طوت ليبيا صفحة من تاريخها المعاصر، وفتحت صفحة جديدة مع سقوط رمز نظامها السابق، ورحيله من عالم الوجود إلى العالم الآخر بعد أكثر من 42 عاما من حكمه الفردي الاستبدادي، وذلك بعد شهور ساخنة من الاشتباكات والاقتتال العسكري والحرب الوطوس التي دارت على امتداد الأرض الليبية بين قوات المجلس الانتقالي المدعومة من الطيران الحربي لحلف الناتو والقوات الموالية للعقيد الراحل معمر القذافي التي اصطلح على تسميتها ب «كتائب القذافي». وبالطبع، فإن الصفحة الجديدة من تاريخ ليبيا المعاصر لا يتوقع لها أن تسطر حروفها وكلماتها بسلاسة ويسر ودون تعقيدات في ظل إرث ثقيل تئن تحت وطأته الحالة الليبية عموما بعد هذه الجولات من العمليات العسكرية التي شاركت بها قوات حلف الناتو، وقد أكلت تلك العمليات العسكرية الحربية الأخضر واليابس، وكبدت ليبيا خسائر باهظة، سترهق الاقتصاد الليبي وثروات ليبيا في المرحلة التالية من إعادة الإعمار وتسديد فواتير الحرب. فالمرحلة التالية من تاريخ ليبيا ربما ستكون صعبة للغاية، حيث يبدو مخاض ولادة البديل الديمقراطي المؤسساتي مخاضا عسيرا للغاية بعد تلك العقود وبعد تلك الحرب الداخلية التي جرت فصولها في الأشهر الماضية في مجتمع قبلي. فكيف نقرأ الوضع الليبي بعد الرحيل النهائي لمعمر القذافي من دنيا الوجود، وما الاحتمالات المختلفة في ظل بروز مؤشرات تشير إلى احتمال اندلاع صراع على السلطة في البلاد على خلفية تنازع محتمل على السلطة بين القبائل والمناطق وبين الإسلاميين والليبراليين ومختلف الأطياف الفكرية والسياسية الموجودة في البلد قبل التوافق على نظام سياسي واضح. في البداية لا بد من القول، بأن الرحيل المأساوي والدراماتيكي للعقيد معمر القذافي وولديه خميس والمعتصم والعديد من قياداته المحيطة به يلخص مأساة الحالة العربية المعاصرة، التي امتلأت بعض أنظمتها بالشعارات المتنوعة المشارب الفكرية والأيديولوجية، وقد انتهت بسقوط مدو كانت يد الغرب هي الأساس فيه، وهو ما حصل بالضبط في العراق والآن في ليبيا. وبسقوط هذين النظامين بالطريقة التي اعتمدت بالأساس على المساعدة العسكرية من الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، تكون القوى والأحزاب العربية ذات الاتجاه القومي قد تلقت ضربة قاسية، لكنها في المقابل وجدت عزاءها في مخاطبة الشعوب العربية انطلاقا من مقولة المؤامرة التي لولاها لما سقط حكم القذافي ومن قبله نظام صدام حسين. فالأحزاب العربية ذات الاتجاه القومي، التي كانت في فترات سابقة تتغنى بوجود نظامين قوميين في العراق وليبيا، لم تكن لترى الأمور بعين فاحصة ومدققة للتمييز بين الغث والثمين بين أنظمة ترفع شعاراتها القومية وبين سلوكياتها على الأرض داخل البلاد، حيث ساد الاستبداد الداخلي وهدر الثروات وإهمال بناء المؤسسات الوطنية لصالح سطوة وحضور الفرد الذي تحول مع الأيام إلى طاغية ، وبين سياساتها الخارجية التي أدخلت العراق وليبيا على سبيل المثال في متاهات وسراديب مغلقة في ميادين المجتمع الدولي ومؤسساته، وقد أوصلت القذافي في العقد الأخير بعد جملة من الأخطاء القاتلة للسعي نحو مراضاة الغرب، والقبول بصفقات سياسية سرية معه، ومن بينها تقليص علاقاته مع العديد من القوى العربية التي كانت ليبيا تفاخر وتجاهر بالعلاقة معها ومنها غالبية القوى والفصائل الفلسطينية ذات الاتجاهات الفكرية المختلفة القومية والماركسية على حد سواء. وعليه، فإن