة كانوا (وسيظل الأمر كذلك حتى بعد إعلان الاستقلال) قلة قليلة والوحيد الذي كان (وسيظل) يتقن جيدا «اللعب» على القانون هو الفنان الكبير صالح الشرقي رحمه الله. عبد القادر الراشدي تأخر التحاقه بالجوق العصري، إذ كان مترددا في أن يقبل أو لا يقبل، لأنه كرئيس جوق التقدم الرباطي، عليه أن يصبح عازفا كباقي العازفين في الجوق العصري. والوحيد الذي اعتاد عبد القادر الراشدي أن يطلب منه إذنا، قبل الإقدام على أي تصرف هو من كان الفرنسيون قد أبعدوه إلى تافيلالت في آخر يوم من أيام فبراير 1961، والأمر هنا يتعلق بالشهيد المهدي بن بركة. ولهذا اتجه الراشدي إلى عبد الكريم الفلوس رحمهما الله، للحصول على ترخيص بالخدمة في إذاعة راديو ماروك، وسيطول انتظار الجواب. السى عبد الكريم رحمه الله، كان معلما بمدرسة جسوس التى أسسها الحاج أحمد بلافريج، وكان على تلاميذ تلك المدرسة أن يذهبوا في يوليوز 1951 إلى المخيم الصيفي في عين خرزوزة بالأطلس المتوسط. فتقرر أن يكون الراشدي «العاطل» برفقة تلاميذ مدرسة جسوس وكان مازال ينتظر موافقة الوطنيين ليصبح موظفا في الراديو. في عين خزوزة بأعالي الاطلس المتوسط شعر الراشدي بجمال الطبيعة وروعة الحياة في الجبال . ولا حاجة إلى القول بأن «الحزب» كان هو حزب الاستقلال، وهذا ما كان عليه المشهد الحزبي المغربي، ومن هنا بدأ نعت حزب الاستقلال كحزب يتجه إلى إقامة نظام الحزب الواحد دون أن تكون للمغاربة دراية بما يعنيه الحزب الواحد في الأنظمة الديكتاتورية. المهم أن عبد القادر الراشدي كان يرغب في الحصول على أمر من الحزب حتى يصبح موظفا في الراديو. في أجواء مخيم لتلاميذ الحاج أحمد بلافريج في عين خزوزة كان الإلهام خصبا، فكان ميلاد «رقصة الأطلس» رائعة عمرها الآن ستين عاما. بعدما انتهى المخيم، وعاد الجميع إلى الرباط سيلتحق عبد القادر الراشدي برجل «القانون» صالح الشرقي، لأن الحزب قال للراشدي على لسان عبد الكريم الفلوس، بأن لا مانعا من كونه يحصل على وظيفة في «راديو ماوروك». شاءت الأقدار أن يكون التحاق الراشدي بالجوق العصري للإذاعة فقط كعازف كمان، جاء إلى الإذاعة يحمل معه «رقصة الأطلس».. المعطي بن قاسم ومحمد المزكلدي كانا في البداية هما المطربان للجوق العصري، أما المطرب فويتح، رحمه الله، فكان غير معروف في الداخل، كان مشهورا فقط، وأساسا عند المغاربة في المهجر وفي باريس على وجه الخصوص. ولكن عودة الملك إلى عرشه ستدفعه للعودة إلى المغرب ليخاطب الملك في إحدى روائعه : «ملي مشيتي سيدي والنار شاعلة في قلبي». أما إسماعيل أحمد، فإن الصدفة هي التى ستحول من عازف بارع على الكمان إلى مطرب: كان فريق تقني من الإذاعة الوطنية حاضرا عندنا في ثانوية مولاي يوسف بمناسبة سهرة مدرسية، ومما سجلوه في السهرة أغنية «توبة توبة» لعبد الحليم حافظ من تقليد الصديق عبد العزيز بن عمرو، أخ الأستاذ عبد الرحمن بن عمرو. أصحاب الحل والعقد في زنقة لبريهي وكان المرحوم قاسم الزهيري مديرا على الإذاعة الوطنية، أعجبوا، لا فقط بصوت عبد العزيز بن عمرو، بل كذلك بالطريقة التي أدى بها «توبة توبة»، فسمع الناس عبر الأثير، ومنهم المرحوم والد عبد العزيز، إعلانات تتكرر كل يوم عن جولة ستنظمها الإذاعة عبر المدن، وسيكون من نجومها «الوجه الجديد» عبد العزيز بن عمرو، وسيسمع الناس مع الإعلان عن «توبة توبة» صوت عبد العزيز بن عمرو يغني «توبة توبة». غضب الوالد، رحمه الله، وطرح على ابنه عبد العزيز أن يختار بين السخط والرضى، أن يصبح من أصحاب اللهو والطرب، أو يظل في المدرسة. وفضل طاعة الوالد وتابع الدراسة إلى أن أصبح مهندسا، ونسي حكايته مع «توبة توبة إن كنت أحبك ثاني توبة». حل موعد سهرة سينما روايال بالرباط (قبل استكمال بناء مسرح محمد الخامس بأربع سنوات)، وظهر أفراد الجوق الوطني للإذاعة، وأذكر أن أبرزهم كان