على مدى العقد الماضى زادت توقعات العلماء بأن الأشكال الجديدة من الاتصالات قد تحدث ثورة فى الطريقة التى يتعامل بها الناس ويتفاعلون مع حكوماتهم! وتوقعوا أنه سيتم استخدامها لإجبار الحكومات الاستبدادية لتكون أكثر استجابة لرغبات سكانها! وبدأت الأشكال الجديدة من وسائل الإعلام بالهواتف المحمولة ثم المدونات، والآن أصبحت مواقع الشبكات الاجتماعية مثل الفيس بوك وتويتر واليوتيوب مقصدا مشتركا لنسبة كبيرة من شباب العالم، وتحولت إلى أدوات مشاعة ومشتركة بين الناشطين المعارضين خاصة الشباب منهم فى البلدان الديكتاتورية . وقد استخدمت الحركات الاحتجاجية مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع في العالم العربي للدعوة إلى التظاهر والتجمع وللتواصل مع العالم الخارجي، وخاصة وسائل الإعلام الأجنبية، وذلك بشهادة إريك شمي رئيس محرك البحث جوجل. ويبدو كما يقول بعض المراقبين أن العقد الأول من الألفية الثالثة كان عقد انتشار أجهزة الاتصال الجديدة، حيث بيعت أكثر من 225 مليون آي بود و75 مليون بلاك بري و55 مليون وي حتى الآن، و يُقدر عدد الكومبيوترات الشخصية المستخدمة حاليا في العالم بما يزيد على مليار جهاز بالمقارنة مع أقل من 500 مليون قبل عشر سنوات .كما أن عددا متزايدا من الثلاثة مليار هاتف جوال في العالم قادر الآن على دخول الانترنت، وتزايد استخدام الانترنت منذ عام 2000 حتى 2010 من 360 مليون شخص إلى ما يقارب 2 مليار شخص وهم ثلث البشرية تقريباً، لذلك زادت قناعات المعلقين الغربيين بأن وسائل الإعلام الجديدة ( تقنيات الاتصال المرتبطة بالإنترنت) ستؤدي إلى موجة من الديمقراطية. وبالإضافة إلى دور شبكة الإنترنت، لا ينبغي لنا أن ننسى أثر استمرار النمو الاقتصادي على توقعات الجمهور عامة . والمفارقة الساخرة هنا أن النمو الاقتصادي السريع فى العديد من الدول الاستبدادية قد يشعل الرغبة بين عديد القوى الداخلية التى من شأنها أن تسعى للقضاء على الطغاة والدكتاتوريات تحت وطأة طموحات شعوبها. وتثبت تجارب معظم الدول أن نمو القدرات الاقتصادية يصاحبه داخليا صعود مطالب جديدة للمواطنين وتزيد مسؤوليات الدولة تجاههم، ففي الصين وغيرها من الدول الناشئة أدى النمو الاقتصادي السريع إلى ظهور طبقة وسطى كبيرة مع قوة شرائية متزايدة، وبمرور الوقت تتزايد مساحة التعبير عن الاهتمامات الاجتماعية والمطالب، وتزداد التوقعات للحصول على جودة أفضل للحياة العامة بدرجة أكبر وأسرع من المكاسب الاقتصادية، وهنا يصبح السكان أكثر صخبا وانتقادا بعلانية أكبر. والمعنى الضمني للديكتاتورية اليوم هو أن النمو الاقتصادي فى البلاد الاستبدادية يولّد مفارقة: أن تصبح تحسينات الحكومة هدفا لانتقاد إضافي. لقد بالغ المراقبون فى تعظيمهم لإمكانيات وطاقات وسائل الإعلام الجديدة دون النظر فى الكيفية التى يمكن ان تعيق الحكومات المستبدة وتشل أدوات الإعلام الجديدة كما فعلت الحكومة المصرية فى احتجاجات الشباب يوم 25 يناير 2011 ، وكما يحدث هذه الأيام فى سوريا !لقد فشلوا فى فهم القيود المفروضة على وسائل الإعلام الجديدة ، فى سياق الصراع بين الحكومات المستبدة والمعارضين . هذا الفشل الصارخ خاصة فى الشرق الأوسط على مدى العقد الماضي ظهر حديثا فى ملاحظات المراقبين حول تحطم أحلامهم عن الديمقراطية ، وزيادة سلطة الطغاة فى كثير من الدول النامية ، وانحسار موجة الديمقراطية التى كان من المفترض ان تنتشر وتفيض فى المنطقة بعد سقوط نظام صدام حسين ، ولم تتجلى بوضوح حتى الآن ! ؟ خاصة وقد ظهرت العديد من الحركات الشعبية الواعدة بعد غزو العراق مثل حركة كفاية فى مصر والخلاص فى لبنان ، وكان يعول عليها الكثير ، لكن العائد كانت بعض التغييرات هنا والاحتجاجات هناك التى لم تتبلور نجاحاتها حتى الآن !؟ فوسائل الإعلام الجديدة لن تستطيع ان تنهى الديكتاتوريات في الشرق الأوسط ، لكن يمكن أن تكون مفيدة في إجبار بعض التغييرات الديمقراطية الشكلية . لقد تشربت شعوب المنطقة بالديكتاتورية كسلوك نتيجة الفترة الزمنية الطويلة للحكم الديكتاتورى التى عاشت تحته تلك الشعوب . و الحقيقة ما زال الوقت مبكّر جدا للحكم علي التأثير الطويل لوسائل الإعلام الجديدة في الدول الاستبدادية . ولو أنه من السهل ملاحظة النوادر الإيجابية في الكيفية التي يستعمل بها الناس تلك الوسائل للمساعدة علي التغلّب علي، أو علي اقل تقدير نشر وإذاعة القمع الحكومي والمجتمعي . فالمعارضون السياسيون ، في الدول العربية يرتبطون ببعضهم البعض علي الشبكة ، ونشطاء سياسيون و اجتماعيون من كلّ القطاعات يستعملون وسائل الإعلام الجديدة للاشتراك في المعلومات ونشرها ، وتنظيّم الاحتجاجات والمظاهرات ، وينشرون أسبابهم. الشباب والاستقرار السياسي وإذا كانت وسائل الإعلام الجديد ليست دواء حاسما لأمراض الحرية ، فهى توفر فرصة عظيمة لحرية التعبير والتواصل ، لاسيما بين الشباب الذى يحاول إحداث تغييرات ديمقراطية فى مجتمعاتهم كما حدث ويحدث في إيران وتونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا ، ويتوقع ان تمتد تلك المحاولات في بعض البلدان الأكثر سلطوية مثل بورما وكوريا الشمالية ، ونزعم ان ما نشر عن مظاهرات اليونان وإسبانيا وأخيرا إسرائيل جرس إنذار بقرب التغيير حتي في الأنظمة الديمقراطية الغربية. بالطبع ، هناك خطر يتمثل في أن العوامل الديموجرافية في البلدان العربية تؤدى إلى تزايد أعداد كبيرة من الشباب المحرومين الذين تبنوا أشكال خطيرة من القومية والتعصب ، فخلقت براميل بارود تنفجر فى النزاعات المسلحة ، وأعمال الشغب والبلطجة والحروب الطائفية والأهلية ، خاصة أذا عرفنا ان خمسين في المائة من حوالي 200 مليون من السّكّان العرب هم دون سنّ العشرين . ويذكر عبد الرحمن الراشد فى مقال من مقالاته عن أحداث 25 يناير فى مصر ان الشباب هم الأغلبية الساحقة فيها، 68% دون الثلاثين عاما. أما الذين أعمارهم فوق 65 عاما فلا تتجاوز نسبتهم 3%. وهؤلاء الشباب هم الذين أحدثوا الانفجار الأخير فى مصر رغم عدم ارتباطاتهم السياسية ، لكنهم الأغلبية السكانية ، والأكثر تضررا من الوضع القائم فتسعة من كل عشرة عاطلين عن العمل شباب دون سن الثلاثين ، ولأنهم ليسوا مسيسين غفلت عنهم القوى الأمنية ! ولم تدرك السلطات انهم جيلا مختلفا عن جيل الكبار ، يتواصلون من خلال الميديا الجديدة ، وينشرون فيها أحلامهم وتطلعاتهم و ويملكون لغة مختلفة سياسيا ، ويتناقشون حول قضايا بلدهم ويقارنون بين ظروفهم ويطالبون ، بحقوق مماثلة للشباب الآخرين في دول بعيدة. ولهم توقعات مختلفة، ولغة مختلفة عبر »التويتر« و»الفيسبوك ، وغيرها من الكائنات الاجتماعية على الإنترنت . ومن أوائل الأكاديميين الذين درسوا بجدية تأثير النتوءات أو الأورام الشبابية على الاستقرار السياسي الدكتور