تطرح دراسة صورة مجتمع من المجتمعات التي يكوِّنها عنه بلدٌ من البلدان في وعيه، أو في آثاره الأدبية بطبيعة الحال على الباحث مشكلات منهاجيةً. وسوف لا يكون من نفع في أن نعيد جرد هذه المشكلات، بعد الإحاطة التي جاءت بها سيلفاني ماراندون لهذه القضية في مؤلفها المميَّز المسمَّى «صورة فرنسا في أنجلترا الفيكتورية»، إحاطة على قدر كبير من التمكن بشهادة الجميع. نريد بهذا التوضيح أن نؤكد على أنه لم يُوضَع إلى اليوم أي منهاجٌ بصورة علمية أو فعلية، في هذا الفرع من الأدب المقارن. وتعمل فرق بحث على تجويد طرائق البحث من أجل تقديم تعريفات مُرضية للأسطورة والصورة والمسكوك والنموذج العرقي، وهي مفاهيم جديدة يتم إنشاؤها لمدِّ هذا العلم بهيكل متين. وإنه لمن الصعب الإحاطة بصورة من الصور في كل صرامتها المطلوبة وإبعاد كل مجازفة باختلاق النصوص أو تخيلها أو التماسها. إن الأدب المقارن إذ يجدد شرائطه فإنه يفتح آفاقاً هامة، وإذ يفيد، من بين ما يفيد، من مساهمة العلوم الإنسانية من علم النفس وعلم الاجتماع، إلخ...، فإنه ينأى بنفسه عن السبل المطروقة ويمد النقد بأداة فعالة. وإن هذه الآفاق، إذ تسمح للأدب بالانسلاخ عن الأساطير والصور، وإعادة النظر في المسبقات والمسكوكات، لتخلص وعي شعب من الشعوب من المعتقدات والتمثلات مغلوطة. ويبدو أن كثيراً من المؤلفين متفقون على التسليم بأن من غايات هذا الضرب من التحليل، وبالتالي من مبرراته الأساس، «التخليص» الذي يوقعه على الوعي الجمعي، من أجل مقاومة مجموع من الأخطاء والصور التي يبثها، ويحول دون أي معرفة حقيقية، لأنها تثبط كل مجهود للفهم والتعاطف. غير أن الخطر الذي يتهدد هذا التخصص الجديد، الذي أصبح يشاع على تسميته منذ وقت غير بعيد، ب «الصوريات»، هو في أن ينحصر في إطار ضيق ويتحاشى المشكلة الحقيقيةَ؛ وهي مشكلة التقاء الحضارات والثقافات. وقد كادت كل الأبحاث التي أنجِزت في هذا المضمار تهتمُّ بالصور التي تحيل إلى جماعات تتحرك في المضمار الثقافي الواحد. إن النقد يبقى على غرار صورة أنجلترا والولايات المتحدة، في إطار ضيق محدود، ويتحاشى مجالاً شاسعاً هو مجال الأدب الذي يُصدِر عن نفسه صورة مختلفة عن الصورة التي نكون نتوقعها عنه. هذه الأبحاث لا تزعج بأي حال الوعيَ المطمئن لدى الجماعات التي تبعث عليها، لأنها لا تهز الأسس النفسية لهذه الجماعات، وهي لا تغوص ببحثها في أخص خصائص هذا اللاوعي الجمعي، للخوف الذي يتملك هذا الوعي، لا من الآخرين، بل من نفسه. ومن المؤكد أن هذا التحفظ هو ما يمنع النقاد الأدبيين من مغادرة ذلك المضمار الآمن للقيام بإزالة الأساطير بالتمام والكمال. وإن التكافل الأساس القائم بين بلدان أوروبا وبلدان أمريكا ليثبت أنه مهما تباينت الآراء فإن الأسس النفسية التي تقوم عليها هذه المجتمعات مجتمعةً هي أسس متطابقة، وأن عمليات الدفاع الذاتي قد أقيمت لصد التهديد المتزايد يأتيها من هذه المنطقة الشاسعة المسماة «العالم الثالث»، وإبقاء هذه الشعوب وهذه الحضارات على مسافة تبعدها عن المخاطر. فهل يكون الفكر النقدي الغربي مجرد خرافة؟ ذلك بأننا لا نجد بين أيدينا اليوم قرائن كثيرة تجيئ لنا بالجزم بأن هذا الفكر النقدي، الذي لطالما تم التسليم به باعتباره من المكتسبات الأشد يقينية للغرب، قد صار يلقى احتجاجاً دائماً ويبعث على مراجعة للقيم والأسس التي قام عليها هذا الوعي الجمعي. وإن ردود الفعل المحددة والتي تظهر عقِب مختلف الثورات لتقوم أدلة دامغة على الحرج الذي صار فيه هذا الوعي والقلق الذي أضحى يتملكه أمام احتجاج جذري وانقلاب شديد العمق. ولئن كانت التحليلات التي ظهرت في مضمار الأدب المقارن تشهد على تغيُّر في المنظور فإنها لا تشير بأي حال إلى وجود عملية إزالة تامة وكاملة الأساطير. ثم إننا لو لاحظنا أن عقد الستينات، على سبيل التمثيل، يمثل فترة زوال الاحتلال في التاريخ المعاصر، فإننا نستغرب لخلو هذه الفترة خلواً كاملاً من التفكير والتأمل في دور الأدب في بناء أساطير وصور البلدان التي كانت يومها حديثة عهد بالاستقلال، والتي تعرضت لهيمنة سياسية واقتصادية وثقافية. وإذا كان النضال المسلح هو الوسيلة الوحيدة لتحرير هذه البلدان من الهيمنة الأجنبية فإن رفض ثقافة مستلبة والتمرد على استعمار ثقافي جديد يبدوان أنهما صارا لشبيبة هذه البلدان السبيل الوحيدةَ المتبقية لها للذود عن وحدة كيانهم. فإذا كان الغرب السياسي يؤكد احترامه لحقوق جميع الشعوب في الاستقلال وفي السيادة، فإننا نراه يضاعف من عدوانه الثقافي، كأنما يريد به تدارك ما فاته ونسيان الخيبات السياسية. إن الشأن في الاستقلال وزوال الاستعمار أن يتجسَّدا في وقائع محسوسة وملموسة، فبدونها لا يعدوان أن يكونا وهميْن يغلفهما معسول الكلام. ولا ينبغي لزوال الاستعمار أن يقتصر عند بلدان العالم الثالث على تحرر سياسي واقتصادي، بل ينبغي أن يكون فيه كذلك، وخاصة، إعادة النظر في جماع الإرث الثقافي ونقدٌ دائم لكل إديولوجية، وكل مفهوم، وكل تصور، جديدة كلها. وبالتالي، فإن تحرير الوعي الغربي من الاستعمار سيكون دلالة على نقد ذاتي في جميع المجالات. ولذلك نرى العمل الذي وضعه ليون فانوذ سيفر يكتسي، من هذه الناحية أهمية مزدوجة؛ فهو يسمح باستكشاف للاوعي الجمعي الغربي، خاصة منه الفرنسي، بغية إضاءة أزمة الوعي الفرنسي التي هزت، عقب الحرب العالمية الثانية قسماً لا يستهان به من النخبة الفرنسية، بالتوسل إلى هذه الغاية بمنظور زمني. لكن أهمية هذا العمل تتمثل، أكثر ما تتمثل، في أنه يفتح السبيل لإعادة قراءة الأدب، وهي قراءة نعتبرها أمراً أساسياً لرصد أهمية الأعمال التي وضعها مؤلفون قد عمروا لاوعينا وإعادة تقييمها. ووضع علماء في الاجتماع أعمالاً أخرى من أجل تحرير فعلي للوعي الفرنسي من الأساطير. وسعى بعض المفكرين إلى إخراج الاستشراق من الأزمة التي ظل يتخبط فيها منذ بضع سنين. بيد أن هذه المحاولات المتفرقة لم تزد على أن زحزحت بصورة مؤقتة وعياً كان لا يلبث أن يعود إلى ثوابته السابقة كلما أريد «إبعاد» الآخر. إن الأساطير والصور أسلحةٌ دفاعية يفرزها الوعي الجمعي لتكون له مناعةً من تعاطف معين مع الانفتاح الصريح نحو بعض البلدان الأجنبية.