هو المرحوم صالح الشرقي، الذي لم أفهم الأسباب التى جعلته في كواليس سينما رويال يقول «يا عبد اللطيف هانت غ تشوف» ومعناه أن مفاجأة سيكون مسرحها سينما روايال. قال مقدم السهرة، ولعله كان الصديق أحمد الريان: «نقدم لكم الآن الجوق الوطني في رائعة عبد الحليم الحافظ «توبة» وسيغنيها لأول مرة إسماعيل أحمد». صاح الجمهور ولم تتوقف حملة الصفير، مما جعل المرحوم إسماعيل المكي في موقف حرج وأمام «عدوان» جماهير روايال، لاعلم لها بالأسباب العائلية لغياب «النجم الجديد» عبد العزيز بن عمرو، وبالتالي اعتبر الحاضرون في السهرة أن الإذاعة كذبت على المستمعين لما قالت في الإعلانات أن الذي سيغني بصوته «توبة» هو «الوجه الجديد» عبد العزيز بن عمرو، فإذا بالوجه الجديد هو إسماعيل أحمد. لم يكن أداء أحمد، رحمه الله، لرائعة عبد الحليم حافظ، سيئا إلى الدرجة التي جعلت الجمهور يستقبله بالصفير. ولولا الهدوء الذي تحلى به عازف الكمان المقتدر إسماعيل أحمد تلك الليلة، وهو يواجه ببرودة غضب القاعة، لما كانت تلك السهرة مناسبة لاكتشاف إسماعيل أحمد كمغني سينال بعد سنة شهرة كبيرة بأدائه «مراكش يا وريدة بين النخيل» من كلمات الصديق المرحوم محمد بلحسن ومن ألحان عبد القادر الراشدي وأداء جميل لأفراد الجوق الوطني برئاسة أحمد البيضاوي، كان أداء الجوق الوطني للإذاعة يختلف بحسب صالح الشرقي، لأن البيضاوي كان غائبا تلك الليلة. لرجل «القانون» رحمه الله حضور قوي بمثابة قيمة مضافة في الحذف الموسيقي. ومن حسن حظ إسماعيل أحمد كسلاوي، أي ينحدر من مدينة السي صالح، مما جعل رجل «القانون» يتواجد في سهرة سينما روايال. اعتاد صالح رحمه الله أن يطرح علي هذا السؤال : أنت غارق في السياسة فكيف تحضر كل المناسبات الموسيقية، وكلما حاولت أن أشرح ذلك، سرعان ما يوقفني : «أنا فقط أتفلى معك». في يونيه 1978 التقينا في مقبرة بالرباط وسألني: ما علاقتك بهذه الجنازة ؟ فكانت مفاجأة بالنسبة إليه لما قلت : تريد مني أن أغيب عن جنازة خالي. استغرب صالح الشرقي أن يكون عبد السلام ملين «حبيبي» أي أخا لأمي، فطرح هذا السؤال: هل تعرف من هو حبيبك ؟ «أعرفه طبع كعازف ماهر على «الطر مع عدة أجواق أندلسية». هنا استوقفني صالح الشرقي في باب المقبرة : «إن حبيبك هذا الذي دفناه هو الوحيد أو بالأحرى هو آخر من رحلوا عنا ممن لهم إلمام حقيقي بثرات طرب الألة.» ومع الأسف، فإن حبيبك عبد السلام ملين لم نفقده وحده في هذا اليوم، لأنه حمل معه إلى الآخرة ثروة حقيقية تتمثل في رصيد معلوماته عن الطرب الأندلسي». كانت تربطني علاقات خاصة بحبيبي، لأنه ظل دائما رائحة أخته التي ماتت جراء إصابتها بمرض لم يكن في مجتمعنا الرباطي يعرف أن اسمه سرطان الثدي.» وطوال أيام الجنازة شاهدت حبيبي يبكي كما لو كان طفلا. وشاهدته مرة أخرى يبكي عندما التقت عيناه بعيناي في «بارلوار» سجن لعلو بعد ما بدأت في شهر نوفمبر 1963 محاكمة المتهمين في المؤامرة.... المؤامرة التي دبرها في يوليوز 1963 الكولونيل أفقير مدير الأمن تمهيدا لتوليه سنة بعد (صيف 1964) وزارة الداخلية. كانت علاقاتي مع خالي عاطفية قبل كل شىء، وصالح الشرقي، رحمه الله، أفادني بما كان للمرحوم عبد السلام ملين من رصيد معلومات حقيقية ودقيقة عن الثرات الأندلسي في المغرب ومدينة الرباط على الخصوص، وما أملكه الآن هو صورة لخالي يوم شارك مع مجموعة قليلة من العازفين ذهبوا إلى نيويورك عام 1936 يوم رحل إلى أمريكا بمناسبة معرض دولي كان الأمريكيون ينصتون إلى الطرب الأندلسي بكثير من اللامبالاة، وكان خالي يقول بأن المهم هو «أنني زرت مبكرا أمريكا». رحمه الله خالي الحاج عبد السلام ملين ورحم الله صالح الشرقي الذي ترك «القانون المغربي في حدادف» ورغم أنه رحل عن الدينا وعمره ثمانية وثمانين سنة، فإن «الفراق صعيب» كما يقول المغاربة.