لقد كان في ظهور مجموع من الشعوب والثقافات في التاريخ، وهي التي أُبقيَ عليها إلى ذلك اليوم في ثبات لاتاريخي، ما قوَّض الأسس التي قامت عليها جميع الفلسفات الإنسانوية، وبث الشك في شأن مجموع من القيَم والمعتقدات واليقينيات. فما عادت الوجودية تحرر الإنسان، وإذا كانت الشخصانية تبشر بآفاق جديدة فإنها بقيت محدودة في عملها وفي تأثيرها. ثم لم يلبث الغرب أن اكتشف على حين غرةٍ موتَ معرفته وقدرتِه على المعرفة، واكتشف حدودَهما. فلم يقوَ على القيام بعملية استبطان فاحص لذاته وجاء من شدة يأسه يكتسح مجتمعاتنا. فالنجاح التقني يقوم قناعاً يخفي انحطاطَ الإنسان، ويخفي في هذا الانحطاط الاستحالةَ التي يجدها هذا الإنسان في معرفة «الآخرَ»، أو التعرُّف بالتالي على نفسه. وقد أصبح لرسالة سقراط من الراهنية اليومَ ما لم يكن لها في أي وقت من الأوقات. ونحن نرى من المنظور الذي نسلكه في هذه الدراسة، أن المبدأ القائل اعرف نفسَك لتعرف الآخر - يُعتبَر حقيقة نسلِّم بها في سهولة وتجربةً لا نكاد نجشم أنفسَنا عناء خوضها أو ترانا ما نفتأ نرجئها ونؤجِّلها. وتمكِّن دراسة الصور من توعية الشعب من الشعوب بذلك الأس الأسطوري الذي يحمله في ذاته ويشوِّش عليه معرفتَه بالحاضر الذي فيه يحيا ويعيش، ومعرفته بالآخر في راهنيته الذي يواجهه. إنها مشكلة المعرفة ومأساة العلاقة بالآخر والصراعات والتلاقيات الحضارية ومشكلة الحوار. ويُعتبَر التفاهم بين الشعوب من الأماني التي يصعب تحقيقها وتجسيدها وهو يقتضي معرفةً حقيقية بالمجتمعات وبالأناسي. وقد بُذِلتْ جهود محمودة في هذه السبيل، لكنها تظل خجولة ومحتشمة تفضح الصعاب التي تصادف المقبلَ على هذه التجربة، وتفضح التناقض والمعيقات التي توضع يُراد بها تأخير هذه الإنجازات. فما أكثر الأساطير والصور والتمثلات المغلوطة المستحوِذة على اللاوعي الجمعي لشعب من الشعوب، بلهَ المستحوِذة على أوعاء الشعوب مجتمعةً. لكن إذا كانت الحاجة الماسة تدعو إلى القيام بتحليلات موضوعية وشمولية في هذا الميدان، وإذا كان جميع الباحثين يبدون متفقين على الراهنية التي يتسم بها هذا البحث، فكذلك نرى أن الضرورة تدعو إلى التعجيل بإعمال التأمل في الصعاب المنهاجية التي يمكن أن تصادفنا في هذا النوع من المقاربات. سنجعل فاتحتَنا إلى هذا التأمل الأعمالَ التي وضعها علماء النفس وعلماء الاجتماع الأمريكيون، المؤتلِفون ضمن فريق مجلة «علوم نفس الشعوب». فهي أعمالٌ تسعِفنا في تحديد عدد من المفاهيم والتصورات ذات الفائدة للنقد الغربي في ما يخوض فيه من بحوث ويقوم به من تقصيات. لولا أنها أعمالٌ تظل محدودة الفعالية بحكم نسبيتها، وبحكم أنها لم تحز المقبولية على الصعيد العالمي. إن كل صورة، وكل شعب - نموذج، وكل فترة مختارةٍ تقتضي بناء منهاج خاص لا يمكن سحبه، إلا في نطاق محدودٍ، على تحليل من النوع نفسِه. فالرغبة التي أعربت عنها سلفين ماراندون في خاتمة الفصل الذي عقدته للمشكلات المنهاجية؛ تلك الرغبة المتمثلة في - التمكين من إعادة صنع التجربة - ، هي رغبةٌ محمودةٌ، لو اعتبرنا بغاية هذا المشروع، ومن المستحيل علينا أن نسلم بها من الناحيتين النظرية والمنهاجية. فنحن نرى بالإمكان أن نأخذ منها ببعض المفاهيم وبعض التصورات وبعض المقترحات، لكن يصعب علينا أن نتوسَّل المنهاجَ نفسَه إلى الموضوع الذي نريده بهذه الدراسة؛ أعني صورة المغرب في الأدب الفرنسي، وإنه لموضوع شديد الرحابة، بالغ التعقيد. فلدراسة تكوُّن الصورة وتحوُّلها وإنشائها وإعادة إنشائها ووظيفتها واستمرارها، يكون من الضرورة الحيوية أن الشروع في إطار بحث يأخذ بالعديد من التخصصات، في إنجاز أبحاث وتقصيات تاريخية واجتماعية وعراقية ودراسات تتناول الطبائع والأمزحة، لخلفية كاملة للصورة، التي ربما كان تحليلها الآن أكثر تسويغاً وأكثر استعجالاً من استقصاء الأسطورة. ونؤمل أن يرى ذلك النورَ، وأن تسهم مقاربتُنا في عملية لتفنيد الأسطورة نتوقع لها أن تجوّد اتصالاً صار بعدم التفاهم أو التجاهل أمراً صعباً، وحتى ليكاد يكون أحياناً من قبيل الخيال. لكن ما هي الحدود التي تنحد بها مهمتنا؟ إن من أولى المشكلات التي تواجهنا، إذا ما استثنينا مسألة الذاتية والحدس والمواقف المسبقة، هي مشكلات من طبيعة تصورية. فهل ينبغي لنا أن نتوسل بمفهوم الصورة أم بمفهوم الأسطورة في حديثنا عن البلد الذي نتخذه نموذجاً، وهو عندنا المغرب؟ وقد ربما بدا هذا السؤال تافهاً، بالنظر إلى أن كلمة «صورة» وكلمة «أسطورة» قد صارتا اليوم تنسحبان على الوقائع نفسها، وأنه بعد التعريف الذي جاءت به ماروندون لكلمة «صورة» والتعريف الذي جاء به روبول لكلمة «أسطورة»، وهما تعريفان يلتقيان مع بعضهما، إلا من بعض الفروق الهيِّنة، حتى ليصيرا في حكم المترادفين أتم ترادف، وبعد العمل الذي وضعه ليون فانوذ سيفر، لم يعد مسوِّغٌ للتردد في اختيار المصطلحية التي باتت، في ما يبدو، مكرسة، قد تحقق حولها الإجماع. غير أننا نعتقد أن هذه الصعوبة النظرية ستواجهنا في شأن بعض البلدان النماذج، بل إنها لتواجهنا في شأن معظم هذه البلدان، ولسوف يتفتَّق الحل المعتمَد بصورة نهائية، عن قرائن ستحسم في شأن المنهاج الواجب اتباعه في هذا البحث برمته. ولذلك يكون التأمل المنهاجي أمراً لازماً كلما اتجهنا إلى دراسة صورة شعب من الشعوب. وينبغي لنا، ونحن نستعين بالتأملات النظرية إلى تناول المشكلات العامة، أن نُعيد ابتكار منهاج خاص بكل نموذج يقع عليه اختيارنا، باعتبار وجوه الأصالة في وضعيته الخاصة.