قبل بضعة أسابيع، أصدر الناقد والمترجم رشيد بنحدو كتابا نقديا مهما تحت عنوان: «جمالية البين-بين في الرواية العربية» ( منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب، فاس 2011)، وقد ذيل المؤلف كتابه بدراسة عنوانها: «البين- بين قدرا للرواية» وصفها بأنها « بمثابة خاتمة «. وفيها استعاد أهم الحصائل التي تمخض عنها تحليله للمتن الروائي المدروس في ضوء مفهوم «البين- بين» المركزي. في ما يلي الجزء الثاني من الدراسة الذي ننشره باتفاق مع الكاتب : رشيد بنحدو هل يمكن لهذا الكتاب أن يدّعي لنفسه أنه وضع اللبنات الأولى لأفقٍ يحثيّ جديد في النقد الروائي العربي، أفقٍ يتم فيه تبئير الاهتمام على الكتابة الروائية لا من جهة استقلالها و استكفائها بذاتها، و إنما من جهة ارتهانها ب «البين بين»، أي و الحالة هذه بالمراوحة بين انتحاءات شكلية و اختيارات فكرية و مواقف وجودية تبدو متعارضة ؟ أعترف بأنّ هذا الطموح إذا كان لم يخامرني و أنا عاكف على توليف فصول هذا الكتاب، فإنّ كونه يفرض نفسه عليّ الآن في صيغة استفهامية، بعد أن بدأ الكتاب يستقل عني بنفسه، يؤكد دون شك مشروعيته و كذا أهمية أفق البحث هذا. فدينامية البين بين لم تحظ بعد بالاهتمام الكافي الذي يليق بقوتها الإجرائية و الكشفية. (9) و من جهة ثانية، فمظاهرها تستحوذ على الأدب كله، إنتاجاً نصيّاً و تلقيّاً نقديّاً، إلاّ أننا كثيراً ما نمرّعليها ونحن عنها معرضون. لذلك، أقول مع / روزاليا بيفونا / : «مَنْ مِنَ الكُتّاب لا يعيش في بين بين ما ؟». (10) سؤال توكيديّ يتفرّع عنه هذا السؤال المفحم : هل يمكن تَصوّر نص أدبيّ لا أثر فيه للبين بين، أي لا يكون ناتجاً عن الْتِقَاحٍ ما، بنفس المعنى العميق الذي يعطيه / جاك ديريدا / للفظ الالتقاح أو التلقيح (la greffe)، و هو أنه «عنف ناجم عن حَزٍّ خفيّ يُزَاوَلُ على سماكة النص و ثخانته، أي تعشير متعمّد له بواسطة نص آخر طارئ عليه، ذي طاقة تخصيبية توليدية تؤدي إلى تحوّلهما معاً، حيث يتعاديان إذ يُعدي أحدهما الآخر، يتخارقان إذ يخرق أحدهما الآخر على نحو غير محسوس، فيتجدد في تناسله على شفير فائض الإلغاء ذاك. و الحاصل هو إشعاع كل منهما في الحيّز الذي تخلق فيه و كذا تحويله بتخصيب الحيّز الناشئ من هذا الإشعاع» (11(. إن الإشراف الآن على الروايات التي حللتها و في الإشراف عناية حصرية بالعامّ المشترك على حساب الخاص الفرديّ يسعفني على الانتباه إلى أنّ البين بين محايث، بوثاقة و قوة، لكتابة الرواية بما هو تجربة أونطولوجية و (أو) جمالية. فالراجح عندي أنّ كل كاتب حقّ يجد نفسه باستمرار وجهاً لوجه مع هذه المنطقة البرزخية الملتبسة حيث يقضي وقتاً غير قصير محاولاً أنْ يسمّي ما لا يسهل عليه تسميته و أنْ يضبط حركة لا تريد أن تتوقف. و هذه الوضعية الإبداعية هي التي تسمح بتطوّر ممارسته للكتابة إذ تسعى هذه إلى بلوغ أقصى حدّ في تقليص المسافة بين حدّين أو حدود متباعدة، أو على الأقل إلى عقد توازن بينهما. و الحال أنّ هذا التوازن، إذا تم تحصيله، لن يكون إلاّ مؤقتاً، لأنه يقتضي دائماً و بحكم قوة الأشياء نقيضَه اللاتوازن. و