فيضانات إسبانيا.. وزارة الخارجية تعلن استعدادها لتقديم المساعدة للمغاربة بالمناطق المتضررة        مجلس الحكومة يطلع على اتفاقية دولية لتسليم المجرمين بين المغرب وهولندا    مطار تطوان الدولي يستقبل أكثر من 260 ألف مسافر خلال 9 أشهر    مراكش 'إير شو 2024': التوقيع على عدة اتفاقيات شراكة في قطاع صناعة الطيران    الإيرادات السياحية.. تقدم المغرب 10 مراتب في التصنيف العالمي    انخفاض جديد مرتقب في أسعار الغازوال بالمغرب    انييستا: مونديال 2030 يتوفر على "جميع المقومات لتحقيق نجاح كبير"    جماهير اتحاد طنجة تتوجه بنداء لوالي الجهة لإنهاء حرمانها من حضور المباريات    إسبانيا تحصي خسائرها من الفيضانات والسيول.. والأرصاد تحذر ساكنة المناطق المتضررة    إسبانيا تحت وطأة الكارثة.. الفيضانات الأسوأ منذ نصف قرن    نشر أخبار كاذبة والتبليغ عن جريمة غير واقعية يجر شخصاً للاعتقال    المغرب يتابع أوضاع مواطنيه في إسبانيا ويسجل حالة وفاة واحدة    7 نوفمبر بالمسرح البلدي بتونس "كلنا نغني" موعد العودة إلى الزمن الجميل    بدء مناقشة مشروع قانون الإضراب في مجلس النواب في أجواء مشحونة        ائتلاف مكون من 20 هيئة حقوقية مغربية يطالب ب "الإفراج الفوري وغير المشروط" عن فؤاد عبد المومني        المنتخب المغربي للفوتسال يواجه فرنسا وديا يوم 5 نونبر القادم    ماكرون: موقف فرنسا من قضية الصحراء المغربية بصدد تحريك مواقف بلدان أوروبية أخرى    ملف طلبة الطب.. بايتاس يؤكد عدم وجود مستجدات والحل بيد الوسيط    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يُكرم الراحلة نعيمة المشرقي، والممثل الأمريكي شون بين، والمخرج الكندي ديفيد كروننبرغ    المحكمة تقرر تأجيل محاكمة "الستريمر" إلياس المالكي    الكاتب المغربي عبد الله الطايع يفوز بجائزة "ديسمبر" الأدبية    مريم كرودي توثق رحلتها في ورشات الشعر بكتاب "الأطفال وكتابة الأشعار.. مخاض تجربة"    يهم الصحافيين.. ملفات ساخنة على طاولة لجنة بطاقة الصحافة المهنية    الشرطة الألمانية تطلق عملية بحث مكثفة عن رجل فرّ من شرطة برلين    حماس ترفض فكرة وقف مؤقت لإطلاق النار وتؤيد اتفاقا دائما    اعتقال إسرائيليين بتهمة التجسس لإيران    موسم أصيلة يحتفي بمحمد الأشعري، سيرة قلم لأديب بأوجه متعددة    "ماكدونالدز" تواجه أزمة صحية .. شرائح البصل وراء حالات التسمم    موقع "نارسا" يتعرض للاختراق قبل المؤتمر العالمي الوزاري للسلامة الطرقية بمراكش    اعتقال ومتابعة صناع محتوى بتهمة "التجاهر بما ينافي الحياء"    مولودية وجدة ينتظر رفع المنع وتأهيل لاعبيه المنتدبين بعد من تسوية ملفاته النزاعية    طقس الخميس.. امطار ضعيفة بالريف الغرب وغرب الواجهة المتوسطية    لبنان.. ميقاتي يتوقع إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع إسرائيل في غضون أيام    الطاقة الخضراء: توقيع اتفاقية شراكة بين جامعة شعيب الدكالي وفاعلين من الصين    توقيف شخص بسلا يشتبه تورطه في جريمة قتل    مصرع شاب في حادثة سير بتازة    مانشستر سيتي وتشيلسي يودعان كأس الرابطة الإنجليزية    منفذو الهجوم الإسرائيلي على إيران يتحدثون للمرة الأولى    دراسة: الفئران الأفريقية تستخدم في