مصرا باحتداد معرفي بالغ الإثارة يلج يوسف زيدان الروائي المصري الكبير في بؤر فلسفية/عقائدية/معرفية هي من صميم بناء الصرح اللاهوتي/الناسوتي للعقيدة المسيحية، وما أدراك ماهي قيمة الإيغال في هذا الصرح بمختلف مذاهبه وفرقه ، والمآسي الرهيبة التي طالت المتنابذين من الأشياع المختلفة الرؤى والتأويلات والتفسيرات لشخصية محورية ساهمت بثقلها الغر ائبي في إثارة أكبر قضية هوية،أعني السيد المسيح. يبقى عيسى بن مريم وسط هذا الإعصار المعرفي الهائل بمثابة المشكاة الغامضة وسط ليل التأويل النصراني لذات الله والمسيح والعذراء والروح القدس، وكأن الله تعالى أراد باجتراح هذه المعجزة الخاصة بالنبي عيسى،خوض درس جديد في الإيمان بما يلقيه من عجائب من سدرة منتهاه . واللافت للنظر في هذا الخوض في متلاطم لجة المعرفة والإيمان أن رواية عزا زيل تأتي محملة بتأويلاتها الجديدة من لدن كاتب مسلم سني، خاض ذرى هذه )المأساة( الرهيبة، وكأنه أسقف نصراني قد تبحر في أوقيانوس الملة المسيحية بكامل تجلياتها العقائدية المعقدة الرهيبة، بكامل تجلياتها العقائدية المتعددة المشارب والمناهل. حراك الغيب والشهادة : سيستوقفنا العنوان كعتبة ملفوفة بالمكر والرمز، عزا زيل ،آه ، إذن الشيطان باسمه الفردوسي هو شخصية من الشخوص المركزية في بناء النص الروائي ، إليه يندفق السرد الروائي ، وعنده يتوقف الروائي لاسترداد نفسه والوقوف عند ملاحظات رئيسية من رئيس الشياطين بكامل النعومة واللطف ،يدلي ابليس وهذا هو الاسم الأرضي الذي انتحله فيما بعد، بملاحظات في غاية النباهة ، كأنه أدرى بما يمليه السياق الحيوي لمجريات الرواية. عزا زيل يهوى المناطق الملتبسة بالظلال والأهواء، وخفايا النفس، في المقابل يظل بطل الرواية الراهب هيبا، أو هيبا الغريب،القس الطبيب الشاعر المتبحر في علوم اليونان والعقيدة القبطية القديمة،مزدهيا بحسه الأبيقوري المندفن وراء غلالة الرهبنة والورع كأنه يرتدي مسوحا زائفة أو قناعا يخفي طبيعته البشرية الأصلية التي شابت حوافها ادراكات ووعي هو من غير صميم السليقة الطبيعة البشرية. طيلة مجريات السرد الروائي يظل هذا التنابذ الرؤيوي بين عزا زيل وهيبا هو المحرك الفاعل وراء تنامي الإدراك الذاتي لهيبا، تختمه في نهاية المطاف اللعنات الرجيمة لهيبا لذات ابليس وكأنه في نهاية المطاف عالم ومدرك للاختلاسات الخفية التي يمارسها ابليس بذكاء بالغ وبحس راق للوقوع في الخطيئة. صياغة الملة النصرانية : نحن في الشرق مهد النبوة، والابتداعات الكثيفة لصيغ فهم العالم.الشرق الغافي في نعماء الميتافيزيقا والحس الوثني المشوب بآفاق غيبية، ينضمر الكفر بالإيمان ،القبطيون الذين يجسدون آلهتهم في أصنام يعبدونها ، ومع ذلك يؤمنون بالبعث في اختلاقات من أذهان كهنة المعابد في عبور النفس والجسد بمركبة وسط أهوال للوصول إلى واحة الأمان وخلاص النفس ، وكذا الانسلالات الزيوسية والعشتارية والأبولونية من أرض اليونان والعراق والروم وسوريا، كل ذلك في انحشار ممض ولاهب يؤطر تصور الإنسان معرفيا في نشوء العالم والمصير البشري والتدبير اليومي لأحوال الدنيا ، تخترقه بين حقب القرون أحيانا دعوة الأنبياء للبشر للإيمان باله متعال، مفارق ،وواحد. نحن في الشرق إذن ،يتصالب الوعي الوثني في وجه دعوة عيسى الموهوب للعالم بطريقة مختلفة. من دون أب، تلده أمه مريم، وينشأ بعيدا عن وطنه، في أرض مصر وعندما