أسمى الأخوان جيروم وجون طارو أحدَ مؤلفاتِهما «الرباط أو الأوقات الفرنسية». فأجزت لنفسي أن أستلهم من هذا الوسْم عنواناً لدراستي هذه، التي تناولتُ بها صورةَ المغرب في الأدب الفرنسي؛ فكان «المغرب في الأوقات الفرنسية». كان مبتغاي من هذه الدراسات أن أرصد الصورة التي تبدى بها الزمن الفرنسي في المغرب في متخيل الإنتاج الأدبي الفرنسي. وقد كنت اعتمدت مادةَ هذه الدراسات في أبحاث جامعية، نُشِرتْ منذ نحو ثلاثين سنة. والنص الحالي يأخذ من تلك الأبحاث زُبدتَها، ويقدم خلاصة جديدة تعيد افتحاصَ النظرة ذات المنحى النقدي الغالب، التي تحضر في هذا التحول الأدبي الذي شهده المغرب في الكتابات الروائية. إن معظم الأعمال التي تنساها الأجيال اللاحقة تكون هي الأكثر تمثيلاً لعصرها. وفي ذلك ما يمكن أن يكون مبرراً لإعادة نشر هذه الدراسة. فإذا كانت فرنسا لوطي وطارو ومونتيرلان لم تستطع، أو لم تعرف، أو لم تشأْ، في معظم الأحيان، أن ترى الآخرَ في حقيقته المختلفة، فإن من حسن حظنا أن فرنسا بونجان وباستيد ولوكليزيو قد أفلحت في أن تكون، وتظل، وتصير فرنسا الوسائط نحو «الآخر». المغرب، وهو الدولة البربرية ضمن هذا الشرق الشاسع، كان يُدخل الفرنسي في صورة قاتمة قد كانت تبررها الرؤية المعادية التي كانت تأتي من «أغنية رولان». وكان الملك مارسيل يعاود الظهور في صورة مولاي إسماعيل، قد أحاط به حرسه الأسود، وقد كنا سنكتب «طغمته الأشد سواداً من المداد والتي ليس فيها شيء أبيض ما عدا أسنانها». فهل ينبغي أن نستدعي في هذا الصدد الصفحة الشهيرة لفولتير في «البريء»؛ حيث نقرأ في الفصل الحادي عشر «كان المغرب غارقاً في الدم يوم أن وصلنا. وكان خمسون من أبناء الإمبراطور مولاي إسماعيل كل له حزبه، وهو ما نجم عنه خمسون حرباً أهلية. فسود ضد سود، وسود ضد سمر، وسمر ضد سمر وخلاسيين. فكانت مذبحة متواصلة على امتداد الإمبراطورية». كذلك كانت تتحدث العجوز وهي تصور المغرب على امتداد تاريخه. لكننا سنعود لملاقاة هذا الملك و»تعصبه». ولنلاحظ في هذا الطور من التحليل أن هذه الفقرة تقدم لنا مثالاً محدداً عن ملامح الصورة التي كان يمكن للقارئ أن يلاقيها في مؤلفات ذلك العصر والتي ستنجز أول تمثل مغربي خلال قرن وزيادة، ابتداء من سنة 1637، تاريخ إصدار دان لمؤلفه «تاريخ بلاد البربر وحروبها الصليبية»، إلى سنة 1792 تاريخ ظهور مؤلف فول «مذكرات فرنسي يخرج من الاستعباد» في المكتبات. ومع ذلك فهذه العبارة «تمثُّل الصورة المغربية» غير مناسبة. فكما حاولنا أن نبين في ما سلف، بالاستناد إلى الملاحظات التي جاء بها كل من لوبيل ومؤنس، فلا المغرب ولا الجزائر، ولا غيرهما من البلدان المسماة بربارية لم يكن لها مميزات خاصة تنفرد بها في فكر الفرنسيين لما قبل التوسع الاستعماري. فقد كانت هذه البلدان تشكل مجتمعة، من طنجة إلى القسطنطينية، ذلك الشرق الشاسع و»المَخوف» الذي سيظل يستحوذ على الوعي الأوروبي لقرون. بل وأكثر من ذلك؛ فالشرق الأدبي في نظر دوفيرنوي، وهو الذي سيشخصه في دراسته، أوسع مما ذكرنا؛ فهو يشمل «البلدان المسلمة»؛ أي الشرق الأدبي، وهو الذي نزيد إليه الجزائر باعتبارها محطة توقف إجبارية بين فرنسا والقسطنطينية، في رواية المغامرات الطريفة، وبلاد فارس والهند (المغول) والصين واليابان وسيام». وقد أضفنا، من غير خشية الوقوع في التناقض، كلاً من المغرب، باعتباره محطة توقف أخرى، والجزائر. وتبين مغامرات العجوز في [مسرحية] «البريء» أن المسار الشرقي للعبيد كان يمر كذلك وكثيراً بسلاً. ولذلك بدا لنا أكثر موضوعية وأكثر نفعاً ألا نفصل الآثار الأدبية المستوحاة من المغرب في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر عن ذلك الإنتاج الهائل التعلق بالشرق الإسلامي، وأن نشدد بوجه خاص على ازدواجية «الأسطورة العربية». ولنذكر بأن الفترة الرومنسية، وهي الوريثة لهذه الرؤية والشاهدة على