مكافحة تهريب الحيوانات    إسرائيل تدعو لإقالة خبيرة أممية اتهمتها بشن حملة "إبادة جماعية" ضد الفلسطينيين    القروض والأصول الاحتياطية ترفعان نسبة نمو الكتلة النقدية بالمغرب إلى 6,7% الشهر المنصرم    وزير: الإنتاج المتوقع للتمور يقدر ب 103 آلاف طن في الموسم الفلاحي 2024-2025    الخنوس يهز شباك مانشستر يونايتد    متحف قطر الوطني يعرض "الأزياء النسائية المنحوتة" للمغربي بنشلال    الحدادي يسجل في كأس ملك إسبانيا    التحكيم يحرم آسفي من ضربة جزاء    الممثل المصري مصطفى فهمي يغادر دنيا الناس    دراسة: اكتشاف جينات جديدة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بالسرطان    ثمانية ملايين مصاب بالسل في أعلى عدد منذ بدء الرصد العالمي    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    إطلاق حملة وطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البين- بين قدرا للرواية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 16 - 09 - 2011

قبل بضعة أسابيع، أصدر الناقد والمترجم رشيد بنحدو كتابا نقديا مهما تحت عنوان :»جمالية البين-بين في الرواية العربية «(منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب،فاس 2011،418صفحة ).وقد جاء في تعريف الناشر بالكتاب مايأتي:
من من الروائيين لا يجد نفسه، في الكتابة كما في الحياة، وجها لوجه مع تجربة البين- بين بين النص واللانص، بين من أنا ومن غيرأنا، بين الماضي والمضارع، بين الاستلاحة والخيال المؤمثل بين تفضية الوهم وتوهيم الفضاء، بين النص والمناص، بين الكتابة وقراءة الكتابة في الكتابة، بين الطرس كتابة و الطرس محوا، بين كابوس وكاووس، بين اللارواية والرواية...
استثنائية هي إذن تجربة البين- بين هذه التي يكون فيها الروائي، بلا وعي منه في الغالب ،عرضة لنوسان عسير وممتع في آن واحد، بين أشكال وأساليب وشفرات وانتحاءات وجودية ورؤى للعالم متنابذة- قد تصبح متنافذة- وتسعى هذه الدراسة الطريفة ( بالاستناد ،عند الاقتضاء، إلى بعض من بارث وجنيت وباختين وديريدا وجويس وبروست وبورخيص وسيبوني وكونديرا وروب-غريي وفوكوإلخ.)إلى افتحاصها وتحليلها ،قبل تأويلها، من خلال روايات عبد الكريم غلاب ومحمد برادة ومحمد شكري والطاهر بنجلون ومحمد عز الدين التازي وإيدمون عمران المليح ويوسف القعيد وأحمد المديني وفاصل العزاوي ومحمد خير الدين وإدوار الخراط.
وقد ذيل المؤلف كتابه بدراسة عنوانها: « البين- بين قدرا للرواية « وصفها بأنها « بمثابة خاتمة «. وفيها استعاد أهم الحصائل التي تمخض عنها تحليله للمتن الروائي المدروس في ضوء مفهوم «البين- بين» المركزي. كما قام فيها بتأويل للرهانات الجمالية والأنطولوجية لاستراتيجية البين- بين في أصعدتها الأسلوبية والخطابية والإيديولوجية، وذلك قبل أن يبسط في الأخير تصوره الشخصي لممارسة النقد.
في ما يلي نص الدراسة الذي ننشره باتفاق مع الكاتب :
يبدو أنّ لجدار برلين النحِس الذي كان، قبل أن يتمّ هدمه في 1989، يقسّم عاصمة ألمانيا إلى هوّيتين، اشتراكية و رأسمالية شحنة رمزية توحي، أكثر من أيّ حدّ فاصل آخر، باستعارة «البين بين». لذلك، أرى ألاّ شيء أحسن منه يصلح لإنهاء هذا الكتاب، مثلما أنني لم أجد أفضل منه لاستهلاله.