هذه، فيما يبدو لي، طبيعة تلك اللحظات العصيبة التي يواجهها كل مبدع بل و كل إنسان، و التي تُدعى «أزمات» : «فالإنسان، باعتباره كتلة من المتناقضات، هو تماماً حيوان أَزْمِيٌّ (critique). (...) و من خصائص الأزمة أنها تجعله بفجاءة و عنف تلقاء بين بين مصيريّ، فتحرّضه تحريضاً على الاختيار بين أقل الحلول و المتنفسات خسارة بحثاً عن آفاق جديدة لتطوير وجوده» حسب تعبير / إيدغار موران /. (12( و بصرف النظر عن خصوصية الروايات المحللة كل واحدة على حدة من حيث الحساسية الفنية (تقليداً أو حداثة) و كذا لغةِ التعبير (عربية أو فرنسية)، فإنها تتفاوت من حيث كيفية تدبيرها لأشكال البين بين التي واجهَتها، لاسيما أنها فضاء للتوتر و للعجز عن البتّ الحاسم و النهائي بسبب خاصيتها الانفلاتية اللاثباتية . و مع ذلك، أستطيع أن أقول مع / كلود كازيناب / إنه «لا وجود في واقع الأمر للحظةٍ (س) يمكن لنا فيها بمعجزة أن نحقق توازناً تامّاً بين قطبيْ بين بين ما، لأنّ الأمر يتعلق بنوع من المراوحة بين «ذهاب» و «إيّاب» لا حدّ لهما يؤديان إلى شكل جديد يجسد الانتقال من التناقض إلى التكامل». (13) لذلك، فإذا كانت بعض الروايات قد حرصت على صيانة آثار التعارض بين هذا ... و هذاك ...، و كانت أخرى قد وفقت بينهما على نحو أصبحت معه هذا ... و هذاك ... في آن واحد، فإنّ بعضها الآخر اختارت أن تكون لا هذا ... و لا هذاك ... ، مفضلة فضاء ال «no mans land» ، أي ذلك الفضاء البرزخي المحايد الذي يتوسطهما، فإذا هي بين هذا ... و هذاك ... و هذا يعني أنّ البين ? بين لا يُستجاب له بطريقة نمطية متماثلة، لأنه صدى لحوافز غير متطابقة، و هذا بالذات هو مكمن فتنته و أصالته. و على رغم هذا الاختلاف الطبيعي، فإنّ التقدير الاستقرائي و كذا التدخل التأويلي يسعفانني على القول إنّ للبين بين إجمالاً أبعاداً و دلالات و غايات تكاد أن تكون مشتركة بين نصوص المتن. و لعل أول ما يجدر بي أن أنوّه به هو أن البين ? بين حيز يحايثه بالضرورة غموض حيويّ يضطرّ كل روائيّ إلى الاختيار بين انتحاءين أو انتحاءات لا تكون دائماً واضحة في ذهنه. و هذا راجع في رأي / إيدغار موران / إلى «خاصيتيْ النغولة و اللا يقين، أي إلى نظام يستمد منطقه من الفوضى بالذات مِنْ غير أن يمكن له أبداً تقليصهما أو إنهاؤهما : هي ذي بالضبط آيات تعقّد البين ? بين الذي يجعل التمرس به تجربة عصية». (14) فهو مرادف للتردد و التذبذب، بل و للفراغ الذي يلازم كل امتلاء تحدثه الكتابة، و الذي ينفعم تلقائيّاً في نصوص الحساسية التقليدية. إنه الإشارة الأكثر أصالة إلى أن ليس ثمّة موضوع جاهز و سابق الوجود يتعين نقله أو محاكاته بالكتابة، لأنّ هذا الموضوع هو الشكل الكتابيّ الذي لم يهتد بعدُ إليه أي كاتب، و الذي يظل كامناً بانتظار مَنْ ينفذه. فليس للكاتب أن يستنسخ شيئاً ما. ليس له إلاّ ما يبتدعه ابتداعاً بتقويض ما هو موجود. فموضوع الكتابة هو نتيجة لفعل الكتابة. لذلك، فالبين بين من صميم الرهانات الجمالية التي تنتصب أمام الحداثة النصية، تلك التي تحتفي بالمتقطع بدلاً من المتصل. كما أنّ البين بين يعكس الكتابةَ مدرَكةً مِن حيث هي ماهية غير انسجامية، و ذلك لكونها نتيجة سلسلة مجازات : فَمِنْ حرف إلى آخر و مِن كلمة إلى كلمة غيرها و من عبارة إلى سواها و من فقرة إلى أخرى و من أثر إلى نقيضه و من شكل إلى شكل آخر و من الواقع إلى الخيال و من المنغلق إلى المنفتح و من الكاتب إلى القارئ ...