{ في انتظار أن تنضج الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن معتبرة إياه بارقة أمل حقيقي للقطع التام مع زمن القهر والخوف والإهانة الممنهجة التي طالما عانت منها الشعوب العربية، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيه لنظرية المؤامرة يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار العرب والمسلمين قاطبة، كيف تنظر من جهتك إلى الرؤيتين ؟ في الواقع لا يمكن الأخذ لا بالرؤية الأولى ولا الثانية، لأنهما ليستا صحيحتين بشكل مطلق، كما أنهما ليستا خاطئتين بشكل مطلق، فقد يمكن الأخذ بهما في نسبيتهما التركيبية والمركبة والمتراكبة، وهكذا فلا يمكن إبداء حماسة أكثر من اللازم تجاه إسقاط الأنظمة التي تعتبر الخطوة الأولى في الثورة، فهذه الخطوة قد ترتد إلى الوراء أو إلى إعادة إنتاج الماضي في صورة أخرى، إذا لم تتبعها خطوات جوهرية في تفكيك البنيات القائمة وإعادة بنائها وفق استراتيجيات الحراك الإجتماعي الذي قامت من أجله كما أنه لا داعي لنظرية المؤامرة بشكل مطلق، حيث أن نجاح هذه الثورات ما كان لينجح لولا مؤازرة المناخ الكوني اليوم، والذي تعنونه حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية، فلولا هذا المناخ لأطلقت الأنظمة الرصاص بدون هوادة كما كانت تفعل فيما مضى، يوم كانت تهيمن على العالم رؤيتان وقطبان، بل يمكن القول بأن القطبية الكونية الأحادية اليوم هي بصدد استكمال بنائها، بهذه الثورات الأفقية في مجمل البلدان،خصوصا العالم العربي، حتى تستكمل السمفونية الحقوقية والديمقراطية بالكامل في العالم عموديا وأفقيا، في الغرب وفي الشرق..إنه يمكن أن نلمح بكثير من التحفظ بأن هذه الثورات لم ترفع شعارا واحدا ضد إسرائيل، لقد مارست هذه الثورات لغة: الصمت نقمة في الداخل، والصمت حكمة في الخارج، ربما من أجل استبعاد كل استعداء من الآخر، قد يفرمل الثورة ويجهضها وبالتالي كان التركيز، كل التركيز على العدو القريب، ومن هنا فهذه الثورات لم ترفع أي شعار ضد إسرائيل، وفي المقابل هل يعني هذا بأن إسرائيل راضية على هذه الثورات؟ مادامت الدول العربية بدأت تعزف على سمفونية الديمقراطية وحقوق الإنسان..بعيدا عن الاستبداد الذي يقوم في كثير من الحالات على ترويج محاربة إسرائيل بإسم القطرية أو القومية أو الإسلامية، أو ماشئت من التعليبات النظرية والتحنيطات المقولاتية المعروفة. { عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن ( الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء إن وجدت ؟ لست أدري من روج لسمفونية الاستثناء المغربي، وكأن المغرب مستثنى من الأفعال الإرهابية كما كان يروج لها بكثافة قبل 16 ماي بالدار البيضاء وكما يروج الآن لهذه المقولة، والحال أن الموجة عامة وعارمة، لكنها تتميز وتتفرد عن الأوضاع والأقطار، وهذا التميز هو التوصيف الممكن وليس الاستثناء، بدليل حركة الشارع القوية منذ 20 فبراير بزعامة حركة تحمل نفس التاريخ وهي حركة/ حركات تحمل شعارات قوية، ولقد حققت الكثير من المطالب المرفوعة في المسيرات والساحات، إن هذا التميز، جعل هذه الحركة ذات مطالب إصلاحية، بالنظر إلى إيقاعات النظام السياسي، منذ العهد الجديد من خلال جبر الضرر لضحايا ومناضلي مرحلة تاريخية اتسمت بالعنف والجلد والإيلام وبالنظر إلى الإنجاز المغربي في مدونة الأسرة، وما تحقق للمرأة المغربية من مكتسبات جديدة، فضلا عن إيقاع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والأوراش التي عرفها المغرب، والإنجازات العمرانية والمواصلات..التي عرفها المغرب وفضلا كذلك عن الحدس السياسي الذي جعل ملك المغرب يمارس سياسة القرب ويكثف من حضوره السياسي في مختلف المناطق والمدن والجهات...