للمؤلفة الدرامية الفرنسية / مادونا ديبازيل / مسرحية بعنوان «L?Entre deux» (1) («البين بين») تمثل أدوارَها خمسُ شخصيات : إيلغا و زوجها يوهان و ابنتهما أنّا، و يعيشون في وئام ببرلين الشرقية، ثم ماتياس المطلّق الذي يعيش سعيداً مع ابنته غودرون ببرلين الغربية. بعد انهيار الجدار الفارق، عزمت إيلغا على الذهاب إلى «هناك» لترى بعينيها لأول مرة كيف تسير الأشياء في «الجهة الأخرى». و في هذه الجهة، ستتعرّف على ماتياس لتنشأ بينهما علاقة حبٍّ مستحيل جرّاء هذا الإحراج : هل يمكن حقّاً تخطّي الجدار حتى و هو صائر في خبر كان إلى أي حدّ يستطيع المرء أن يجتاز حدّاً عازلاً بين كذا ... و كذا ... هل يكون هذا التخم، في آن واحد، ذريعة فَصْلٍ من حيث كونه، تبعاً لمبدإ التنافي و التنابذ، خطّاً صارماً يفرّق بين ما هو في جانب و ما هو في جانب آخر، و ذريعة وَصْلٍ من حيث هو فضاء وسيط منذور، تبعاً لمبدإ الامتداد و التنافذ، للعبور و التبادل ؟
إنها نفس الوضعية الارتجاحية التي لاحظنا أنّ نصوص المتن التطبيقي تكون فيها و هي تلقاء انتحاءين أو شكلين أو جنسين متمايزين، يتعيّن عليها النوسان بينهما أو اختيار أحدهما أو التوفيق بينهما. لكنْ مع فارق أساس غير هيّن لابدّ لي من التنويه به.
«إيلغا : هذه أول مرة تطأ فيها رِجلاي هذه الأرض !
ماتياس : ثمة أمر مؤكد، و هو أنّ الأشياء لا يمكن لها أن ترجع إلى سابق عهدها. لكنّ الجدار سيظل بعض الوقت منتصباً في رؤوسنا ... ألا تعتقدين هذا ؟
- كل شيء ممكن، و ما علينا إلاّ أن ندفع الأشياء إلى التحرك.
- ها هي ذي الأسئلة الصعبة بدأت الآن تطرح نفسها !
- ليس سهلاً أن نردم الحُفر. الشواش و الهباء يهيمنان على كلا الجهتين !» )2(
فلئن كان البين بين في المسرحية عالم هباء و شواش يبعثان على التحيّر و القلق، فإنه إذا استثنينا روايات محمد خير الدين ذات الصبغة الكاووسية، و رواية أحمد المديني، ذات الخاصية الكارثية عاملُ تجريب و افتتان و متعة في باقي الروايات التي قمت بتحليلها لكتّاب آخرين.
بالفعل، تكاد نصوص كلّ مِنْ خير الدين و المديني تشترك في صدورها عن تصور فجائعيّ للعالم، لكنْ مِنْ غير أن تنفي هذه عنهما كونهما يستعذبان البين بين، عذاباً و عذوبة. فسواء أكان هذا البين بين، في حال مؤلف «Agadir»، تذبذباً مأساويّاً بين فضاءيْ الأمل و الغربة أم تنازعاً بين نثرية الرؤية الواقعية و شعرية الرؤيا الهيرميسية أم تردداً بين الانتكاص إلى الماضي و الارتداد إلى الحاضر أم سوى ذلك، و سواء أ كان، في حال مؤلف «مدينة براقش»، مراوحة سيزيفية بين بناء النص بتقنيات السرد الكلاسيكي من جانب، و نسفِه بالطمس و التحريف و الطرس و التمويه أم غير ذلك مِن جانب آخر فإنه، أي البين بين، آية نزوعٍ أونطولوجيّ و جماليّ مكين لديهما، فوضويّ و عدميّ، ليس سوى أثرٍ مِن آثار سديمية الكون التي تلهج بها كذلك شخصيات مسرحية «L?Entre deux» !
