سبق لنا أن عالجنا في هذه الزاوية خلفية نشوء الكتلة الديمقراطية، والاهداف الكبرى التي شكلت وازعها الأول من أجل أن تنظم في إطار سياسي كبير ضم أحزابها الوطنية المعروفة: الاستقلال والاتحاد وحزب التقدم والاشتراكية ، ومنظمة العمل التي تحولت الى تيارين أحدها يوجد في الاتحاد الاشتراكي والآخر في اليسار الاشتراكي الموحد. ويتعين علينا اليوم أن ننظر في وظيفة الكتلة الديمقراطية على ضوء الظرفية الراهنة التي تتميز بمعطيين أساسيين: أولهما الحركة الاجتماعية التي يعرفها الشارع، والتي هي نتيجة لسيرورة نضالية طويلة تعود بدايتها الى منتصف الستينات من القرن الماضي، سيرورة سرعان ما التقت مع مستجدات انتفاضات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا في الشمال الافريقي وفياليمن وسوريا والبحرين بالشرق . كانت وظيفة الكتلة الأولى هي العمل على دمقرطة الدولة وتحرر المجتمع . وبلغة الربيع العربي اليوم، كانت تلك الوظيفة ولا تزال تتلخص في إسقاط الاستبداد في وجوهه الثلاثة ، السياسي والاقتصادي والثقافي . إنه ذات الشعار الذي ترفعه حركة العشرين فبراير منذ ما يزيد عن ثمانية أشهر . ويعني إسقاط الاستبداد بمظاهره الثلاثة في عقول مؤسسيها ونشطائها ومثقفيها ليس التنظير ولا التفلسف في المجردات ، وإنما الدفع بجهاز الدولة للانتقال من القبضة التحكمية والتعالي عن المجتمع ،الى الانصهار فيه والانصات لأسئلته والاستجابة لمتطلباته التي يوجد على رأسها دمقرطة الحياة السياسية وعصرنة الدولة، وتحديثها وتحييدها ، وجعلها أداة في يد المجتمع من أجل سيادة الحرية وتقاسم الثروة بمنظار العدل الاجتماعي . وهذا يقود الى نقل الدولة من مستوى التجربة الفردية والفئوية الى مستوى التجربة الجماعية التي تشكل الأساس المتين للدمقرطة الشاملة للدولة ذاتها، وللمجتمع، بكل مكوناته الإثنية والثقافية. وليست دمقرطة هذين المكونين، الدولة والمجتمع ، ذات غاية أخرى ، غير العمل على إقبار الفساد بكل مظاهره، والذي يبقى نتاجا طبيعيا للدولة الفئوية. وهي ذي الوظيفة الثانية التي تطّلع بها الكتلة الديمقراطية كما نستشف ذلك من ميثاقها سواء في لحظة التأسيس، أو في لحظات تجديد هذا الميثاق وإثرائه على ضوء مستجدات كل مرحلة . ويمثل القضاء على الفساد هدفا كذلك لحركة العشرين من فبراير. إن حركة الكتلة الديمقراطية ليست ثورة، بل هي حركة إصلاح تطول في الزمن وتتحقق غاياتها في سياق سيرورة حقب متوالية قد تتتابع دون انقطاع . وقد تعرف قطائع ، وذلك يرجع لصراع القوى داخل الدولة والمجتمع معا. ولكأن الكتلة الديمقراطية في المغرب بتوافق مع رموز الدولة هي أدوات في يد التاريخ لصنع مصائر مناهضة لماض لم يعد يغري أحدا في لحظات تتميز بسطو الأقوياء في العالم على مقدرات الكرة الأرضية ... تنطلق وظائف الكتلة تلك إذن من مشروع دولتي ، مجتمعي ،متعارض كليا مع مفهوم التكتل الانتخابي الظرفي الذي تحكمه حسابات ظرفية وتقديرات مصلحية خاصة، هذا بالرغم من أن أحزابها ، كلا أو بعضا ، يمكن أن تسلك في هذه الظرفية أو تلك ، مسلكيات قد تبدو ظاهريا ، وكأنها مناهضة لهذا المشروع التاريخي الكبير ، غير أن قوة الفكرة وجبروتها ، فكرة التأسيس الذي هو نفسه امتداد للحركة الوطنية ، سرعان ما يعيد هذا أو ذاك، من مجمل تنظيماتها، الى الاصطفاف بغاية معاودة العمل لتحقيق الوظيفة الرئيسية للكتلة ، الوظيفة الموجهة لهذا العمل ... غير أن للإطار المذكور ، نقائص من ضمنها ما هو تنظيمي ويوجد على قائمته عدم الاهتمام بالجهد المطلوب لتوحيد جميع قوى اليسار، وهو السبب الذي قاد النهج التحكمي في الحقل الحزبي العام الى دغدغة طموحات بعض مكونات هذا اليسار، واستقطابه في سياق قطبية قاصرة النظر مبتئسة الفكر ، متناقضة التصورات ، متهافتة الأهداف والغايات . وعلى النحو ذاته ، يوجد من ضمن تلك النقائص إهمال عطاء المثقفين الذين كانوا جميعا وبمختلف توجهاتهم ، وفي أهم اللحظات الكبرى للصراع الثقافي والسياسي ، القاعدة الفكرية المنظرة لمشروع الكتلة الديمقراطية ، باعتبارها كما قلنا ليست تكتلا انتخابيا ، ظرفيا، أنانيا ،ما دامت حركة اصلاحية طويلة الأمد ، تثريها تصورات المفكرين مهما تباعدت بهم تصوراتهم .