يعود يتصدى له الكهنة الفريسيون في سجالات عقائدية ، تنضو عنها هويته المختلفة صروفا، من الالتباسات الكثيفة التي تنزاح في نهاية المطاف بمعجزة الاهية يجترحها بإذن ربه، ترفع من قيمته الغرائبية وسط توحيد يهودي كادت أصباغ الطقوس أن تمحو عنها بهاء التوحيد الموسوي الأصيل وينمحق تحت طائلته تجارة الدين خاصة في الهيكل عندنا صار موئلا لصرافي الذهب بدل عبادة الله الأوحد. يوسف زيدان مدرك جيدا لهذا الركام التراثي المعرفي الهائل الذي أسس مع توالي الحقب والقرون الهوية الوثنية الجديدة لشخص السيد المسيح ، إدراكه يقول معنا في نهاية المطاف : لقد احتلت الوثنية مكانها الجديد في رحابة الأكليروس المسيحي، وغدا السيد المسيح بالاختلافات الرهيبة المستمدة من أصلاب الفكر الوثني القديم الوجه الاستعاري الجديد للوثن المؤله ، وبذلك غدا النبي صنما، وغدا النبي أقنوما وأيقونة تجتر ذكرها المزعوم ملايين البشر في العالم، هل كان عزا زيل وراء ذلك؟ ذاك ما يوحي لنا به يوسف زيدان خاصة في حوار من أروع الحوارات التي قرأتها : - ألا تنام )يا عزا زيل( - وهل أنام و أنت مستيقظ وكأن رحى النزال الأزلي الدائر بين ابليس لا يفتر أبدا عن التوقف . أين الباحث اللاهوتي، وأين الروائي؟ يوسف زيدان كما نعلم جيدا جميعا هو سادن المخطوطات والوثائق واللفائف في مكتبة الإسكندرية، أمينها وحالب ضرعها المعرفي،بالتؤدة الخالصة المعهودة في الاكاديميين، الجهابذة، ولكنه في المقابل يملك الحس الإبداعي الكبير لعتاة الرواية العالمية، لا يني في صروف سروده المتنوعة داخل المتن الروائي عن الالتزام الكامل بقواعد السرد الروائي الأفقي البلزاكي المعروف ، في انسيابية رائعة محللة بلغة تنهل مفرداتها من قاموس عربي عالي القيمة، مؤسسة صرحها باعتناء شديد ، ودقيق لخصوصيات المكان والزمان وتوابعهما الأليفة من مستلزمات الحكي المؤطرة والمانحة دفق الحياة الحي في نسغ وشريان المعتقد المعرفي الناظم لخطاطة الحكي المركزية . ما الذي أضافه يوسف زيدان للمنظومة الروائية التي اتخذت من فضائها القروسطوي المسيحي مناط الفعل الروائي لشخوصها وأحداثها وطروحاتها الفلسفية كما فعل من قبل السينمائي الايطالي امبرتو ايكو في رائعته اسم الوردة أو حديثا كما أقدم عليه الروائي الأمريكي دان براون في كود دافينشي. لا شك أن امبرتو ايكو في اسم الوردة قد وضع كتاب الضحك للوثني أرسطو في محك التجربة الإيمانية المسيحية الملفعة بكثير من الاحتراز والغلو الأرتذوكسي المانع لكل كتب الهرطقة الوثنية كما ينابذها الراهب الأعمى في الرواية ويشمر عن ساعد الملة المسيحية في مواجهتها وعدم الاقتراب من الكتاب المحرم المشار إليه آنفا. إن انساق المعرفة باختلاف مشاربها العقائدية ظلت طيلة هذه الحقبة مسيجة بإطار الكفر والإيمان ، وظلت حرية الاطلاع على مختلف تصانيف الفكر ضربا من المستحيل خوفا من النفوس الهشة من الارتماء في فلوات الزندقة والهرطقة. أما عند دان براون فلا يعدو أن يكون الأمر تركيبا متحاذقا لمجموعة من التصانيف الرمزية الضاربة في جذور الوثنية القديمة والمسيحية المستحدثة من قبيل زهرة الصباح ،الأسد ،معمار الكنائس الحافل بالإشارات الدالة على معاني دينية، انه توظيب ذكي يروم أدرمته ضمن سياق حكائي ينبني على حبكة بوليسية تروم بدورها أفلمة المحكي وطرحه في الأسواق السينمائية. عند يوسف زيدان نجد الأمر مختلفا، فالرجل