خصوم الديمقراطية لا يريدون للعمل الجماعي نجاحا حقيقيا خدمة للسكان، بل يريد هؤلاء الناس مجالس مطبوخة يشرف عليها «منتخبون» طيعون من ضعاف النفوس وقصار العقول، يفكرون فقط في مصالحهم الضيقة ومصالح لوبيات المضاربات العقارية ولو أدى الأمر إلى المزيد من تفاقم ظاهرة السكن غير اللائق والبناء العشوائي. وكما يقال ... « إنما للصبر حدود»... لهذا كنتَ وإخوانك في مجلس المدينة مضطرين إلى إعلان الاستقالة، وهي صرخة أطلقتموها ليعرف الرأي العام حقيقة العراقيل التي يتعرض لها في المغرب من يريدون القيام بواجبهم ولا استعداد لهم للخنوع والاستكانة والاستسلام لخصوم الديمقراطية، أخي طارق, كنت أتمنى أن أزورك أنت وإخوانك في أكادير, لأعبر لكم عن تضامني، ولكن ظروفي الصحية تحول دون تمكني من مغادرة الرباط لمتابعة العلاج. لهذا أكتب إليك هذه السطور وأنت تعلم بأنني في الواقع أعبر لك عن مشاعري الصادقة ووجهة نظري بشأن النضال الاتحادي الذي يجمعنا، كل في مستواه. أتذكر دائما، وخاصة في مثل هذه المناسبات، أول مرة أسمع فيها من يتحدث عن طارق القباج بتأثر وانفعال: كنت في السجن المركزي بالقنيطرة عشية ذات يوم من أكتوبر 1963، وكنا مجموعة من الموقوفين في إطار حملة قمع وحشية أشرف عليها أوفقير والدليمي صيف تلك السنة بدعوى اكتشافهما مؤامرة ضد العرش. رغم خطورة التهم وما قد يتولد عنها من أحكام قاسية، كان لوجود والدك عباس القباج ضمن المتهمين ما كان يجعل الشباب وغيرهم ممن تقدموا في الأعمار، قادرين على أن يتحملوا معنويا حالات الإكراه البدني وظروف «الضيافة» في السجن المركزي بالقنيطرة مع استمرار المراقبة المباشرة الميدانية من طرف جلادي دار المقري ممن كانوا يتحولون في المراحل المظلمة لسنوات الرصاص إلى حراس سجون. لكن رغم هذه الأجواء القاسية كان وجود السي عباس يجعلنا في النهاية لا نستسلم لهول ما كان يمكن أن ينتظرنا من مصير مجهول, لا فقط لأنه من قدماء المناضلين الوطنيين الذين تعرضوا في عهد الاستعمار للاعتقالات وقرارات الإبعاد والنفي، بل نظرا لما كان للسي عباس رحمه الله من روح مرحة و استعداد منقطع النظير للمواجهات مع الأزمات واللحظات الحرجة. لكن في عشية ذلك اليوم من أكتوبر 1963، التحق بنا السي عباس القباج في ساحة الأشغال الشاقة بالسجن المركزي، بعد أول لقاء معك في ... «البارلوار»، وكانت ملامح الرجل وتقاسمات وجهه توحي بأنه كان على درجة قصوى من التأثر والانفعال. كان عمرك أربعة عشرة سنة. زرت والدك لأول مرة بعد عدة شهور، توقفت طوالها الاتصالات العائلية بعد الاختطاف وفترة «الضيافة» في دار المقري، ومرحلة التحقيقات القضائية التفصيلية... منحك قاضي التحقيق رخصة زيارة والدك ولهذا جئت عشية ذلك اليوم إلى السجن المركزي بالقنيطرة. ويعود سبب تأثر السي عباس وانفعاله بعد أول لقاء مع فلذة كبده إلى أن ابنه طارق تغير وأصبح، بعد شهور من الفراق، يتحدث معه في»البارلوار» كما لو كان رجلا تقدم في السن بعدة سنوات. ولما جمعتنا ساحة السجن في صباح اليوم الموالي اختفت من ملامح السي عباس آثار الانفعال وعادت إلى الرجل روحه المرحة وأخذ يحمد الله على أن طارق ، رغم صغره، أصبح من الكبار الذين يمكن الاعتماد عليهم تدريجيا لتدبير شؤون الأسرة. هكذا، كنتَ قد بدأت منذ عام 1963 تخوض معركة الحياة لأنك وجدت لدى السوسيين رفاق السي عباس في أكادير أو الدارالبيضاء ما يكفي من الإخلاص والوفاء