، يتجلى قَدَرُ الكتابة عند بعض الروائيين سلسلةَ تنقلاتٍ بين تخومِ أصنافٍ من البين بين لا تعرف القرار تجعلها على الدوام عرضة للتلوّن شكليّاً و للتبدّل وظيفيّاً. لكنّ الكتابة، في تجربة روائيين آخرين، تكون ذات طابع مزجيّ حيث تتحاذى فيها الحوافّ و تتلاقى بها الأطراف، فإذا هي لا تحدّها ضفاف، لأنّ هويتها ماثلة في الشيء و في سواه، في داخلَ و خارجَ، هنا و هناك في الآن ذاته. إنها غبطة الكتابة التي لا تقيم للفروق أي اعتبار، فتكون في آن واحد تشخيصاً روائيّاً و إيحاءً شعريّاً و توتّراً دراميّاً و تدويناً تاريخيّاً إلى ما لا حدّ للتوافقات. و هي أيضاً نشوة الكاتب مستخفا بالمتاريس الفاصلة، فإذا هو كلاسيكيّ و حداثيّ مِن غير كلفة، و إذا بالنص متماسك و متفكك مِن غير تناقص، و إذا بالأفضية و الأزمنة وهمية حتى لا واقعَ، و واقعية حتى لا وهمَ، و إذا بالسارد صاحٍ و نائمٌ معاً كما هي حال / مارسيل / هاذياً منجرفاً مع أضغاث أحلامه و هلسناته في : «A la recherche du temps perdu» لِ / مارسيل بروست / ! إنّ للبين بين طاقة إبداعية قوية تسعف الكتابة على تحصيل مكاسب و امتيازات لا تُدرَك لا بالمماثلة و لا بالمغايرة. فمن آثاره أسلوبيّاً أنّ النص يتسم بسيولة مطلقة تصير الكتابة معها كالماء يتلاطم بين ضفتين، فيتّخذ كل الأشكال و الألوان مِن غير أن يستقر على شكل أو يتماهى مع لون. فهو يتكيف مع هيئة البين ? بين من غير أن يكف عن كونه ما هو. و في المستوى الخِطابيّ، و بصرف النظر دائماً عن السمات المميزة لكل واحدة من الروايات المحللة، فالبين بين يتنافى مع الخطية التي تجعل النص كتلة متراصّة أفقيّاً. فالخطاب المابينيّ يتخلق و يعتمل في أحياز العرض، لا في أحياز الطول. فحركته ليست امتدادية كسهم الزمن، بل تزامنية كما هي جميع الظواهر التي يتواءم فيها الشيء و ضده، فإذا جسد الكتابة عرضة لرجّ متواصل كبارقة خاطفة تتفتق عن ربيكة من الأشكال و المعاني الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل. و على الصعيد الإيديولوجي، فهو يتعارض مع التسليم بجاهزية الأشياء، إذ لا شيء مُعطى سلفاً في الكتابة المابينية، لأنّ ما يعرّفها، كما تقدم، هو التردد و الازدواج، هو المعاظلة التي تجعلنا نقف على مبلغ الالتباس في ما هو يقينيّ و نهائيّ. فمن طبيعة البين بين إذن أن يجعل الروائيّ، ككل إنسان، منخرطاً في علاقة متوترة مع العالم، طالما أنّ البين بين يعكس حالة من حالات الوعي تنشأ من إدراك الذات أنّ هويتها ليست متراصّة متكتلة، بل مصدوعة منشطرة، و أنّ أيّ جوهر تختص به الأشياء و الظواهر هو عرضة للتقلب و عدم الثبات. بيد أن هذه العلاقة المتوترة ليست استلابية، لأنّ ما هو كذا ... و كذا .... أو ما هو لا كذا ... و لا كذا ... لا يحرمه من هامش