الصراع اليوناني التركي لسنة 1821، والاستيلاء على الجزائر (1830)، ستُثري هذه الرؤية بتغليفها بالأسطورة القائلة بشلل الأمم الإسلامية، وبأسطورة «غروب الإسلام وانحطاطه!». وقد كان في التطور الذي عرفه الفكر الوضعي ما خلق مبررات لهذه الرؤية. وهو أمر نتبينه بوضوح وتفصيل شديد من تحليل عمل من قبيل ما كتب أندري شيفريون. لكن يبدو لنا من الضروري أن نظل مستذكرين أن في تلك الفترة، ومنذ سنة 1830، بداية احتلال الجزائر، وقعت أحداث أهم بكثير من المعارك الدورية للقراصنة في القرون السابقة، ستدخل علاقات المغرب بفرنسا، بصورة حاسمة، في منظور من الصراع والأزمة، وتخلق في الرأي العام الفرنسي ما يشبه عملية إعادة تصويب للصورة. إن غزو الجزائر «الذي شعر به المغرب كتهديد مباشر وأيقظ [فيه] روح الحرب المقدسة [الجهاد]» ، لم يكن لها أن يترك فرنسا غير مكترثة بما كان يمكن أن يشكل بالنسبة إليها، في السياسة المغربية، تهديداً، وذلك ما وقع بالفعل؛ إذ ستطلق على المغرب قوات بوجو بإيوائه الأمير عبد القادر، فأنزلت به في معركة إسلي في سنة 1844 ما ستكون هي «الهزيمة الأولى للمغرب منذ قرنين من الزمان». ولقد دشنت هذه المعركة، في خضم من الدماء، العلاقات التي ستظل قائمة لوقت طويل بين البلدين. وعلاوة على ذلك فإن غلبة الليبرالية الاقتصادية في أوروبا كانت تتطلب مزيداً من المنافذ، ومزيداً من الأسواق التي كان ينبغي غزوها، وكان يفترض بها أن تخلق تنافساً طاحناً بين القوى الأوروبية، التي دفعها اهتمامها جميعاً بشمال أفريقيا إلى القيام بمساومات سياسية في غاية الجسارة، ستسم بميسم بارز، ومعها المؤتمر الدولي الذي انعقد في مدريد سنة 1880، النهاية الفعلية لاستقلال الإمبراطورية الشريفة.وعليه فالرأي العام الفرنسي سيصير، بوقع ما شاهد من الأحداث الكثيرة، يهتم لشمال أفريقيا، وسيصير يبحث، لأن الوثائق صارت بالتدريج إلى توافر وكثرة، وخاصة لتبرير كل عمل سياسي واقتصادي، وكل اغتصاب ترابي، سيصير يعيد خلق صورة ربما كانت أدق في معالمها الجغرافية والتاريخية، لكن في سياق عملية إعادة الخلق تلك سيستعير مكوناتها من السمات الأساسية للرؤية الشرقية في سياق تقاليد القرون السالفة. ومن الطريف أن نلاحظ أن الغالبية العظمى من الآثار التي تعود إلى أواخر القرن [التاسع عشر]، بل والآثار التي تدخل في النصف الأول من القرن العشرين، كانت تشيع على نحو ملتبس هذه الازدواجية التخيلية، فكأننا بالرحالة وهو يقف أمام المشهد الذي يقدمه إليه مغرب ما قبل العهد الاستعماري قد كانوا يفرغون من غير وعي على الواقع المغربي من كل الأساطير الشرقية التي لن تصمد للحد الأدنى من الحس النقدي لدى أول اتصال بالأرض المغربية. لكن هذا التعاطف كان يُمنع عن شعب غير جدير بالحصول عليه. أليس ألكسندر دوما هو من كتب في الجزء الأول من «النشيط» (1849)، في سياق حديثه عن لقائه الأول بالعربي على سواحل البحر الأبيض المتوسط : «هذا التمثل الحي للشعب الأفريقي الذي أخذ ينتصب أمامي بالتدريج، والذي توقف أمامي على بعد ثلاثين خطوة مني، جامداً لا يتحرك، وقد وضع بندقية على الكتف وقدّم ساقاً، كان له في نفسي انطباع عميق. ومن الواضح أنني لو كنت لوحدي لكان سخر من قربينتي ذات الثمانية عشر بوصة، إذ كانت ستبدو له شيئاً زهيداً جداً بإزاء بندقيته ذات الخمسة أقدام... لكن كان من خلفي خمسون من الرجال على شاكلتي، فحمله ذلك العدد على التفكير». فلا يفترض بالواقع أن يكون يوافق لدى جميع المؤلفين الكاتبين عن المغرب الرؤية القاتمة التي ينظرون بها إلى أمة معادية. وذلك هو سنتبينه من رسيمة، مهما كانت متعجلة، للإنتاج السابق على أعمال شارم ولوطي وشيفريون؛ الآن وقد تبيّنا كيف كانت تندرج في الإطار العام لصورة ازدواجية للشرق، وستسمح لنا بأن نحيط في أطار هذه الرسيمة بالرؤية التي تخلّفها لدى هؤلاء الكتاب غير الهتمين كثيراً بصحة ما يكتبون.