النهاية الدراماتيكية لنظام القذافي، وسقوطه الدموي، أصاب بوصلة معظم الأحزاب القومية العربية ب «لخبطة وتيه» كبيرة، فقد كانت بعض من تلك الأحزاب في فترات معينة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي مولعة بالقذافي، إلى حد اعتباره وريثا لجمال عبد الناصر وأمينا للقومية العربية، ومنجذبة نحو الشعارات التي كان يطلقها من جانب ونحو الدعم المادي الذي كان يقدمه لها من جانب آخر. وهي والحال الآن قد تحتاج لفترة من الزمن من أجل الخروج من هذه «اللخبطة والتيه» التي اعترتها وتقييم المرحلة بعين ثاقبة تقفز على عواطف الانتماء الأيديولوجي لصالح رؤية تربط بين الأيديولوجيا والواقع، بين الأيديولوجيا ومصالح الناس ، وتفصل بين الحقيقة كما هي في الواقع والطرب بالشعارات، وتنهج طريق المصالحة والتواؤم والتوافق مع الاتجاهات الفكرية الموجودة، وهو ما سعى له بالفعل العديد من القوى والأحزاب القومية والإسلامية في البلاد العربية منذ سنوات طويلة تحت عنوان «المصالحة بين القومي والإسلامي». إلى ذلك، فإن سقوط القذافي ورحيله الجسدي، ومعه بعض أفراد أسرته، أهال التراب على الكم الكبير من الأسرار والخبايا التي يعتقد الكثيرون بوجودها بين يديه وحده تقريبا، ومنها ما له علاقة بأكثر من مسألة لم يتم الحسم النهائي بشأنها، كاختفاء الإمام اللبناني موسى الصدر عام 1978 ورفيقيه بدر الدين ويعقوب ، وحادثة طائرة «بان أم» الأميركية التي انفجرت في منطقة لوكربي في سماء أسكتلندا عام 1988، وحادثة الطائرة الفرنسية التي انفجرت أيضا في سماء النيجر. إن أسرار المرحلة الماضية التي ذهبت مع رحيل معمر القذافي قد تكون ذات بعد هام من زاوية أهمية الركض والسعي وراء الحصول على الحقيقة لتفكيك بعض الألغاز التي طالما بقيت دون حسم نهائي. فالتهم التي كانت قد وجهت لنظام القذافي تجاه تلك الحوادث بقيت تهما « جوالة» انتقلت من طرف لآخر ومن متهم لآخر، حيث كانت بعض الأطراف والجهات الغربية قد اتهمت بها بعض المجموعات والدول، كمجموعة (فتح المجلس الثوري) التي كان يقودها أبو نضال وتارة (الجبهة الشعبية/القيادة العامة) وتارة العراق... إلخ، ورست أخيرا على نظام معمر القذافي، لكنها بقيت دون حسم نهائي، رغم محاكمة اثنين من المواطنين الليبيين قامت ليبيا بتسليمهما فبرئ واحد منهم، وألصقت التهمة بآخر، وقد خرج من السجون الغربية بعد عدة سنوات وبعد أن أقعده المرض العضال، ورغم قيام القذافي بدفع تعويضات مالية ضخمة لأسر الضحايا، التي عدها البعض في حينها سلوكا سياسيا من القذافي لا أكثر ولا أقل لدفع التهمة عنه ولرفع الحصار عن ليبيا ولو بالدفع المالي، وهو ما كان بالفعل. وبعيدا عن التفاصيل الكثيرة التي قد تقال بشأن رحيل معمر القذافي والنهاية الدراماتيكية التي انتهى إليها بمقتله، ما يهمنا هو المستقبل التالي لليبيا، حيث تطل المخاوف وتنطلق من احتمال توالد سيناريو مرعب يتمثل بالانتقال من حرب إسقاط النظام السابق وما اعتراها من تدمير واسع للمرافق والبنى التحتية في مختلف المدن والمناطق، إلى (الفوضى العامة العارمة) في ظل المخاوف من ارتفاع وتيرة ما أسماه البعض «الهجمات الانتقامية» التي قد تقع في مجتمع يغلب على تكوينه الاجتماعي الانتماء القبلي والعشائري، وفي مرحلة انتقالية صعبة من سماتها غياب القانون ولو بشكل قسري ومؤقت - مع انتشار آلاف الشبان المسلحين وفوضى السلاح الخفيف والثقيل ووجود مجموعات