لعل هذه الوقائع هي التي جعلت سقف المطالب له سمة إصلاحية، حيث لم ترفع مطالب جذرية، كما فعلت الحركة الماركسية في السبعينيات عندما كانت تنادي بثورة شعبية و جمهورية مغربية ديمقراطية وشعبية، في إطار التصورات التي كانت تعتبر الملكيات عنوانا للرجعيات، والجمهوريات عنوانا للتقدميات، وهكذا لم ترفع ذلك الشعار الجذري على صيغة فعل الأمر « ارحل» . إنها حركة 20 فبراير أقصد تدعو إلى ملكية برلمانية، ولعل هذا المطلب هو أقصى مطالبها ليس غير. { هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا، ستؤهل المغرب، إلى الانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمدها؟ على حسب نوعية الإصلاحات، هل هي شاملة لبنية الدستور أم فقط لبعض بنوده، هل هي رؤية ديمقراطية بالكامل أم هي رؤية ديمقراطية بالتقسيط؟ أو جرعة زائدة عما هو كائن وموجود؟ هل هناك نية عميقة وإرادة حقيقية للانتقال نحو ديمقراطية حقة وحقيقية، أم أن الحسابات التكتيكية والمناورات السياسية واردة، خاصة في هذه الظرفية الدقيقة، وهذا المناخ المفعم بالحركة والدينامية والاحتجاج الجدي والفعلي.. { من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاجا لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التسريع بثورة ثقافية؟ إن السؤال يطرح إشكالية السابق واللاحق ما بين الوعي والواقع، هل الواقع هو الذي يحدد الوعي ونوعيته، أم أن الوعي هو الذي يؤثر في الواقع من أجل تبديله..حيث يبدو المشهد الاحتجاجي المغربي بل والعربي بأنه مشهد لا تحضر فيه الثقافة أو بصريح العبارة لا يحضر فيه المثقفون باعتبارهم منتجي الوعي وحاملي هذا الوعي..إلا أن الملاحظ العميق يمكن أن يسجل حضور ثقافة مضمرة في المشهد الاحتجاجي، ثقافة جديدة لا تراكمية، ولا تطور متصل أدى إليها بل هي ثقافة ذات قطيعة أي تطور منفصل في صيرورة التاريخ؟ وهذه الثقافة تتميز في المجمل - إضافة لما قلته سابقا- بالملامح الآتية: -1 ثقافة جماهيرية فيها انتقال من المفترض والرقمي إلى الواقع المادي، بكل حمولات هذا الانتقال من جدة، وجديد وجدية. -2 ثقافة تنظيمية على غير منوال، ليس عبر القنوات التنظيمية الكلاسيكية من قيادات وأجهزة تنظيمية ولسان حال ورقي ( جريدة) ومجتمع مدني مواز( من جمعيات ونقابات). -3 ثقافة احتجاجية بدون زعيم تنظيمي، أو كاريزما على منوال الثورات المعروفة في التاريخ، ثقافة احتجاجية جماعية، ذات قيادات أفقية حركية وميدانية. -4 ثقافة احتجاجية بعيدة عن الطموحات الجارفة والفردانية لأصحابها تريد أن تغرس ثقافة جديدة في الأنفس من أجل استئصال الثقافة الزبونية، أو ثقافة البيع في المزاد السياسي، أو ثقافة اقتسام الحلوى، أو ثقافة التواطؤ، وفي المجمل ثقافة الريع السياسي. هذه بعض الملامح التي ينبغي تعميق النظر والمطارحة فيها، لعلها الثورة الثقافية المشار إليها في السؤال، ثورة ثقافية بحمولة غير كلاسية، على مستوى المضمون والنظر والقراءة، تجعل السابق واللاحق غير ذي جدوى، وتطرح الآنية أو ذات الوقت أو الجدلية كمفاتيح أو منطلقات للقراءة... { يقول بعض الباحثين، إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي؟ فعلا لقد تكاثرت الحركات الإسلامية بعناوين مختلفة، وذات حمولات مختلفة، من معتدلة ومتطرفة، وسنية وشيعية ووهابية إلخ ، في إطار ما سمي بالصحوة الإسلامية، والتي ملأت المناخ السياسي العربي، وأصبحت بديلا بارزا في هذا المناخ، سواء عبر قدرتها على تجييش الناس من خلال إشعال فتيل الإيمان وترجمته في الواقع، أو عبر ممارسة خطاب التكفير كمدخل إلى ممارسة العنف سواء بالنسبة للعدو القريب ( الأنظمة القائمة) أو العدو البعيد ( أمريكا والغرب)، ولقد سال مداد كثير في هذا المنحى، بل ومازال لم يجف بعد، حيث من المؤكد أنه سيبدأ في مرحلة الإنزواء والنكوص..