و على نقيض روايات خير الدين و المديني، فإنّ باقي الروايات الأخرى التي حللتها تصدر عن تصور مانويّ يزدوج فيه الشيء بضده. فبالنسبة لعبد الكريم غلاب، رأينا أنّ مَطالع رواياته هي مرتع لتجاذب بين بينيّ ذي ثراء دلاليّ قوي. أليست هي الفضاء العصيّ الذي يصارع فيه النصُّ العدمَ ليرى نور الوجود ؟ أليست هي ذلك الحيّز الشكِس الذي يجد فيه المؤلف نفسه وجهاً لوجهٍ مع عدة بدايات ممكنة لنصه فلا يهتدي لواحدة منها إلاّ بعد لأيٍ و عنتٍ أليست هي ذلك الجسر الرجراج الذي يشرع فيه القارئ نفسُه في الوجود الفعليّ بعد أن كان وجوده افتراضيّاً ؟ ينضاف إلى كل هذه الحيثيات أنّ المطلع الروائيّ هو عتبة متشنجة تنبض بتجاذب ما بينيّ قوامه قوتان متنافيتان، إحداهما تحيل على مقول العالم و الأخرى تحيل على مقول النص، بحيث يكون الرهان الجماليّ هو صيرورة المقولين إلى الانصهار في جوهر واحد غير قابل للبينونة.
و باعتبار أنّ أيّ نص أدبيّ يكون عرضة لتوتر بين بينيّ أزليّ، طرفاه هما الوفاء بالواقع و مفارقته، فلعل أحسن الأنماط النصية تمثيلاً لهذه الثنائية التضادية هي المحكيّ السيرذاتي و المحكيّ الروائيّ بحصر المعنى، لاسيما أنهما يوحيان بالتعارض.
فلقد أبان التحليل أنّ محمد برّادة ربح فعلاً هذا الرهان في «مثل صيف يتكرر»، حيث أمكن له، بوسائط فنية و بلاغية متنوعة، أن يوفق بين انتحاءيْ «الاستيقاع» و «الاستخيال»، و ذلك على نحو أفضى به إلى تصوّر نمط نصّيّ لا تربطه بالمرجعيّ علاقة إحالية، بل علاقة استعارية، و هو «المتخيل السيرذاتي»، الذي يحتل منزلة بين منزلتيْ الحقيقة و الخيال، منزلة لا يكون فيها الخيال بالضرورة نقيضاً للحقيقة.
أما محمد شكري، فالراجح أنه لم يوفق كثيراً إلى كسب ذلك الرهان، رغماً عن ادّعائه أنّ «الخبز الحافي» هو «سيرة ذاتية روائية». فعلى رغم تعمّده، بين فينة و أخرى، تصعيد الأحداث و تمويه حقيقتها على القارئ، فإنّ نسبة تخييلها تبقى باهتة، و هو ما لا ينفي عن النص مع ذلك نوسانه بين أشكال أخرى للبين بين عجيبة بوّأته منزلة بين المضارع زمناً للكتابة و الماضي زمناً للأحداث المحكية، بين تفصيح اللغة و تشفيهها، بين السرد العفيف المحتشم و البوح الداعر «المخلّ بالآداب» كما قيل في تبرير قرار منع السلطات «الخبز الحافي» بإفتاءٍ من الدوسكا الأخلاقية.
لكنّ بإمكان إشكالية الواقع / الخيال ألاّ تختصّ بالبنية الشاملة للنص وحدها. فقد تطول كذلك أحد عناصر هذه البنية كالشخصية الروائية. فهذه حرّودة مثلاً، في رواية «Harrouda « للطاهر بنجلون، تلاعب «أطفالها» و من خلالهم القرّاء كذلك، لعبة الظهور و الاختفاء، باعتبار هذه تجسيداً لبين بين فريد يعرّض شخصية حرّودة، هيئة بدنية و أدواراً درامية، لتحولات لن تنتهي إلاّ بنهاية الرواية. فهي تراوح بين كونها كائناً آدميّاً حقيقيّاً إذ تعلن عن نفسها نهاراً في أماكن واقعية مألوفة في فاس و الدار البيضاء و طنجة، و في أوقات ذات صلة بأحداث حاسمة في تاريخ المغرب المعاصر، و كونها من جهة ثانية كائناً خرافيّاً إذ تتوارى فجأة عن الأنظار و تعاني تحولاتها العجيبة مِن طائر إلى جنية بحر إلى نجمة إلى نهد إلى بومة إلى عنكبوتة، تبعاً لتنوّع الأحداث التاريخية التي تستدعي تدخلها العاجل.