الحرية الملازم لكل فعلِ كتابةٍ. و لذلك، فالبين بين يبثّ في الروائيّ كذلك فرحاً مأساويّاً جرّاء تلك المعاظلة. كما أنّ من آثار البين بين الشكلية أنّ الكتابة تَقْصُرُ اهتمامها على ذلك الشكل الخام الذي لم تستوعبه بعدُ أي رواية سابقة. ففي سياق البحث عن شكل جديد، يبقى ثمة دائماً شكلٌ آخر خارج مدار الإدراك، شيءٌ يخطئه الروائيّ، و يتعين عليه مع ذلك أن يواصل البحث عنه بسبب خاصيته الانفلاتية هذه بالذات، تلك التي تصير بالنص مثلاً، و كما اتضح هذا في التحليل، إلى أنْ يزاوج بين الأشكال و الموتيفات و الأساليب و الضمائر النحوية بل و بين النصوص، سواء ما ينتمي منها إلى نفس المؤلف (التناصّ المتقلص) أم ما ينتمي إلى مؤلفين آخرين. و يمكن لي أن أزعم بنوع من التجريد أنّ البحث عن ذلك الشكل الخام هو في العمق بحث عن اللا شكل بما هو تَحَدٍّ ينتصب أمام الروائي من غير أن يستطيع تذليله دائماً، بحيث يكون البين بين لا عتبة يتم فيها الفرار إلى «وجه» اللاشكل (son endroit)، بل عتبة يتم فيها اختراق «ظهره» (son envers) من أجل إدراك «وجهه» ذاك. و من ثم، يكون على الرواية، التي تراهن على التجديد و التجريب، أن تقتفي آثار «ظهرها» الذي يلاصقها حيثما تحركت. و هو ما يجعل الانتقال من الوجه إلى الظهر و من الظهر إلى الوجه سيرورة لا تتوقف. هنا تكمن أهمية البين ? بين لا من جهة انفلاته الدائم من التصنيفات فحسب، بل كذلك من جهة كونه صيغة يتوسل بها الروائي لإسماع القارئ، دفعة واحدة، صوتاً مزدوجاً بصوتٍ آخر. بهذا المعنى، يكون البين بين إذن حيث اللا شكل ينبثق من صلب الشكل، هو حين الشكل يفكر في ذاته. ففيه يكون الشكل دينامية في صورة حوار مع نفسه و مع الشكل الآخر، أي مع اللا شكل. و لعل القارئ يكون قد أدرك ضمنيّاً أنّ بين الروايات التي درستها هذا الفرق الأساس : فإذا كان بعضها، و في المجمل، قد تعامل مع البين بين بطريقة اتباعية، معتبرة إيّاه معطى جاهزاً، فإنّ بعضها الآخر، و بنفس الإجمال، قد نظر إليه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، باعتباره حيزاُ لا هوية محددة له و لا مالك (no mans land)، أي أفقاً نابضاً بالجدة يَعِدُ بمفاجآت ليس أقلها تحصيل حداثة خاصة، و من ثم يجدر بالروائي ارتياده. هنا تكون الكتابة البين بينية أصلية إذ ترتهن بفضاء محتديّ «أبيض» خالص، و تكون أصيلة إذ تتمرّس بحيّز «بكر» لم يوطأ بعد. و كيفما كان الحال، فهي تدشينية بما هي إدراك إشكاليّ للعالم ينمّي الدهشة الأولى أبداً بدلاً من أن يبدّدها عبر استيعاب امتثاليّ لهذا العالم، لأنّ البين بين هو فسحة الحضور الأوّلانيّ، هناك حيث تكون الكتابة مكابدة للحظة الراهنة، لا تجربة سابقة أو آجلة. لذلك تبدو و كأنّها تُزَاوَلُ لأول مرة و لآخر مرة، متحررة من منطق التكريس. و فوق هذا، يمثل البين بين فرصة ملائمة نادرة للإبداع المتفرد. فهو، بحكم مجاوزته التلقائية لكل تخم مُحَوْجِزٍ ) ما يفسر تنافيه مع الانتماطية ( ، وبحكم إحباطه لكل غاية جاهزة ) ما يفسر تعارضه مع القصدية ( - ذو طبيعة اجترافية تكسح ما يُتوارث خلفاً عن سلفٍ من أشكال وقوالب ، وتجدّدُ بالتالي الطاقة الإبداعية للكاتب ، تلك التي تحرر ذهنه من الكوابح وتفتح أمامه آفاق الابتكار . وهو ما يجيز لي أن أقول : إن الإبداع ، كل الإبداع يكمن في البين بين ، بل وأن أقول كذلك مع / فرانسوا مورياك / : » إن الحقيقة ، كل الحقيقة ، تقع في البين بين « (15( ولقد أشرت سابقاً إلى أنّ من آثار البين بين إيديولوجيّاً عدم توافقه مع الجاهزية . فلا وجود بالنسبة للكتابة المابينية لواقع موضوعي ، جاهز وموجود قبل الشروع فيها ، باعتبار أن الواقع إنما يتشكل في أحياز البين بين بالذات . وهذا يستتبع بالنتيجة نسف مبدإ « التصوير « الموروث عن مقولة « المحاكاة « الأرسطية ذات الشحنة الميطافيزيقية . ذلك أن المحاكاة ، في الجوهر مسخٌ لكل معطى مرجعيّ ، لا نسخٌ له . إنها ، بتعبير / ناطالي بييكيي كروس - ، » ليست نسخة . والإشكال الذي يكتنفها يكمن كليّاَ في ذلك البين بين الذي يراوح في النص بين الموافقة والمفارقة ، بين رَجْعِ الصدى ورَدْعِ هذا الصدى «. (16(لذلك ، فالكتابة البين بينية تمثل قطيعة جذرية مع استعارة » المرآة « لأن بنية النص تنهض من تلقاء ذاتها دونما استناد فعليّ إلى مرجع موضوعيّ مجاوز لها . فهي تحتاز ذاتيّاً قوة الاستواء الذاتيّ السيميائية الخاصة بها ، بحيث توحي بألاّ وجود سوى للبين بين و بألاّ وجود إلا بصيغة البين البين ، وبأنّ ما يتمثل للقارئ هو مواضع التردد والترجح، لا عناصر التماسك والثبات التي هي مقوّمات الواقع كما تَعَوَّدَ أن يتصوره . لقد تضمّن المستند النصيّ التطبيقيّ فعلاً رواياتٍ لا تَمُتُّ إلى مبدإ الاستلاحة ، أي قابلية التصديق ، بأيّة صلة ، لأن استراتيجية البين بين تُخِلّ عمداً بلوازم التسلسل الزمني للأحداث المحكية وباشتراطات التفضية وبمقتضيات التماسك السببيّ بين الأشياء وبإحالية الشخصيات . فمن المقرر منذ أرسطو أن النصوص التخييلية ينبغي لها أن تستجيب لِ « الدوكسا « ، أي للرأي السائد لدى الجمهور حول أساليب صناعة الحبكة وتنميط الشخصيات وإدارة الأحداث وتدبير الأزمنة والأفضية إلخ . ، بحيث تلتزم بقواعد اللياقة وبالشفرات الاجتماعية والثقافية الرائجة . لكن هذه الستراتيجية كذلك تتنافى بطبيعتها مع هذه السلطة الدوكسولوجية ، التي ظلت إلى اليوم مهيمنة على إنتاج الرواية وعلى مناهج نقدها ، تلك التي تقرر دائماً مدى تصديق القارئ لِماَ يُحكى في النص وعدم تصديقه له . هكذا إذن يكون البين بين وساطة فنية فعالة تسعف على انتهاك هذه السلطة ، ومن ثم تسمح بتوسيع أكبر لسلطة التخييل واللعب الروائيين . وحيث إنني أومأت قبل حين إلى محفل القارئ بكيفية عرَضية ، فإن من اللازم التنويه بكون البين ? بين دينامية نوعية تحرّض على إعادة النظر في كيفية قراءة الأدب عامة ، خاصة منه الأدب الروائي ، من خلال عقد ميثاق جديد مع القارئ يحفزه إلى تعديل تصوّره للنص ، إنتاجاً وتلقيّاً . فحين يراود النص الروائي أفضية البين-بين ، فهو حتماً يقتضي قراءة أخرى تختلف جذريّاً عن ذلك النمط من القراءة الذي لا يتعدى في أقصى حدوده بنيته السطحية ، حيث يتقيد القارئ بذلك المعنى الظاهري الذي يَجْهَرُ به النص ، نمط