كان الراحل محمد الرايس أول من نشر معلومات خطيرة ومفصلة عن جحيم معتقل تزممارت السري بجريدتنا سنة 2000، مما أثار ردود فعل قوية جدا. وذلك من خلال مذكراته التي نجحت هيئة التحرير في الحصول عليها بعد منافسة شرسة مع زملاء آخرين في جرائد أخرى. هنا نقدم الحلقة الخاصة ضمن تلك المذكرات، التي تكفل حينها بترجمتها الأخ عبد الحميد جماهري، الخاصة بتفاصيل شهادة الراحل الرايس عن الرائد ابراهيم المانوزي الذي اعتبر قتله ظلما وتصفية سياسية انتقاما من عائلته الوطنية. هي شهادة أخرى للتاريخ نستعيدها اليوم مع عائلة الراحل الصغيرة والكبيرة. مع مطلع شهر يناير 1972 أخبرنا بافتتاح محاكمتنا وطلبوا منا إطلاع عائلاتنا للبحث عن محامين للدفاع عنا. وقد كنت محظوظا لأن الأستاذ عبد الرحمان بنعمرو جاء بمحض ارادته للدفاع عني بالمجان .. يوم 31 يناير في الساعة التاسعة صباحا بدأت محاكمة المشاركين في انقلاب الصخيرات بالقنيطرة من طرف محكمة العدل الخاصة برئاسة عبد النبي بوعشرين وعضوية كل من الجنرال الحاج عبد السلام والكولونيلين نعيمي والفاسي الفهري والليوتنان كولونيل بلميلودي. بعد قراءة صك الاتهام والتعرف على هوية المتهمين شرعت المحكمة في الاستماع الى المتهمين الذين تعاقبوا على قفص الاتهام للإجابة عن اسئلة رئيس المحكمة السيد بوعشرين. كان أول من مثل أمامها هو الكولونيل محمد اعبابو، وقد نفى كل المنسوب إليه، وصرح بأنه أمضى الوقت كله في محاولة ثني أخيه امحمد واقناعه بالتخلي عن مشروعه الجهنمي. ونفى شلاط أيضا التهم الموجهة إليه، وصرح بأنه لم يكن في مقدوره التنبؤ بما سيقع «لأنه ليس مَلاَكا». أما القبطانان بلكبير وغلول فقد صرحا بأنهما لجآ الى الفرار بمجرد اطلاعهما على حقيقة الأمور، فكان أن نعتهما المدعي العام بن عيادة ب "«الجبناء"» لأنهما غادرا موقعهما وتنكرا لوظيفتهما كضباط. ومن جهته، صرح بندورو القبطان السابق في الدرك الملكي بأنه لم يكتشف الحقيقة إلا بعد وصوله الى الرباط، ولما سأله رئيس المحكمة عن أول رد فعل له بعد اكتشاف الخدعة أجاب بسماحة لاتصدق «مشيت لأول محل وشربت كوكا كولا باردة»، فاهتزت القاعة ضحكا، لم يسلم منه حتى المدعي العام الصارم. جاء دور أفراد «المقدمة» التي سميت ب "«الفرقة الخاصة»" لسبب غامض، تلاهم رؤساء الكومندوهات الخمسة والعشرون. وكل هؤلاء نفوا التهم الموجهة إليهم، وحمل ضباط الصف المسؤولية لضباطهم، في حين صرح التلامذة ضباط الصف بأنهم مجرد منفذين. وجوابا عن أحد أسئلة رئيس المحكمة متعلق بمعرفة ما إذا كانوا شاهدوا جثثا وموتى, أجاب العديد من الطلبة الضباط بأنهم رأوا «العود» ممددا على العشب، فما كان منه إلا أن أرغى وأزبد لهذا الجواب المتكرر وصاح: «باراك ما تكولوا العَوْد العَوْد، هل كان الضحية الوحيدة؟ كتكلموا على الحيوان وتنساوا بنادم»! قيل له بأن «العود» هو أحد التلامذة الضباط وليس «الحصان»، فافتر ثغره عن ابتسامة دالة على هذا الخلط وتبعته القاعة. كما صرح مزيرك الذي كان يجهل القراءة والكتابة، بأنه سمع الحوار الذي دار بين المارشال مزيان والكولونيل اعبابو، وأنه - للأسف - لم يحتفظ سوى بكلمة واحدة من الحوار الذي دار بالفرنسية وأن هذه الكلمة هي «ساما جسطي» فانفجر الحاضرون ضاحكين. تخللت المحاكمة كذلك لحظات حزن ومذلة لاسيما عندما اجهش بعض المتهمين بالبكاء. وقد كان أولهم الكولونيل محمد اعبابو الذي فعل ذلك طلبا للصفح والعفو، وهو ما أثر في بعض رفاقه وزملائه والمحامين أيضا. في الواحد والعشرين تقدم المدعي العام بمرافعته وطالب المحكمة بإنزال أقصى العقوبات، 26 حكما بالإعدام و25 حكما بالمؤبد. وطوال مرافعته القاسية مارس دوره «كَغَرَّاقْ» كما يسميه المغاربة. وتساءل في معرض اتهامه: «كيف يمكن اطلاق النار على مدنيين عزل؟ وهل تتم المناورات العسكرية في القصر؟ حتى ولو كانت هناك «عناصر مخربة مزعومة», هل يملك المتهمون الحق في اطلاق الرصاص كيف ما اتفق؟» لقد تساءلت مع نفسي وكأنني أحدث المدعي العام: «إن اتفاقيات جنيف تطبق على الجميع وأن الذين اطلقوا النار في الصخيرات مجرد منفذين مثل الذين اطلقوا النار على الطلبة في 1965. والحال أن المتهمين الرئيسيين كانوا غائبين، فهم كل من شارك في اجتماع بوقنادل واجتماع المكتب الثالث وكل الذين لم يحركوا ساكنا في الصخيرات، كما في القيادة العامة وفي الثكنات. ولعل الوحيد الذي ظل وفيا لمبادئه ولنفسه الضابط المخلص لوباريس عبد القادر الذي قاوم بكل كيانه رغم أنه كان أعزل. ويبدو أنه كان مستعدا للشهادة لفائدة من اعتدى عليه. وقد لاحظت أن اسمه لم يرد حتى ضمن لائحة شهود الادعاء العام. من جهة أخرى، راجت أخبار كان مصدرها بعض المحامين، أن المحاكمة كانت ستتوقف في حال قبلت «الكتلة الوطنية» (الاستقلال، الاتحاد الوطني) مشروع تشكيل الحكومة ولما رفضت الكتلة استمرت المحاكمة. جاء دور خرخاش الذي حول المحكمة الى قاعة عرض ضحكت منه المحكمة والدركيون والمتهمون وهم يسمعون الى شهادة هذا الجندي الذي شارك في الحرب العالمية الثانية والحرب الهند الصينية. بدأ حديثه بالقول إنه لم يدخل الجيش سوى من أجل «الحريرة والكاميلا»,وأنهم علموه كيف يواجه مواجهة مباشرة في القتال ولم يلقونه البتة كيف يقيم انقلابا عسكريا. وصرح أيضا أنه اعتقد أن موقع المناورة كان محطة قطار أضرب عمالها قبل أن يتصور أنه معمل لتصبير الطماطم لما رأى بقع الدم الحمراء. وأضاف أن كل «العناصر المخربة» بالنسبة إليه «حمراء/شيوعية» لهذا اعتقل أحد الآسيويين، وبعد أن واجهته المحكمة باتهامات وشهادات التلامذة الضباط أجاب باكيا بأنهم يتكالبون ضده لأنه كان قاسيا معهم في التداريب، وكان ينكل بهم بأمر من اعبابو. وجوابا عن سؤال موجه من المدعي العام قال بأن «اعبابو كان يرسلني لأجمع «الماتِرْيَالْ» ديال الدولة ونجيبو للمدرسة باش نبنيوا، لأن كل شيء ديال الدولة واعبابو كيخدم الدولة»، واطلق خرخاش رصاصة الرحمة علينا بقوله «ماكونتش عارف آش فراس «لي زوفيسي» أنا ما عارفش ..». تقدم المائة وعشرون محاميا حاضرين بمرافعاتهم، مستندين في دفاعهم إلى الانضباط العسكري وتنفيذ الأوامر، ولمحوا إلى الفساد والظلم الاجتماعي والأزمة السياسية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع. وأظن أن المحكمة فهمت بأن المقصود بهذه التلميحات هي محاكمة مراكش حول ماسمي ب "«المؤامرة» المخطط لها من طرف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" المعروفة بقضية «دمنات» مسقط رأس لفقيه البصري المنفي في فرنسا والمحكوم غيابيا بالإعدام بسبب القضية، ثم قضية الصخيرات نفسها وقضية الفساد وتحويل المال العام من طرف بعض الوزراء المقالين الذين حوكموا فيما بعد. بذل المحامون كل جهدهم لإنقاذنا، لكن الأحكام صدرت ضدنا مابين سنة سجنا نافذا والإعدام. لما استدعي الشهود، كان شهود وزارة الداخلية هم الأكثر تكالبا علينا، وقد ورطوا أكثر، كلا من حيفي واليقيظي اللذين أساءا معاملاتهم على حد قولهم. استمرت المرافعات طوال ليلة الجمعة والى الساعة الرابعة صباحا قبل أن تستأنف في الساعة التاسعة من يوم السبت، قبل انتهاء المحامين وجهوا نداء الى المحكمة من أجل الفصل في المحاكمة بالعدل والانصاف، كما ألحوا