كما أنّ فضائية النص الروائي لا تعدم التلاؤم مع إشكالية الواقع / الخيال تلك، مثلما تبيّن هذا في رواية محمد عز الدين التازي «مغارات»، التي تؤدي دورَ البطولة فيها «عينٌ» ضخمة لا تني تخضع لنوسان ما بينيّ قويّ يجعلها تارة تنكفئ إلى ذاتها داخل حيّز ضيق (غرفة) لتجترّ إحباطاتها و انتكاساتها، و تارة أخرى تفرقع الجدران، فتخرج إلى فضاء رحب (طنجة) رحابةَ مآسي الوطن، و ذلك لتقول على رؤوس الأشهاد « «أنا أتّهم !»، ممزقة الأقنعة، كاشطة الحقائق، فاضحة قوى البغي و الجبروت. وهو النوسان الذي يؤدي إلى تفضية الوهم و توهيم الفضاء.
بيد أنّ ما يعرّف «خيالية» النص الروائي ليس هو فحسب مناقضته لِ «واقعيته»، بل هو أيضاً ما يجعله لا مستقلاًّ بذاته أو مكتفياً بها، بل مأخوذاً في دوّامة مدوّخة من النصوص توحي بأنه أقوى صلة بالافتراض منه بالحقيقة، و هي ما يُعرف ب «التناصّ». فلقد أمكن لي أن أثبت أنّ رواية إدمون عمران المليح «Mille ans, un jour» هي ربيكة نصية بين بينية عجيبة تتركب من رواية «Ulysses» لِ / جيمس جويس / التي هي نفسها، و بوجه من الأوجه، رَجْعُ صَدًى باروديٌّ خفيّ لملحمتي «الإلياذة» و «الأوديسا» لِ / هوميروس /. و هو ما أغراني بأن أغامر بالقول، على أثر / بورخيص /، إنّ جميع نصوص العالم ما هي سوى تسكّعٍ استعاريّ في ما بين نصوص لا حصر و لا حدّ لها هي ما يدعوه ب «مكتبة بابل».
كما أنّ مِن أكثر مَجالي البين بين بروزاً في نوع من الرواية العربية ? أقصد ذلك الذي يبدو أنه يستوحي من نصوص الرواية الجديدة في فرنسا بعضاً من تقنياتها السردية هو أنْ يحرّض المؤلفُ نَصَّ الرواية على التفكير في نفسه و هو ينكتب، و ذلك بإنتاج خطاب ميطاحكائيّ يتمرس بالخطاب الحكائي في حد ذاته، فينعكس ذاتيّاً على ذاته بانكفاء الكتابة المتحررة من أوهامها الواقعية، على ذاتها. و حيث إنّ بإمكان الرواية أن تتأمل ذاتها نقديّاً بأكثر من طريقة واحدة، فقد عمدتُ إلى تنويع المستند النصيّ التحليليّ ليشمل كلاًّ مِن «يحدث في مصر الآن» ليوسف القعيد، و «وردة للوقت المغربيّ» لأحمد المديني، و«الديناصور الأخير» لفاضل العزاوي، و «رحيل البحر» لمحمد عز الدين التازي.
فكل واحد من هذه النصوص يتعرّض لتوترٍ يُفضي إلى نشوء فضاء بين بينيّ مفتوح يتعطل فيه المتخيل الحكائي مؤقتاً ليفسح المجال لنص آخر من طبيعة تأملية يستبطن هذا المتخيل من أجل وصفه أو تبريره أو تأويله. و هو ما لا يخلو من متعة فريدة لا بالنسبة للكاتب فحسب، الذي يصبح قارئاً، بل كذلك بالنسبة للقارئ بحصر المعنى، الذي يصبح كاتباً إذ يضع نفسه، دفعة واحدة، في مستوى تذبذب النص بين كونه كتابة و كونه قراءة لهذه الكتابة ضمن الكتابة.