يكرس استواءَهُ الدلاليّ الخارجيّ عَدَمَ اكتراثٍ مطلقٍ بمناطق الالتباس واللاتحديد فيه التي تكمن فيها بلاغته العميقة . ففي مواجهة البين - بين ، تفقد هذه القراءة الفينومينولوجية إذن كل مشروعية لأنها أبداً غير ملائمة لموضوعها ، و لا تسعف القارئ على تجاوز منطق التعارض وَالمفارقة المهيمن على النص . هنا تراهن الرواية على قراءة جديدة يُعتبر الشك أحدَ مقوّماتها . فباعتبار البين - بين منطقة تنبض بالتوتر والارتجاح و اللايقين ، كما تبيَّن هذا في فصول الكتاب ، فلا شيء يكون معطىً سلفاً بشكل حاسم ونهائيّ ، لا سيما إذا كان هذا الشيء هو معنى النص نفسُه . لذلك ، يرتاب القارئ الحق من ذلك المعنى الذي يزعم المؤلف أنه استودعه جاهزاً ونهائيّاً في نصه ، معنًى يكفيه قليلٌ من الانتباه ليكتشفه في تمام نصاعته. يقول الرسام / بيير سولاج / في هذا الصدد : » لو كان الأمر يتعلق بمجرد معنى يسهل الانتباه إليه لكان القارئ سيرمي النص في صندوق القمامة بعد أن يكون التقط معناه، تماماً كما يفعل ببرقية بعد قراءة فَحْواها ! « (17) وحيث إنّ معنى رواية ما غيرُ ذلك ، خاصة حين تكون هذه تدور في فلك البين - بين الملتبس، فإنّ على القارئ أن يقدح فعلاً فكره سعياً إلى التقاط ما لا يسعه التقاطه بسهولة ، أي معنى ذا طاقة انفلاتية وتبدلية قوية. ولا غرو أن سيرورة مثل هذه ، وبسبب ما ينجم عنها من حيرة وارتباك ، لكفيلة بحثّ القارئ على أن يكدح من أجل تجهيز النص بمعنى ما ، أي بأحد معانيه المتعددة . هكذا فقط تكون القراءة -أقصد القراءة النقدية -لا اجترارية ، بل إنتاجية . فكما أنّ البين - بين ، بما هو حقاًّ وساطة إبداعية استثنائية ، يحفز كاتب الرواية إلى أن يكون في مستوى أصالته )أي البين - بين ( ، فيتجنبَ التساهل والنثرية والتكرار ، فإنه كذلك يحرّض قارئها على أن يكون أيضاً في مستوى تلك الأصالة ، فيتجنبَ تحنيط النص بإعادة إنتاج معناه الظاهري . * * تعددت الروايات وتنوعت أشكال البين -بين والرهان واحد : أن يسعى كل من الكاتب والقارئ إلى التفرد (الإنتاج) لا إلى التقرد (إعادة الإنتاج) ! فهل أكون يا ترى، قارئاً للروايات التي قرأتُها، قد أفلحتُ في سعيي لا إلى الكشف عن تجليات البين - بين فيها فحسب، بل أيضاً و خاصة إلى أن أكون في مستوى ما يَعِدُ به من إمكانيات الإبداع و التميز - أعترف بأنّ هذه الروايات إذا كانت جميعاً تسري فيها، كثيراً أو قليلاً، روحُ البين - بين، فإنّ بعضها القليل إمّا تعاملت معه بطريقة اتباعية معيارية، و إمّا ارتضت الجمالية المابينية بإيعاز مني. و في كلا الحالين، فهي لم تسعفني بما فيه الكفاية على ملاعبتها، انسجاماً مع تصوري الشخصي لممارسة النقد الذي أشرت إليه في التوطئة لهذا الكتاب. أما بعضها الآخر ? و هي كثيرة ? و لأنها دعتني إلى ألاّ أقرأ فيها أي معنى أخر غير ذلك الذي تريد قوله ظاهريّاً، و أغرتني من ثم باقتفاء أثرها في غابة الدوال و الأشكال و الإشارات، فقد حركت فيّ الرغبة في ممارسة هوايتي الأثيرة، ألا و هي استدراجُ النص إلى أفقِي التذوقيّ و التأويليّ الشخصي، و الإنصاتُ إلى وَقعِهِ في نفسي، و