عالق حتى التخمة في مطبخ الخطاطات التاريخية ،يسترفد زاده المعرفي من التراكم الهائل لكم المخطوطات واللفائف والوثائق التي تزخر بها مكتبة الإسكندرية العامرة ، ولعل هذا البذخ المعرفي الهائل استزاده توقا لأدرمته، وانتهاج خطاطة سردية محددة المعالم تؤطر هذا الثراء المعرفي الهائل . يتخذ يوسف زيدان حيلة ماكرة ،لا أدري ما الذي يريده ايهامه بنا بها ، وهي إحالة المنجز الروائي إلى شخصية هيبا الغريب الراهب المصري الذي وثق في رقائقه ) الثلاثون( سيرته الذاتية التي يحكي فيها صلب الخلاف المسيحي حول ماهية المسيح، وكل إحالات الهوامش المتناثرة في المتن السردي تجعلنا نعتقد أن لا دور لزيدان في عمله بل إن العمل هو ترجمة من السريانية إلى العربية يقوم بها مترجم لا نعرف حتى اسمه. بيد أن هذه الخدعة لا تنطلي علينا طالما أن الرواية هي الرواية بكل متطلبات انجازها المتعارف عليها من بلزاك إلى نجيب محفوظ. ماعلينا، لندخل صلب الموضوع ، ما الإضافات التي نسجها يوسف زيدان ليؤصل طرحه الروائي بمنابعه وموائله المعرفية والجمالية نصا وأسلوبا ورؤية : انه يدخل جهنما ملغومة بكل الأسئلة الوعرة التي ما طفق الأكليروس البابوي إلى يومنا هذا يتجنب الإذعان للإجابة عنها، متمثلة في أهم اقانيم ثلاثة نسجت الرؤية الدينية العامة للعقيدة المسيحية ، اقنوم الأب والابن والروح القدس في توليفة غرائبية متوحدة هي صميم الاعتقاد في الملة المسيحية. معرفيا يناوئها في القرن الرابع الميلادي طرحان توحيديان يعارضان التثليت الاسكندراني والروماني، متمثلين في اجتهادات أريوس المصري ذي المنهل التوحيدي والأسقف مسطور الأنطاكي ذوي المعنى التوحيدي نفسه،لا يكتفي يوسف زيدان برصد الاختلاف والائتلاف المللي، بل انه على لسان بطله هيبا الغريب يزيح النقاب عن الذرائعية الكنسية التي تخفي قول الفطرة البشرية الحق ، وتختفي وراء مزاعم كيرلس الأسقف الاسكندراني الذي صاغ أول محكمة تفتيش في تاريخ البشرية قبل الأسقف تيركمادا الاسباني بعشرة قرون. ماذا يريد هيبا الغريب؟ انه حائر متوزع بين أصلاب وعي طارئ على فطرته ،ينداح به عن الإدراك الطبيعي للأشياء ، ويسقطه في وهم الإثم طالما أنه منجذب بقوة الحس إلى النداء الأنثوي لأوكتافيا الوثنية ومرتا التدمرية الرائعة. فضائل حواء
الشق الأنثوي يمفصل الرواية إلى اتجاهين ، الرهينة الخشنة التي تكوم الحضور البشري في حضرة الغياب، والفطرة الخالصة التي تتحاشى البزوغ والسطوع مخافة الإثم والعقاب ، يصير الوجود إذن خاضعا لتراتبية المعرفة الكنيسية الصارمة ، وسيف كيرلس معلق على الرقاب،لكن الأنثى تطل بقوة الحس لتعيد التوازن المفقود في شخصية هيبا الغريب، يطفح الحس ، وتنضمر الكآبة المسيحية،ليزهر الجسد في ليل الثالوث القسري،ويلهج الجسد الأنثوي الحارق بنداء الاصطفاف في النسق الطبيعي للذات البشرية ، الأنثى التي تعيد صياغة وجود هيبا البشري بكامل اليسر، مبشرة بأن معرفة الله الحق إنما هي في صميم النزال الدنيوي اليومي المباشر ، وان ناموس الله المشرعن لعلاقات الناس إنما يدرك ويفهم في الحراك والتدافع اليومي. المرأتان أوكتافيا ومرتا التدمرية تدعوان للاندغام الطيع والميسر في حركة الحياة، لكن عزا زيل الصوت الخفي للانحراف يجعل من وجودهما محركا للخطيئة وان كانت المرأتان لا تنشدان سوى حياة زوجية طبيعية. من هنا كان السقوط في زيغ يحجب صفاء البصيرة ، حالكا