و يُعتبر توتر النص الروائي بين أجناس و أنواع غير أدبية آخر ملامح البين بين التي استأثرت باهتمامي، مِن غير أن يكون هو الأخير. و لعل إدوار الخراط أكثر الروائيين العرب جرأة على جعل جنس الرواية يتخطّى حدوده المعيارية المكرسة بصرامة لينفتح على أساليب و ممارسات تختص بها عادة بعض الأشكال الفنية، لاسيما منها اللعب و الموسيقى (وهذه حال «اختراقات الهوى و التهلكة»)، ثم الفن التشكيلي (و هذه حال «أسكندريتي»)، و أخيراً الموسيقى مجدّداً ( و هذه حال «تباريح الوقائع و الجنون»). و في جميع هذه الأحوال، يكون النص خاضعاً بقوة لتجاذب بين كونه رواية و كونه لا رواية دون أن ينفي كونه رواية. و هو التجاذب الذي خصه إدوار الخراط بعدة دراسات يزدوج فيها النقد بالتنظير.
لعل ما يتحصل مِن هذا التكثيف السريع لفصول الكتاب هو أنّ الروايات المفتحَصة كانت عرضة لبين بين واضح تعددت أشكاله و تنوّعت وظائفه، سواء أتمّ ذلك بسبق تصميم مِن مؤلفيها أم بمحض المصادفة. و هل كان يمكن لها (أي تلك الروايات) أن تكون غير ذلك، علماً بأنّ الجنس الذي تنتمي إليه مَدِينٌ بوجوده و بتحوّلاته اللاحقة للبين بين بالذات ففي ما بين الأجناس الأخرى نشأ جنسُ الرواية و ترعرع. فهو تاريخيّاً سليل الشكل الملحميّ. كما أنه فنّيّاً لم يتطور إلاّ بفضل ما قبسه من الأجناس و الفنون الأخرى، كالشعر و المسرح و السينما و الموسيقى و التشكيل، مِن تقنيات في السرد و التشخيص و مِن أساليب في التصوير و التخييل. لذلك، يتوافق المنظّرون و النقاد مع / ميخائيل باختين / على اعتبار الرواية «لا مجرد جنس ضمن أجناس أخرى، بل هي الجنس الوحيد القادر على أن يعيش و يتطور في ما بين أجناس بلغت منذ القدم ذروة اكتمالها و ماتت جزئيّاً. (...) و من أجل أن تحافظ على هذه الحظوة في جمهورية الأدب، فهي تصارع هذه الأجناس التي لا تنفك تتفكك كلما انتصرت عليها الرواية» (3(
و حيث إنّ قَدَرَ الرواية هو أنْ تستوطن تلك الأحياز البين بينية التي لم تلتفت إليها بعض نظريات الأدب (الخانة الفارغة في شعرية أرسطو نموذجاً) و أنْ تعيش على هامش أجناس أخرى، (4) فإنها تبدو جنساً هجيناً لا أصل له و لا قواعد : «فهي بطبيعتها تتنافى مع الأصول و تقاوم القواعد. إنها جنس في منتهى المرونة، يبحث دوماً عن نفسه، و يحلل طبيعته باستمرار، و يعيد النظر في جميع أشكاله المكتسبة. و هذه صفات لا تتهيأ إلاّ لجنس يتكوّن و ينمو في أحياز يتماسّ فيها مع الحاضر المتطور نحو المستقبل» (5(
و نتيجة لهذا البين بين التكوينيّ، فإنّ الأجناس التي الْتَقَحَ بها جنسُ الرواية لا «تموت جزئيّاً» كما يعتقد / باختين /، بل تتطور كذلك إِذْ تجتني فوائد غير متوقعة جرّاء اتصالها بهذا الجنس، بدليل قوله بنفسه : «إنّ جميع الأجناس الأدبية تكفّ، في حضرة الرواية، عن كونها ما كانت بذاتها. و هذه معركة طويلة ما تزال في بدايتها، تلك التي تقوم فيها الرواية بإرواء الأجناس الأخرى بمياه الرواية، و مِن ثم إلى جرّها إلى منطقة التماسّ مع اللا إنجاز». (6(
إنّ خاصيات اللا إنجازِ هذا بالذات و كذا النموِّ و التجددِ على هامش أجناس الأدب الأخرى هي ما يجعل الرواية أقدر مِن غيرها على بلورة فضاء البين بين كنموذج للكتابة و أفق للتخييل، إنْ بشكل سانكرونيّ (تساكن بنياتها الداخلية و استرتيجيات إنتاجها للمعنى المستوحاة من أسيقة أجناسية مختلفة) و إنْ بشكل دياكرونيّ (سيرورتها النوعية القائمة على التعديل المستمر و التنافي مع كل غائية أجناسية). و هو الأمر الذي يبدو معه الخطابُ الروائيّ إوالية استبدالية (paradigmatique) بها يتحدد أجناسيّاً (أي : لا يتحدد !) أكثر ممّا هو إوالية مُركّبية (syntagmatique) نزّاعة إلى الاستواء المعياريّ. لذلك، فالتحقق الماديّ للرواية في هيئة نصّ مفرد ليس غير فسيفساء مابينية من الأشكال البدائل التي تنتمي إلى أجناس أدبية أخرى (الحوار الدراميّ، الوصف الملحميّ، الكثافة الشعرية، منطق الخطاب الإقناعيّ، كولاج فنّ الرسم، التقطيع المشهديّ السينمائيّ الخ.) و التي تتعاون على إنتاج آثار الروائي (le romanesque) مثلما تتعايش سلميّاً و انسجاميّاً مِنْ غير أنْ تنصهر في بوتقة أجناسية جديدة. (7) هذا من جانب أوّل.
