أسمى الأخوان جيروم وجون طارو أحدَ مؤلفاتِهما «الرباط أو الأوقات الفرنسية». فأجزت لنفسي أن أستلهم من هذا الوسْم عنواناً لدراستي هذه، التي تناولتُ بها صورةَ المغرب في الأدب الفرنسي؛ فكان «المغرب في الأوقات الفرنسية». كان مبتغاي من هذه الدراسات أن أرصد الصورة التي تبدى بها الزمن الفرنسي في المغرب في متخيل الإنتاج الأدبي الفرنسي. وقد كنت اعتمدت مادةَ هذه الدراسات في أبحاث جامعية، نُشِرتْ منذ نحو ثلاثين سنة. والنص الحالي يأخذ من تلك الأبحاث زُبدتَها، ويقدم خلاصة جديدة تعيد افتحاصَ النظرة ذات المنحى النقدي الغالب، التي تحضر في هذا التحول الأدبي الذي شهده المغرب في الكتابات الروائية. إن معظم الأعمال التي تنساها الأجيال اللاحقة تكون هي الأكثر تمثيلاً لعصرها. وفي ذلك ما يمكن أن يكون مبرراً لإعادة نشر هذه الدراسة. فإذا كانت فرنسا لوطي وطارو ومونتيرلان لم تستطع، أو لم تعرف، أو لم تشأْ، في معظم الأحيان، أن ترى الآخرَ في حقيقته المختلفة، فإن من حسن حظنا أن فرنسا بونجان وباستيد ولوكليزيو قد أفلحت في أن تكون، وتظل، وتصير فرنسا الوسائط نحو «الآخر». «إن الرأي العام متى كان الأمر يتعلق بمشكلات بعيدة جداً منه ولا تمسه بصورة مباشرة يصير يوجَّه حسب خطوط بسيطة. فإذا خرج من اللامبالاة صار يميل إل رد هذه المشكلات، لا إلى معطياتها الحقيقية، التي ليس له بها من علم، بل إلى موضوعات أليفة إليه؛ إنه يردها إلى مشكلاته على وجه الإجمال (...). ثم إنه يرجع إلى بعض الصور المسكوكة التي نجح التعليم الأساسي ونجح الأدب الرائج ووسائل الانتشار الجماهيرية في أن تفرضها عليه، وذلك مصدر الخلافات الفادحة بين الواقعيات والصور التي نكونها عنها من بعيد». هذا المقتطف من ماكسيم رودنسون يمكن أن نتممه بآخر نراه على قدر أهميته؛ فقد جاء فيه : «وأما العرب فإن أفكار الغرب بشأنهم كانت أشد غموضاً وأشد بعداً. فهم، من حيث لا ندري، غرباء عن العالم الأوروبي. والصور التي كانت تشيعها عنهم الثقافة الرائجة، بما هي نتيجة لدروس التاريخ والجغرافيا التي تلقن للغربيين في سنيّ الطفولة والمراهقة والروايات والروبورتاجات التي يقرأونها أو يشاهدونها في كافة الأعمار، كانت تصورهم بين بدو رحل جوعى وعتاة قساة وحريم وجوار وطغاة متهالكين على اللذة وأفظاظ (...). وأما الفرنسيون فقد ترسخت لديهم صورة عن البدوي المخرب أو المديني المغاربي المكبل بتقاليده البالية والأقرب إلى المتوحش». وإذا كنا لم نستنكف من إيراد هذه المقاطع الطويلة فلأنها تبرهن على أن عدم الفهم تجاه العرب إنما مأتاه من صورة أساسية غير مواتية، قد أعيد إحياؤها وتغذيتها وتسخيرها لتضليل رأي عام لم يُسع أبداً في تنويره، بل أبقي عليه في الزيغ والضلال بدافع الخوف من الحقيقة وخشية من الواقع. كتب ألفريد سوفي : «إن هذا الخوف شيء عام، الخوف من التفوه بحقائق مزعجة؛ فالمثقف والاقتصادي والصحافي يخففون منها (...). لأن نشر بعض الحقائق سيكون فيه تحطيم لبعض الأحلام (...). وهو ما لا يمكن لأي شخص أن يتقبله بخلو بال». لكن يبدو لنا أن في الحالة الراهنة للعلاقات بين الغرب والعرب أننا موضوع لحكم غير ملائم بسبب من الأوهام والأساطير يعاد إحياؤها ويعاد ابتكارها وتجديدها وتظل يوسع من الهوة التي باتت تفصل الغرب عن الشرق الحقيقي، وتفصله عن العربي الأصيل، وعن المغرب الحقيقي. ولو لم يكن إلا أن الأسطورة قد أنزلت هذا الظلم بشعب في هويته وفي حقيقته فيبدو أنه يكفي مبرراً لاستقصائها والقضاء على فورتها الراهنة. إن مخططنا يصدر منطقياً عن هذا التفكير. ولذلك سنحاول في مرحلة أولى أن نعيد تكوين ما