تعبئته بالنتيجة بمعنى آخر منبثق رأساً من مخيلتي، معنى لا يكون بالضرورة قضية اجتماعية أو موقفاً سياسيّاً أو رؤية للعالم، بل قد يكون مجرد أثرٍ أسلوبيّ أو محض بدعة شكلية أو تقنية سردية صرفة، باعتبار كل هذا وحده ما يصنع فعلاً أدبية النص الأدبيّ. إنّ جمالية البين - بين تحث القارئ الناقد (وَ الكاتب كذلك) على استنفار طاقته التخيّليّة و التخييلية من أجل تذوّقٍ مختلفٍ و تأويل جديد للمتخيل الذي تنهض عليه الرواية. فكما أنّ للنص الروائي متخيله، فإنّ للنص النقدي متخيله أيضاً. ففي لحظة القراءة النقدية، يكون متخيل الكاتب عرضة لاختراقِ متخيلِ الناقد له الذي يُعيد نص الكاتب إلى رَحِمِ الخيال الذي انبثق منه أصلاً. يغريني هنا أن أميز في ممارسة النقد بين نمطين : نقدٌ -نقدٌ و نقدٌ - متخيّلٌ. فالنقدُ -النقدُ هو النقد النقدي، أي ذاك الذي تكون أولويته غير أدبية، فأحرى إبداعية، بحيث ينظر إلى النص الروائي نظرته إلى أي موضوع معرفيّ أو معطىً تجريبيّ ثابت، فيتصوّره مستودع حقائق جاهزة و نهائية يتعين على الناقد أن يكشف عنها للقارئ، نازعاً عنها غلالات اللبس و الإبهام فيها. أما النقدُ - المتخيّل (أو المتخيل النقدي كِيفْ كِيفْ !)، فيُعيد تركيب نص الرواية - بعد أن يكون قد فككه - وفق أهواء الناقد و نزواته، و أحلامه و هلسناته، أي تبعاً لمتخيله الشخصي. و الحاصل هو أنّ الرواية تجد نفسها، على حين غرة، وجهاً لوجهٍ مع ما يمكن اعتباره آخر تجلٍّ للبين ? بين في هذا الكتاب (مِن غير أن يكون الأخير !)، و هو ترددها بين متخيل الكاتب و متخيل الناقد. لكنه تردد سرعان ما يتبدّد جرّاء انزياحها التلقائي عن متخيل مبدعها و انحيازها اللامشروط إلى ما أفرزته مخيلة الناقد من تأويل جديد يجعلها تعيش حياة أخرى تختلف عن تلك التي تصوّرها لها مؤلفها في الأصل. و لذلك، فإنّ النقدَ - المتخيّلَ اعتراض مبدئيّ على قسمةٍ ضِيزَى متكرسةٍ لدى المؤسسة الأدبية، و هي أنّ المبدع يستأثر بالتخيل و التخييل على الناقد الذي يختص بالتأول والتأويل. فلا غرابة إذن في أن يتوخّى هذا النمط الإبداعيّ من النقد تحريك المتخيل الروائي خارج حدود النص الضيقة الخانقة و تفعيل لعبة الاستخيال لا في اللغة وحدها، بل في اللغة الواصفة أيضاً. مرة أخرى، هل أكون كنت إذن في مستوى ما يتطلبه التحليل النصيّ لجمالية البين - بين من جدّة و ابتكار- هل يكون ارتواء متخيل النصوص الروائية، التي تفانيت في افتحاصها، بمتخيلي الشخصي قد كيّف خطابي النقدي على نحو يجعله متسماً ببعض الطرافة و الفرادة ؟ إحالات و هوامش الجزأين الأول والثاني من الدراسة (1) Madonna Desbazeille, LEntre-deux, Paris, éd. LHarmattan, 2008. (2) ibidem, p. 55. (3) Mikhail Bakhtine, Esthétique et théorie du roman, Paris, éd. Gallimard, 1978, p. 442. (4) يقول / ميشيل زيرافا / مثلاً : «تبدو الرواية و كأنها وليدة الصدفة، تكوّنت في تلك المجالات الشاغرة التي أهملتها نظريات الأدب. و لا شك في أنّ نموّها على هامش بقية الأجناس الأخرى هو ما يمنحها أصالتها الحقة». ضمن كتاب جماعيّ بعنوان : Littérature et genres