و من جانب ثان، فإنّ النظر الإجماليّ إلى التحقق التاريخي للجنس الروائيّ يكشف حتماً عن كونه تعرّض، عبر مراحل تطوره الكثيرة، لدينامية بين بينية جعلته ينجذب، باستمرار و تواتر، إلى جنس أو نوع خاصّ بعينه، فيصطبغ بمُهيمنة شكلية أو فلسفية أو فنية يتميز بها هذا الشكل أو النوع. فالرواية الرومانسية مثلاً يهيمن عليها التبئير على الذات المكلومة و البوح التشاؤميّ الانفعاليّ و انزياحات اللغة الشعرية. و الرواية الواقعية مرآة تعكس بأمانة ما يعرض للناس في مجتمع ما مِن تباريح الوقائع التي تقود إلى الجنون أو الاستقالة من الحياة. و الرواية التحليلية تستعير من علم النفس اهتمامه باستبار بواطن النفس البشرية و نوازعها اللاشعورية و انحرافاتها المَرضية. و الرواية السوريالية تقوم على مبدإ «الصدفة الموضوعية» التي تجعل النص يتشكل على إيقاع تهلّسات و رؤى و تداعيات تتوارد بشكل آليّ يكون أقرب إلى الاتفاقيّ و العَرَضيّ منه إلى الضروريّ و الحتميّ.
و من جانب ثالث، و على رغم أن الرواية العربية قد تأثرت، كثيراً أو قليلاً، بهذه الدينامية البين بينية التي تعرّض لها جنس الرواية في الغرب، فإنها تنماز عن هذه بتذبذبها، ضمن دينامية خاصة، بين انتحاءات و اختيارات يمكن اختزالها، مثل كثير من الظواهر في العالم العربيّ، في ثنائية «الأنا / الآخر». فبعيداً عن نوع من النظرة المتعصبة المفارقة، تلك التي تحتال و تتمحل في شدّ الظواهر إلى أصول تراثية عربية إسلامية تليدة، فتؤمنَ إيماناً ركيناً لا يتزعزع بأنّ الرواية العربية هي سليلة طبيعية للقصص القرآنيّ و «كليلة و دمنة» و «حكايات ألف ليلة و ليلة» و «المقامات» الهمذانية و الحريرية الخ. فإنّ واجب الإنصاف و الإقرار بالحقائق يقتضي مني القول، مِنْ غير لفّ و لا مواربة، إنّ الرواية وردت على بعض أقطار المشرق العربيّ (ثم على بقية أقطار العالم العربيّ لاحقاً) في سياق صدمة الاتصال بالغرب الأمبرياليّ في القرن التاسع عشر، مَثلها مَثل «بِدَعٍ» و «ضلالاتٍ» أخرى «نصرانية»، سرعان ما تمّت تبيئتها و تمّ ارتضاؤها عن طواعية و بكل طيبة خاطر. صحيح أن التراث العربيّ الإسلاميّ لا يعدم أشكالاً حكائية «بدائية» هي هذه التي أومأت إليها قبل حين. لكنّ رأيي هو أنّ هذه الأشكال (ما قبل الروائية تجاوزاً) لم تتطور ذاتيّاً و تلقائيّاً لتتمخض عن نمط نصّيّ هو «الرواية» بالمعنى الفني للفظ في الدراسات السردانية.