بعد هذه الثورات السلمية، والتي أعطت نتائج ملموسة خاصة في تونس ومصر، حيث تبين للناس بأن الجماهير قادرة على التغيير بواسطة الالتفاف والحناجر؟ ! ومن هنا فإن الإسلام السياسي الراديكالي ستسحب كثير من أسلحته التي كان يلوح بها وعلى رأسها سلاح التغيير. * إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي، والابتعاد عن الشأن العام؟ - لقد كان دائما الشباب هم المبادرون وهم الفاعلون في كل الثورات والتحولات الوطنية والكونية..لنعد إلى قراءة التاريخ والواقع، لنعد إلى قراءة أعمار الموقعين على وثيقة الاستقلال، لنعد إلى قراءة أعمار رواد الحركة الوطنية إبان تأسيسها، لنعد إلى قراءة انتفاضة 23 مارس 1965، لنعد إلى قراءة تركيبات اليسار الماركسي اللينيني وفئاته العمرية، لنعد إلى إحصاء المعتقلين السياسيين، وكم كانت أعمارهم في تاريخ اعتقالهم، لقد كان معنا في المعتقل، درب مولاي الشريف من كانوا يافعين ( قاصرين) في حدود 16 سنة، ولقد كنت أنا معتقلا في السن العشرين... لقد كان الشباب دائما في الريادة والمقدمة ..وهذا أمر طبيعي، لأن الشباب هم حاضر الأمة ومستقبلها إلا أن الحركات الاحتجاجية اليوم أخذت هذا التوصيف الكمي، وهو توصيف ذكي، لأن التوصيفات الكيفية أو العناوين الموضوعاتية، عادة ما تعكس توجها أو رؤية أو لمسة أو خطا ما.. والحال أن هذه الحركات أرادت أن تستوعب الكل، وهذا التوصيف الكمي، يدخل أيضا في إطار الملامح التي تحدثت عنها فيما يخص ثقافة هذه الحركات الاحتجاجية من الماء إلى الماء. صحيح كانت هناك نعوت وتقييمات لحال شبابنا العربي، ومن هذه النعوت، اعتبار هذا الجيل، بأنه جيل تلفزي، وفيما بعد جيل رقمي، وجيل لا مسيس، وجيل استلذاذ الحياة في بعدها الترفيهي أو الدوني أو ماشابه ذلك. ولقد وقفت دراسات سوسيولوجية مثلا في المغرب، على هاته الأبعاد، يمكن أن نذكر دراسات حول الشباب كدراسة بول باسكون حول (ما يقوله 296 شابا قرويا) المنشور سنة 1971، ودراسة المكي بنطاهر( الشباب العربي في البحث عن هويته) وهو كتاب بالفرنسية صدر عن دار الكلام بالرباط سنة 1989، فضلا عن مجموعة من الدراسات والكتب الجامعية..إلى غير ذلك من الأبحاث والدراسات التي استفسرت ثم حللت ثم ركبت مجموعة من الخلاصات ورد بعضها في السؤال؛ والحال أن هذا المنحى طغى على المتن السوسيولوجي والإنساني عامة، في غياب المطارحة الجدلية، و التي تبين أن الشباب يمكن أن يقبل على الحياة واستلذاذها، وفي ذات الوقت قد يقبل على الفعل السياسي، وعلى التغيير في الوقت المناسب بعدما يستنفد كل لحظات الترقب، من اللامبالاة إلى النفور من العمل السياسي، إلى التعبير عن السخط بمقاطعة الانتخابات أو التصويت بأوراق ملغاة يعبر فيها عن رأيه ( كنت أتمنى أن توضع أوراق انتخابات 2007 الملغاة رهن إشارة الباحثين من أجل تفريغها ثم ترتيبها وتحليلها وتركيب خلاصات حقيقية حول حال الشباب وتطلعاته) إلى أن يعبر بطريقة احتجاجية وفعلية، ألم أقل بأنها ثورة الراقدين؟ الذين مهما رقدوا، إلا و يتحول هذا الرقاد إلى انفجار حتما، فتاريخ المغرب مثلا، ولو في مرحلة الحديد والنار، ومن خلال الانتفاضات التي وقعت، كانت تبين وقوع هذه الانتفاضات بمعدل كل سبع سنوات. إن المزاوجة بين الإقبال على استلذاذ الحياة كمعطى واضح ومباشر، والتسيس الخفي أو المضمر ( لا يظهر كما بينا بشكل واضح ومباشر) يمكن قراءته بشكل أكثر بروزا لدى شباب لبنان، فاللبنانيون يقبلون على الحياة، وعلى الاستلذاذ والترفيه بكثافة وكثرة، وفي ذات الوقت نجد نفس الاقبال على التسيس بل والمقاومة عبر حمل السلاح، ولا يقوى على حمل السلاح إلا الشباب..فهذه الجدلية تبين كيف أن كثيرا من الأبحاث والتحليلات لا ترى إلا نصف الكأس، لا ترى إلا الظاهر، بينما لا علم إلا بما هو خفي كما قال باشلار يوما.