والتشجيع والمساندة المعنوية. مرت مدة طويلة من الزمن لم تجمعني الظروف بك إلى ذات يوم فاتح ماي، الموعد النضالي للعمال والطلبة و.... الأساتذة. في ذلك اليوم تعرفت على أستاذ جامعي في كلية العلوم بالرباط، توحي نظارته بشيء من اللطافة, ثم سرعان ما تتحول الابتسامة إلى نظرات جدية وملامح صارمة، لأن النقاش بدأ يحتد في موضوع نضالي. مناسبات قليلة في الرباط التقيت خلالها في جو عائلي مع المرحوم عباس وفلذة كبده طارق والسيدة الفاضلة حرمه وطفلهما الذي حمل اسم عمر تيمنا بشهيد الصحافة الاتحادية. من المحقق أن السي عباس كان يتمنى لو أن الله جمع شمل الأسرة كلها بجانبه في أكادير. إلا أنك فضلت إعطاء الأولوية للعلم والبحث العلمي والنضال بالعاصمة الرباط ,إن في الواجهة السياسية والنقابية أو الثقافية والإجتماعية. كان من الممكن أن تظل في الرباط وأن تستمر حياتك هكذا استاذا جامعيا مناضلا في عدة واجهات. لكن في ماي 1984 كان الموعد مع الفاجعة: وفاة عباس القباج إثر حادثة سير مؤلمة. المغرب ومنطقة سوس كانا وما زالا في أمس الحاجة إلى رجل حنكته التجارب كرجل أعمال وكوطني اختار أن يظل مناضلا مدى الحياة. بعد مراسم الجنازة وطقوسها في أكادير، عاد طارق القباج إلى الرباط ومعه الأسرة الصغيرة على أساس أن تستمر الحياة كما كانت من قبل، ولكن أي مسار كان ينتظر الجهد الذي كرس عباس القباج حياته من أجله في المعاملات الاقتصادية التي ارتبط بها مصير العديد ممن عملوا بجانبه طوال عدة مراحل ؟ كان الرجل جديا في نشاطه المهني أو مواقفه النضالية، إبان معركة التحرير الوطني أو في المعارك الديمقراطية على الصعيد الوطني أو المحلي. ليقول الحق، كان رحمه الله لا يخاف لومة لائم. كان عباس القباج في نهاية 1950 ضمن مجموعة الوطنيين الذين طردهم الجنرال جوان من مجلس شورى الحكومة واتجهوا إلى القصر الملكي, حيث استقبلهم أبو الأمة محمد الخامس وولي عهده الأمير مولاي الحسن رحمهما الله. وبعد خمس عشرة سنة جمعت ظروف أخرى الملك الحسن الثاني وعباس القباج رحمهما الله: زيارة ملكية لأكادير في مطلع 1965 اعتبرها ملك البلاد مناسبة لاستقبال ستة برلمانيين اتحاديين عن منطقة سوس ومن ضمنهم السي عباس الذي خاطب الحسن الثاني هكذا: «يا جلالة الملك إن فرحتنا باستقبالكم في منطقة سوس نريدها أن تكتمل بإصداركم عفوا ملكيا على المعتقلين السياسيين». ظهرت علامات الانفعال على ملامح الملك الراحل الذي لم يكن يتوقع هذه المفاجأة, و ما هي إلا شهور معدودة حتى كان الإعلان عن العفو الملكي في خطاب تلفزي شهير يوم عيد الأضحى من تلك السنة. بطبيعة الحال كان العفو الملكي نتيجة لعدة تطورات إيجابية عرفها المشهد السياسي الوطني ومع ذلك يشهد التاريخ لعباس القباج الجرأة التي جعلته يخاطب ملك البلاد بصراحة في موضوع سياسي دقيق. هذا هو الرجل الذي فقدته ساحة النضال الوطني في ماي 1984. في تلك المرحلة كنت يا طارق أستاذا في كلية العلوم بالرباط, وكانت لك رغبة قوية في المزيد من البحث العلمي وكنت بصدد تقديم أطروحة بدأت تستعد لها منذ عدة سنوات. ولكن الفقيد العزيز عبد الرحيم بوعبيد عرف كيف يقنعك بوجوب الاستقرار في أكادير للسهر على استمرار الأعمال والمعاملات التي عرف الراحل عباس كيف يطورها وينميها. في البداية لم يكن الأستاذ بكلية العلوم مرتاحا لهذا التحول الذي فرض عليه أن يعود إلى مسقط رأسه. وفي النهاية اضطررت إلى ترك