لذلك، و عوضاً عن بذل جهود غير مجدية في إثبات أشياء مفارقة و منافية للواقع، من الممكن بل و الملائم أن نتأمل في الوضع الراهن للرواية العربية من زاوية هذا البين بين الحيويّ (الذي لا يلغي طبعاً زوايا نظر أخرى) و هو : الهوية / الاختلاف. فقد أمكن لي أن ألاحظ أنّ بعض الروائيين المغاربة و المشارقة، سعياً منهم إلى تحصيل حداثة نصية تقطع مع الأعراف و المعايير الفنية التي استهلكت العالم و ابتذلت لغة تشخيصه، ينتهجون إحدى هاتين الوجهتين :
* تجريب ما حققته الطليعة الروائية في الغرب من منجزات جمالية زعزعت ثوابت السرد البلزاكي، فاستوحوا منها، باعتراف جلهم، تجارب و تقنيات عديدة في طرائق السرد و التخييل. و قد تضمن المتن النصي الذي حللته نماذج لهذا المسعى.
* و بخلاف هذه الوجهة، انكفأ روائيون آخرون إلى التراث العربي الإسلامي، مستوحين من أكثر أشكاله الحكائية أصالة و تألقاً طرائق مزاولتها للسرد، و مِن كتب التاريخ أخباراً و نوادر و شخصيات، و مِن البلاغة الكلاسيكية ألاعيبها في التسجيع و التجنيس، و من الثقافة الشعبية أساليبها في الإغراب و التلغيز و السخرية، و سوى ذلك من الإجراءات الفنية التي لا يُخفي جلهم توظيفهم لها بقصد بعث التراث القومي و مواجهة الأنوية الغربية بأنوية عربية إسلامية.
و لئن كانت وجهتا هذا البين بين مختلفتين، فإنهما مؤتلفتان من حيث الغاية، ألا و هي إتيان غير المعياري في طرائق الصوغ الحكائي و ارتياد الشاذ في أساليب التخييل الروائي، الأمر الذي يخوّل النص الروائي صفة الجدة.
و أيّاً كانت طبيعة هذه الجوانب الثلاثة (أي التحقق المادي المفرد للرواية و تحققها التاريخي و تحققها في ما بين الهوية و الاختلاف)، فإنّ الجنس الروائي يتسم بمرونة كبرى تجعله قابلاً للمراجعة الدائمة، انسجاماً مع كون الرواية مغامرة مشرعة على غير النهائي و غير الناجز. إنها تدبير ماكيافيليّ لعناصر كتابة ترميقية تُسخّر فيها الوسائل القديمة لغايات جديدة، و انشدادٌ أبديّ إلى المتنافرات المتعايشة. و هو ما يتواءم مع استعارة البين ? بين المثلى، بل و مع روح الخانة الأرسطية الفارغة، المتمثلة في ما بين المحاكاة و التحريف، أي «الباروديا»، التي تتقاسم مع الرواية نفس الانتماء الجينيالوجي حسب الصنافة الأرسطية للأجناس.
إن مراهنة النصوص، التي قمت بفحصها، على كتابة البين بين بصيغ متنوعة و متفاوتة الحدة، تجعل الرواية تتجاوز في اعتمالها الداخلي منطق الاختلاف البسيط و التراكمي، ذلك الذي يثبت العناصر المتنابذة بشكل حاسم، إلى منطق آخر يمكن أن أدعوه مستلهماً / جاك ديريدا / - ب «la différance» أي «الاختئاف» (8)، ذلك الذي يتمثل في التلاعب بالاختلافات النوعية و في توليد التردد و المراوحة المستمرين و العلاقات غير الثابتة و غير الحاسمة، بحيث يقع تنويع انحلال الثنائيات و طرائق تصريفها، و تجري المراهنة على بناءٍ ذي منحى تفكيكيّ دائم تتنازعه و تتنازع فيه اختيارات كتابية متنافرة و ربما متناقضة، أي على لحظة يكون فيها قَدَرُ الكتابة أن تخون الكتابة.
ملحوظة: ننشر الهوامش في العدد القادم مع بقية الدراسة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.