أسميناه الفسيفساءات الأولى، وذلك بالارتكاز إلى روايات الرحلة المتعلقة بالمغرب، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وخاصة منها الروايات التي أنشأها الآباء ميرسي. وسنستخلص في فصل ثان العناصر الأساسية الداخلة في تكوين الصورة، وذلك من خلال دراسة أعمال كابريل شارم، وسنسعى إلى الإحاطة بالرؤية اللوطية ونستكمل مقاربتنا بتحليل لتأويل كتاب أندري شيفريون «غروب الإسلام». وسنقفي على ذلك بخلاصة سنبين فيها علاقات الصورة بالإديولوجية الاستعمارية، ستسمح لنا في ما بعد بأن نأتي بتشخيص إجمالي ل «الأدب الاستعماري»، تحليل لزواياه وتحليل لفحواه. وسنحاول مع جيروم وجون طارو أن نتتبع هذا الأدب في التحقيق النفسي الذي سيحاول أن يجيء به من بعد الاعتبارات الغرائبية العامة التي جاء بها ما قبل الاستعماريين وأن نعيد تكوين النموذج العرقي الاستعماري التي سجنوا فيه الإنسان المحلي. وسيكون لنا في محكيات موريس لوكلي معين على مقاربة «الأسطورة البربرية»، بينما سيمكّن لنا فرونسوا بونجان و[روايته] «بوح ابنة ليل» بأن نموضع صورة المرأة المغربية في الأدب الفرنسي. وسنحرص في الخلاصة خاصة على السبب الذي يجعل الصورة الذاتية تقع على الهامش من الواقع، سعيا إلى إجمال المشكلات التي تواجه الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية. فهل ابتدأت عملية إزالة الأوهام؟ يبدو لنا من الصعب أن نجزم بالأمر، كما يفعل ليون فانوذ سيفر. فلقد عاد الصراع الذي اندلع في الشرق الأوسط يُحيي الأسطورة مصداقاً لما ذكرنا، ويذكي الأحقاد ويُعمي الأفئدة. وإن أملنا معقود على ذلك «الغرب-النقد» الذي يؤمن به عبد الله العروي وكذلك نؤمن به نحن أيضاً، لأننا نلاقيه في كل يوم في سياق محادثة أو لقاء أو قراءة. ومؤملنا أن ينتصر هذا «الغرب-الرؤية» على «الغرب-المظهر»، هو الذي لا يفتأ يشوه الإنسان ويدمر الإنسان ويشوه قيمه ويطمس أصالته، ولا يفتأ يبعد الإنسان عن نفسه بالتذرع بصورة للإنسان وبإنسانوية مؤسطرة وحلم ملتبس وأوهام متجاوزة. كتب كوستاف لوبون في مؤلفه «علوم نفس الجماهير» : «إن الإنسان يقلب الأوهام فيتكبد فيها الاختلاجات الرهيبة، لكن في ما يبدو أن ليس له مناص من أن يظل يرفع هذه التحديات». إنها ملاحظة تكبل أملنا بمعنى من المعاني. ثم لا نلبث أن نجد بقية التحليل الذي جاء به لوبون معبرة عن اليأس من الإنسان ومن قدرته على النجاة بنفسه. «لقد بات الوهم الاجتماعي يهيمن اليوم على جميع الأطلال التي راكمها الماضي، وكذلك يدخل فيها المستقبل. والجماهير لم تتق يوماً إلى الحقائق. فهي تغض الطرف عن البديهيات التي لا تروق لها، فتفضل أن تجد المبررات للخطإ إن كان الخطأ يعجبها. فمن عرف كيف يسحرها بالوهم صار عليها سيداً، والذي يسعى في تبديد الوهم عنها صار لها ضحية». لكن مهما يكن من كلام لوبون فإننا سنظل على إيماننا بأن ذلك «الغرب-النقد» سيلاقي من خلال سعيه إلى استعادة نفسه، «شرقاً-هدفاً»، يُسمع صوته بأشد قوة، ويطالب بمكان له في التاريخ بأقوى قناعة. ويسوغ لنا أن نذهب الاعتقاد وإلى التأكيد مع ألفريد سوفي بأن لاوجود لغير تحرير حقيقي واحد؛ ذلك هو التحرير الذي يزيل الحواجز الثخينة التي تفصل الأناسي عن بعضهم، و»أنه ليس هنالك غير إكراه واحد يمكننا تحمله، هو تحمل النور (...). إنها المعركة الكبرى التي ستمكن للأناسي في يوم من الأيام أن يعيشوا مجتمعين». وإن هذا المجموع لهو الذي ينبغي أن نواجه به كل شيء يفرق بيننا، لكي نصير وكل إيماننا باللحمة التي تجمع الإنسان بالإنسان وتجمع الإنسان إلى نفسه. إنها معركتنا المشتركة في سبيل إنسانية جديدة.