حزبية وتنظيمية ومليشيات تتبع لها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مجموعات تنظيم (الجماعة الليبية المسلحة) التي يقال إنها تمثل تنظيم القاعدة في ليبيا. إن مرحلة الفوضى بعد السقوط والرحيل الجسدي لمعمر القذافي واضحة الآن، مع انفلات السلاح في الشارع بين الناس وبروز أشكال من «الصراع» السياسي بين مختلف الأطراف السياسية وحتى العسكرية التي بدأت بالبروز على الساحة الليبية، بما فيها التشكيلات العشائرية والقبلية التي يجب احتواؤها وعدم إغفال دورها في بلد كليبيا. وبالطبع، فان معالجة تلك الأمور تعد الآن من المهام العاجلة على المجلس الانتقالي، لمنع وقوع أي أعمال انتقامية قد تجر البلاد نحو هاوية الحرب الأهلية ومستنقع الدماء، في مشهد قد يذكرنا بما جرى في العراق بعيد أيام قليلة من احتلاله على يد قوات التحالف الغربي. ومن هنا تأتي أهمية إيجاد قنوات وأطر سياسية في المجلس الانتقالي المؤقت راشدة وعاقلة لضبط الصراعات الطائفية والمناطقية والإثنية الخلافات المحمومة التي عمت المجلس نفسه، بالإضافة للخلافات التي أثارتها قبائل مختلفة، وحتى شرائح اجتماعية أخرى كالأمازيغ، والطوارق... وعليه، فإن المهمة العاجلة الآن في ليبيا تتمثل في ضرورة السعي الحثيث وفي العمل من أجل قيام نظام سياسي ينتقل بالبلاد قولا وعملا إلى التعددية السياسية وإلى الدولة المدنية، إلى دولة جديدة تتأسس أولا على قاعدة سيادة القانون. وثانيا على التوافق على نظام سياسي قائم على دستور واضح، وتعطي الأولوية ثالثا لتأمين الحدود وحقول النفط والمؤسسات العامة، وتعمل رابعا على بناء جيش وطني وحل كل التشكيلات العسكرية وسحب السلاح منها نهائيا وعدم السماح بوجود مجموعات أو مليشيات مسلحة تنتمي لهذا الحزب أو ذاك. وتتجه خامسا لإدارة عملية معقدة من أجل إعادة إعمار ليبيا وبناء الاقتصاد، والانتباه ل«اندلاق شهية» البعض في الغرب الأوروبي للفوز بفاتورة إعمار باهظة على حساب الشعب الليبي، حيث تواترت أنباء عن سعي فرنسا لاحتكار ثلث النفط الليبي، وعن أن اتحاد الأعمال الفرنسي ينتظر أن تتيح ليبيا له فرصا استثمارية بقيمة 200 مليار دولار في السنوات العشر المقبلة. وفي هذا المقام، تقتضي الأمور الإسراع بتشكيل حكومة وحدة وطنية، والتغلب على الخلافات القائمة حاليا في صفوف المجلس الانتقالي، وعلى الانقسامات القبلية، وعلى التنافس غير المحمود بين التيارات المختلفة على حصص وكعكة السلطة وامتيازاتها، وهو ما يقتضي من كل القوى تغليب الرؤية الوطنية العامة على الرؤية والمصالح الحزبية الضيقة، ولمصلحة القيادة الجماعية، وإلا فإن البلاد ستعيش حالا من الفوضى، يترحم عندها الناس على القذافي ونظامه، كما حصل بالفعل في الحالة العراقية، حيث ما زال الانقسام سيد الموقف وما زال الانفلات الأمني يضرب أطنابه رغم مرور أكثر من ثماني سنوات من سقوط نظام صدام حسين. إن الحكومة الانتقالية المرجوة والمنشودة في ليبيا يمكن لها حال تشكلت بالتوافق الوطني العام، مع حل كل التشكيلات العسكرية وتسليم كل السلاح للجيش الوطني، أن تقود ليبيا إلى الانتخابات في غضون أشهر، في مرحلة صعبة لا تقل صعوبة عن المرحلة التي بدأت في 17 فبراير الماضي ، وعلى طريق بناء دولة تعددية ديمقراطية مؤسساتية، وإرساء العملية السياسية بأقل قدر ممكن من الخسائر والسلبيات والأضرار، وصولا إلى إجراء الانتخابات التشريعية الشاملة ووضع دستور جديد للبلاد.