littéraires، باريس، منشورات Larousse، 1978، ص. 88. (5) Mikhail Bakhtine, op. cit., p. 472. (6) ibidem, p. 472. (7) لعل رواية / روبير برازيلاك / Les Sept couleurs («الألوان السبعة»)، باريس، منشورات Plon، 1939 ? التي أذكر أنّ أستاذي محمد برّادة نبّهني إليها و أنا طالب جامعي في نهاية ستينات القرن الماضي لعلها ذات دلالة خاصة في سياق ما أنا بصدده. ذلك أنها توليفة نصية رائدة من سبعة فصول، يختص كل واحد منها بشكل أو «لون»، تماماً مثلما يتشكل قوس قزح من سبعة ألوان : فالفصل الأول سرديّ صرف، و الثاني ذو صيغة تراسلية، و الثالث في هيئة مذكّرات يومية، و الرابع عبارة عن تأملات ميطافيزيقية، و الخامس ذو بنية تحاورية، و السادس مستند إلى الوثائق، و السابع وظف تقنية المونولوج الداخلي. و تدور أحداث الرواية في باريس على خلفية ما بين الحربين العالميتين، مع اهتمام خاص باعتناق بعض الشبّان للفاشية الإيطالية و النازية الألمانية، مثلهم مثل المؤلف نفسه، الذي تمّ إعدامه في 1945 بسبب تعاونه مع الألمان. (8) لا وجود للفظ «الاختئاف» في العربية عَدَمَ وجودِ لفظ «Différance» في الفرنسية. و قد اعتمدتُ، في توليد اللفظ، على المبدأين الآتيين : * قياسه على وزن اللفظ المحال عليه، أي «اختلاف»، و هو «افتعال»، تماماً كما قيس لفظ différance على اللفظ المحال عليه، و هو différence . * استبدال حرف اللام في «اختلاف» بحرف الهمزة، أول حروف الأبجدية العربية، مثلما استبدل حرف (e) في (différence) بحرف (a)، أول حروف الأبجدية الفرنسية. (9) باستثناء توظيف / دانييل سيبوني / لدينامية البين - بين في التحليل النفسي، كما أشرت إلى هذا في مدخل الكتاب، و ما عدا الندوة العلمية الهامة التي نظمها المعهد الفرنسي بالرباط في نفس الموضوع و نشر نصوص مداخلاتها في كتاب بعنوان : Une altérité questionnée :Nord-Sud («شمال / جنوب : مساءلة الآخَرِية»)، باريس، منشورات L?Harmattan، 1997 فإنّ «البين - بين» مفهوماً لم يخصّه، حسب علمي، أي كتاب بدراسة تحليلية تطبيقية في حقلي الأدب و الفلسفة. (10) Rosalia Biovona, » Une écriture de l?entre-deux «, in. Nord-Sud : Une altérité questionnée, ibidem., p. 137. (11) Jacques Derrida, » Les greffes, retour au surjet «, in. La Dissémination, Paris, éd. Du Seuil, coll. Tel Quel, 1972, p. 395. (12) Edgar Morin, Le Paradigme perdu : La Nature humaine, daprès Claude Cazenabe, La Formation interculturelle : Un Projet existentiel de réciprocité, Paris, éd. LHarmattan, 2006, p. 106. (13) Claude Cazenabe, ibidem, p. 156. (14) Edgar Morin, op. cit., p. 106 (15) François Mauriac, Bloc-Notes : 1952-1957, p. 173, daprès le Robert, Dictionnaire de la langue Française, Paris, 1989, entrée » Entre ? deux «. (16) Nathalie Piégay-Gros, Introduction à l?intertextualité, Paris, éd. Dunod, 1996, p. 144. (17) Pierre Soulages, » Le Sens se fait et se défait «, in. Le Monde, Paris, N du 16 / 10 / 2009, p. 27.