أيضا على تبيان أن اتهامات المدعي العام لاتستند إلى دليل قوي. ووصف الدفاع اعبابو ب" «نابليون اهرمومو» "الذي أفلح بواسطة دهائه المكيافيللي وقسوته الهرقلية، أن يفرض نفسه على تلامذته وتحويلهم ومن معهم من الضباط الى روبوات وكائنات آلية، وبعد أن أصبحوا أدوات في يده لم يتردد في استعمالهم بعد أن روضهم أيما ترويض. صرح الدفاع كذلك بأن مؤامرة تستند إلى 1300 مشارك على بال كان بإمكانها أن تنجح، لكن المشاركة غير الإرادية والطوعية لعناصرها هي التي أدت إلى فشلها. وأضاف المحامون أن مرتكبي الانقلاب وجرائم الصخيرات هم المذبوح وامحمد اعبابو والضباط السامون الذين لقوا مصيرهم. لاشك أيها السادة المحامون أن المتآمرين الذين مسوا بمؤسسات الدولة قد لقوا حتفهم، لكني مازلت مقتنعا بأن اثنين منهما ما كانا ليلقيا نفس المصير، وهما الجنرال حبيبي الذي رفض أي أمر من اعبابو، والثاني هو الكومندان المانوزي الذي لم يحضر لا في بوقنادل ولا في الصخيرات ولا في القيادة العامة، بل كان في بيته، لاشك أن الكومندان كان حاضرا في اليوم الثاني بمنامته (بيجاما) في المكتب الثاني، لكن الحقيقة الواضحة للعيان لم اطلع عليها إلا بعد 21 سنة، أي بعد الافراج عني. وقد جاءتني على لسان زوجته مليكة التي حكت لي، وهي تنتحب عن تفاصيل يومه واستعماله الزمني قبل اعدامه يوم الثلاثاء 13 يوليوز 1971، حكت لي هذه السيدة الفاضلة بأن زوجها قضى زوال ذلك اليوم في قيلولة طويلة ثم ارتشف قهوته المعتادة، وأدى صلاته ثم ظل الى جانب زوجته الشابة. وفي المساء استحم قبل ذهابه الى النوم، كما هي عادته، غير أن طرقات قوية على الباب ايقظتهما في عز الليل، فوجئ المانوزي لإزعاجه في هذه الساعة المتأخرة من الليل بطريقة غير مألوفة، فتح الباب فوجد أمامه رجال الجيش مصحوبين بالدرك الملكي يطلبون منه مرافقتهم «لأنهم» يحتاجونه لأمر عاجل. أجابهم «طيب سأرتدي ملابسي وأصحبكم»، لكن المسؤول قاطعه: «لا أيها الكومندان لقد أمرونا بألا نفارقك قيد أنملة» احتج المانوزي: «اتريدونني أن أرافقكم وأنا بالمنامة؟» فكان رد مخاطبه: «كذلك الأمر!»، فاحتج المانوزي ثانية فخاطبه المسؤول بجفاء: «كومندان أنت في حالة اعتقال عليك أن تأتي معنا فنحن في عجالة من أمرنا». ذهل الكومندان المانوزي لهذا الموقف، لكنه واسى زوجته وطمأنها بقوله: «لاشك أن خطأ ما قد وقع، سأذهب لأرى وأعود. اطمئني ليس في الأمر ما يدعو الى الخوف!» ولم يعد الكومندان أبدا. يوم الثلاثاء 29 فبراير 1972 في الساعة التاسعة والنصف ليلا صدر الحكم بحضور القضاة العسكريين والصحافة الوطنية والدولية. لما سمعت زوجتي خديجة الحكم الصادر ضدي أغمي عليها بعد أن صرخت بكل ما فيها من قوة: «لا، لا هذا ظلم، راجلي بريء ..» تم إخراجها من القاعة ونقلها الحراس وبعض الأصدقاء الى الخارج. وواصل رئيس المحكمة تلاوة الأحكام. في يوم الغد الأربعاء فاتح مارس في الساعة الخامسة مساء بسجن القنيطرة جاء الكولونيل رمضان بن عيادة وكيل جلالة الملك مصحوبا بالقبطان البقالي كاتب الضبط والعديد من المحامين وقرأ الأحكام التالية بالتفصيل: الإعدام: لاسبيران محمد الرايس، المؤبد: شلاط، عقة، عاشور - 20 سنة سجنا نافذا: الكولونيل اعبابو، حيفي، اليقيظي 15 سنة سجنا، لغلو، مزيرك 12سنة، الكوري 10 سنوات، بندورو، منصت، بينبين، عماروش، أبو المعقول، ديك، اعبابو عبد العزيز، عبد الصادقي 4 سنوات، بلكبير، سعودي مجاهد 3 سنوات، شبيرق، صادقي بوتو، سنتان. 22 متهما من بينهم 9 ضباط صف و 13 ضابطا 18 شهرا، 19 ضباط، سنة سجنا، سوليوتنان العراقي ومرماش وعنتر علي.