هربرت مولر ، الذى خلص إلى أن وجود أعدادا كبيرة من الشباب في أية مجموعة سكانية يمكن أن يوفر حافزا للتقدم ، أو يمكن ان يؤدى إلى تفاقم المشاكل القائمة ، اعتمادا على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة . ويرصد هربرت مولر أيضا فى دراساته ان النتوءات او الأورام الشبابية قد تحدث عملية تراكمية للابتكار والنمو الاجتماعي ، بل قد تؤدي إلى عمل جوهرى إلى الاتجاه التدريجي بتدمير المؤسسات القديمة ورفع نخب جديدة الى السلطة ، وقد تنظم وتوجه طاقات العاطلين عن العمل من الشباب وفقا لقواعد شموليه ! ونزعم هنا أن التركيبة السكانية ذات القاعدة الشبابية تعمل لصالح الديمقراطية بالمقارنة مع الأجيال الأكبر سنا ، فالشباب يتلقون تعليما أفضل ، وأكثر تعاملا مع الميديا الجديدة ، وأقل عدائية تجاه حضارة الغرب ، وان كان البعض منهم ما زالوا ينظرون إلى حكومة الولاياتالمتحدة بعين الشك ، وفى نفس الوقت يحلمون ويسعون لفرصة الهجرة إليها ! وفي الوقت الذى يرتفع فيه ضجيج النقاش فى مدوناتهم عن أساليب القمع المتشدد في أوطانهم ،فهم يسعون إلى إذكاء نيران الحرية. والأمل في أن الإنترنت ما زالت تشكل محفلا لتوسيع المشاركة الديمقراطية وملجأ للمناقشة العلنية لأبرز القضايا التي تواجه الشباب اليوم . الإعلام الجديد و تعزيز الحرية والديمقراطية هناك الكثير من الاهتمام في الآونة الأخيرة بظاهرة المبالغة في دور وسائل الإعلام الجديد في تعزيز الحرية والديمقراطية في جميع أنحاء العالم . فالشبكات الاجتماعية لا تسقط الحكومات ؛ بل الناس هم الذين يفعلون ، فمواقع الشبكات الاجتماعية يمكن أن تكون مفيدة وضارة للناشطين الذين يعملون من داخل الأنظمة الاستبدادية. لأن السلطات الأمنية تستطيع بتقنيات حديثة جمع أدلة دامغة لهؤلاء الناشطين عن طريق مسح الصور ومقاطع الفيديو التي يتم تحميلها إلى مواقع الإنترنت من قبل المتظاهرين والمتعاطفين معهم ، بل ان الإنترنت عبارة عن إنذار مبكر قد يخدم الحكام المتسلطين ، ورغم ذلك مازالت المراقبة الكاملة للتّداولات الرّقميّة حلما بعيدا عن متناول الدكتاتوريات الأكثر تشدّدا . فوسائل الإعلام الجديدة لوحدها لا تحدث أيّ آلية، ولا يمكن تحديد نتائجها سواء السلبية او الإيجابية مسبقا ، حيث يعتمد تأثيرها علي التحويلات والتغييرات الواسعة في السياقات المؤسساتية والاجتماعية ، فالاستعمال الكامل للإنترنت يتطلّب عادة وصولا إلي مصادر مثل (حاسبات، بنية أساسية من خطوط هاتف وإنترنت ، اللغة الإنجليزية، الخ. ) وهذا متوفر فقط لثلث البشرية تقريباً . بهذا المعني، الإنترنت تستطيع تصعيد ظاهرة عدم المساواة في الحصول علي المعلومات والقوّة . وهنا نتساءل مع الأستاذ حميد الهاشمي فى مقالته بموقع إيلاف يوم 2011 السبت 30 أبريل كم نسبة هؤلاء الذين تتوفر لديهم خدمة الانترنت، ويمتلكون ثقافة الولوج الى مواقع التواصل الاجتماعي والتعامل بها، قياسا بالإعداد المليونية التي احتشدت في مصر وتونس وتحتشد في اليمن مثلا؟؟ علما ان هذه البلدان لديها أعداد عالية من المواطنين ممن هم تحت خط الفقر او بمستواه. ناهيك عن مدى توفر خدمة الانترنت مقارنة بمواطني دول الخليج مثلا ، وهل النخب التي تستخدم شبكة الانترنت ووظفت هذه الخدمة لصالح الثورة في تلك البلدان استطاعت الوصول الى كل أطراف هذه القاعدة المليونية الشعبية؟؟ لا شك ان هناك مبالغة كبيرة في دور مواقع التواصل الاجتماعي و»فيسبوك» تحديدا، كسبب رئيسي للثورات الشعبية، خاصة اذا ما تذكرنا ان الحكومات في معظم البلدان التي حدثت فيها الثورات (نجحت او لم تنجح بعد) قد قطعت خدمة الانترنت وحتى شبكات الهاتف عن مواطنيها او شوشت او حجبت بعض المواقع المهمة، لكن الفضائيات قد لعبت دورا كبيرا من خلال المتابعة، واستنهاض الثوار وتحشديهم ورفع معنوياتهم او تثبيطها حسب الموقف من ذلك البلد، ونقلت لهم فتاوي بعض رجال الدين التي تحثهم وتشرع لهم القتال، ونقلت لهم التأييد الدولي بل وربما كانت السبب في التحشيد الدولي والجهود الدبلوماسية ضد حكوماتهم، لان الكثير من الدوائر السياسية والاستخباريه باتت تعتمد المعلومة الإعلامية مصدرا لها. لكن هذا لا يمنع من الزعم ان الإنترنت هي الوسيط الأكثر تحررا وإبداعا ، فأولئك الذين يدخلون الإنترنت ويملكون اللغة وهجائية الكمبيوتر ومهارات الاتصال يستطيعوا استلام، وتبادل، ونشر كمّية لم يسبق لها مثيل من المعلومات بدون امتلاك واستعمال قنوات الإعلام الجماهيري الرئيسية بالضرورة ، لذلك عندما تدخل بدايات الإنترنت مجتمع ما تساعد علي إحداث تغييرات جوهرية في الدينامية الاجتماعية . وبينما تنتشر الإنترنت ، يصبح الاتصال من القاعدة ممكنا ومتاحا من كلّ الأنواع ، ويعلن التحدي إلي أولئك الذين يريدون فرض السيطرة الفوقية ، فقوة عملية النشر والتوصيل المستمدة من الإنترنت تضع المعرفة والسلطة علي خطّ اصطدام معا. فعندما يكون الناس قادرين علي نحو متزايد في الوصول إلي المعلومات، والاتصال بسهولة مع الآخرين في مجتمعهم أو حول العالم، وينشرون وجهات نظرهم بشكل مستقل، يصبحوا عادة أقل رغبة في أن يقبلوا سيطرة فوقية اعتباطية علي حياتهم. لكن هذا نفسه لا يضمن حرّية سياسية؛ فأولئك الذين في السلطة يستطيعوا أيضا استعمال الإنترنت أيضا لمراقبة ومهاجمة المواطنين أو المستخدمين ، فقد نشرت بى. بى .سى يوم الثلائاء 28 يونيو 2011، تصريحا من واشنطن قال فيه إريك شمي رئيس محرك البحث العملاق جوجل إن استخدام الحركات المطالبة بالديمقراطية في العالم العربي لشبكة الإنترنت للتعريف بمطالبها قد يؤدي ببعض الأنظمة إلى تشديد تدابيرها للحدّ من الحريات عبر الشبكة الإلكترونية. وقال إن «الانتفاضات الشعبية التي استخدمت الانترنت ضد الحكومات الدكتاتورية في العالم العربي قد تقود الى فرض مزيد من القيود على استخدامات الانترنت في المستقبل». لذلك نؤكد ان الحرّية لا تبدأ في مواقع الإنترنت، ولا في الهيئات التشريعية ومجالس إدارة شركات، ولا في الإدارات التربوية، لكن الحرية تبدأ في الروح الإنسانية. وفي كلّ مرّة يستعمل الناس الإنترنت للوصول إلي معلومة منعت عليهم من قبل، ويتّصلون بشخص كان يصعب الوصول إليه سابقا، أو يتواصلون من أعماق قلوبهم في المشاركة في الرسائل ونشرها، حيث لم يكن ممكننا أن ينشروها قبل الإنترنت، أعتقد بأن كل ذلك يقوّي ويدعم الروح الإنسانية علي مقاومة السلطة الفوقية. ونزعم أن وسائل الإعلام الجديدة الممثلة فى الكيانات الإنترنتية لها دور هامّ في نجاح التّعبئة الشّعبيّة، وتزوّد الإنسان بوسائل قويّة للمساعدة علي جعل القرن الحادي والعشرين الأكثر حرية للإنسانية، سواء في سياقات تربوية، أو مهنية أو اجتماعية حضارية. لكنّ إنجاز مثل هذه الحرّية يتطلب نضالا وكفاحا والتزاما، في مدارسنا، ومواقع عملنا، ومجتمعنا.