تكاد تنقطع الآصرة الطبيعية / الفطرية وبين الخالق والمخلوق وتتوه في انعطافات الرؤية الوثنية من جديد. يصهل جسد أوكتافيا ومرتا في عنفوان الحس والشبق ويدعو هيبا الغريب للعودة إلى نداء الخليقة الأول ، وينأى عن شراك الاغتراب العقائدي المموه بترانيم قدسية زائفة تميط لثام وثنيتها أخيرا ، يذعن الراهب أولا ، ثم نراه ينكفئ حسيرا نحو شرنقة الاكليروس الكثيفة ، بل إن المرأتين في نهاية المطاف تصدانه صدا مخزيا لأنه خارج سياق النداء الأزلي للجسد والروح. لجة منتهى العقيدة : أجزم أن الرواية ليست سهلة في مناط قولها الفلسفي والديني ، يوسف زيدان كما يتراءى اجتاز خطوطا حمراء تناول فيها قضايا عقائدية شائكة الالتباس والاعتقاد من حيث طبيعة الرب والمسيح ونشوء المعتقد في حوارات في غاية الخطورة ، هل كان يوسف زيدان سينجو من دعاة الحجر على العقول في الحظيرة الإسلامية لو اجترأ ووظف نفس الأسانيد في الحقل الثيولوجي الإسلامي . ما أظن أنه كان سينجو. هيبا الراهب الغريب في أحد مونولوغاته الثقيلة العيار يقول :أراني أخشى الغوص في باطني لكي اعرف حقيقة ذاتي الملتبسة كل مافي ملتبس، عمادي،رهبنتي، إيماني ،أشعاري، معارفي الطبية محبتي لمرتا ، أنا التباس في التباس ، والالتباس نقيض الإيمان مثلما إبليس نقيض الله. ص 339 و في مونولوغ آخريقول : )من الذي كان موجودا قبل وجود الإنسان على الأرض، الله، الملائكة، الشيطان، ماذا كانوا جميعا يفعلون قبل وجودنا وانشغالنا بنا( ص 340. وفي أخطر حوار بين هيبا الغريب وعزا زيل : يقول عزا زيل : هل خلق الله الإنسان أم العكس - ماذا تقصد؟ - يا هيبا الإنسان في كل عصر يخلق إلها له على هواه فإلهه دوما رؤاه وأحلامه المستحيلة ومناه ص 348. المسيحية في نسختها الأخيرة تغري بالإيغال في منحرف الاعتقاد طالما أن مسوغات الغواية تلف أقانيمها الثلاثة، المكسوة بطلاء توحيدي رقيق وهش، وتختفي وراءه طبقات كثيفة من الهرطقات الوثنية الفرعونية والهندوسية والبوذية صاغها بحرفية معرفية نادرة بولص الرسول، وقدم للعالم القديم والجديد الصياغة الكهنوتية للبناء المعرفي المسيحي الذي مازال متداولا إلى يومنا هذا، وهو إلى أبعد حد يجافي بجلاء واضح المنزع الفطري التجريدي/ التوحيدي ، إذن لاغرو أن تكون آخر جملة في الرواية : ولسوف ادفن مع الصندوق خوفي الموروث وأوهامي القديمة كلها ثم، أرحل، مع شروق الشمس : حرا حرا. تلك هي الكلمة الأكثر صدقا، كأنها الإكسير الخالد الذي يهب البصيرة فردوسها المتسامي في علياء إنسانية متحررة من الخوف والهلع الهرطقي المسلط على الرقاب ، كأني بالصرح الكنسي المسيحي مجال للحجر والعسف العقلي والروحي طال أتباعه مئات السنين.وليس غاليلي وكوبرنيكوس بأمثلة بعيدة عن تحجره وفشله العلمي والعقائدي . لم يشأ يوسف زيدان أن يوثق مداركه اللاهوتية ، بل انه فوق براعته في السرد الروائي اخترق حجبا كثيفا ، وبنباهة مشاء إغريقي بارع ، لكن يظل السؤال المعلق الذي لم أجد له إجابة في الرواية هو لماذا طارد نسطور الأنطاكي أتباع أريوس المصري طالما أن معتقدهما توحيدي واحد ؟ وختاما بإضافة يوسف زيدان صرحه الروائي في حقل الرواية الفلسفية العقائدية يكون المنجز الروائي العالمي قد أثري بواحد من أهم الأطروحات اللاهوتية الهامة ، مع روائيين كبار من طينة باولو كويلو ، وأمبرتو ايكو وبورخيس ،ترى ما الذي خبأه لنا في روايته الجديدة الأرامي.