الجامعة والتخلي عن البحث العلمي لبداية تجربة جديدة في الحياة، تجربة إدارة وتدبير المقاولات التي كان لابد أن يستمر وجودها ودورها في الاقتصاد الوطني، بعد رحيل الرجل الذي افنى حياته من أجلها وكان لابد من حمايتها وصيانتها. كانت البداية صعبة، ولكن الجدية التي تميزت بها في النضال الطلابي أو الجامعي، هي الصفة التي جعلتك تنجح في مهامك الجديدة وعلاقاتك بكل الذين ربطوا مصيرهم بمجموعة القباج أو اعتادوا التعامل معها. وجاءت مرحلة تولي رئاسة مجلس مدينة أكادير بعد الانتخابات الجماعية لصيف 2003 ولأنها كانت تجربة ناجحة فقد جدد سكان المدينة سنة 2009 الثقة في الفريق المرافق لطارق القباج من أجل النهوض بعاصمة سوس. السكان من مختلف الفئات الاجتماعية بأكادير يقولون عن هذه التجربة كلاما لا مثيل له بالمقارنة مع ما يقال عن التعثرات التي تعاني منها تجارب المدن الأخرى، ومع ذلك تتعدد الجهات التي لا تخفي تضايقها من هذا الأمر. وخصوم الديمقراطية لا يريدون للعمل الجماعي نجاحا حقيقيا خدمة للسكان، بل يريد هؤلاء الناس مجالس مطبوخة يشرف عليها «منتخبون» طيعون من ضعاف النفوس وقصار العقول، يفكرون فقط في مصالحهم الضيقة ومصالح لوبيات المضاربات العقارية ولو أدى الأمر إلى المزيد من تفاقم ظاهرة السكن غير اللائق والبناء العشوائي. وكما يقال ... « إنما للصبر حدود»... لهذا كنتَ وإخوانك في مجلس المدينة مضطرين إلى إعلان الاستقالة، وهي صرخة أطلقتموها ليعرف الرأي العام حقيقة العراقيل التي يتعرض لها في المغرب من يريدون القيام بواجبهم ولا استعداد لهم للخنوع والاستكانة والاستسلام لخصوم الديمقراطية، وما أكثرهم في كل زمان ومكان ببلادنا مع كل أسف. أنت يا طارق ومن معك قمتم بالواجب وأخذتم القرار الذي يرضي ضمائركم، كدليل على الرغبة في جعل العمل الجماعي يتواصل في إطار من الوضوح والجدية, بدلا من ترك المخربين يعملون ما يحلو لهم دون أن يستطيع أحد كشفهم. لهذا أديتم الواجب وجعلتم الرأي العام على علم بما تقوم به جهات لا يهمها أساسا مصير السكان والتعامل بوضوح وشفافية مع المدافعين المخلصين عن مصالح السكان. أنت على علم بأنهم يعرفونكم جيدا ويعرفون أنك ومن معك لا تتهافتون على مصلحة شخصية ويعرفون بالضبط مدى إخلاصكم لهذه المهام النضالية ,ولهذا كانت الاستقالة موقفا مشرفا أقدمتم عليه بكل شجاعة في وقت يخاف بعض « المنتخبين» من رفع أصواتهم أمام السلطة. لكن في البداية والنهاية تخوضون تجربة يريد لها الاتحاديون النجاح والتوفيق، تجربة تحملتم فيها المسؤولية باسم القوات الشعبية. ومن هنا يبقى للحزب في النهاية حق الحسم وتجنب القطيعة وتجنب الاستسلام للدسائس والمناورات، من أجل الاستمرار في النضال الديمقراطي و لو في ظروف صعبة ومعقدة. هكذا بقدر ما كانت لكم الشجاعة الكافية لإطلاق الصرخة من أكادير، تحليتم بما يكفي من الوعي والتبصر بانضباطكم لقرار الحزب القاضي بأن تستمر التجربة، لأنها من المهام النضالية التي كان السي عبد الرحيم بوعبيد يعتبرها طوال حياته من الأركان الأساسية لجوهر كفاح القوات الشعبية مهما تعددت العراقيل والعقبات. وكيف ما كانت التطورات التي ستعرفها علاقات السكان، من خلال ممثليهم، مع السلطة، فإن الرأي العام يعرف الآن من هم الذين يريدون خدمة السكان ومن هم الآخرون الذين يدافعون عن مصالح أخرى لا علاقة لها بالسكان، والفضل يعود إليك يا طارق ومن معك من الإخوان.