تقديم: كان أجدر أن يكون لكتاب الطاهر بنجلون « اللحمة الأخوية» عنوانا آخر هو «كتاب الصداقة». لأن الكتاب فعلا يتناول فكرة الصداقة استنادا إلى تجربة الكاتب من الطفولة حتى بلوغه سنا متقدما مكنه من تحديد الصداقة والنزول إلى عمقها الإنساني والفلسفي. ولا يخفى أن أمر «الصداقة» أخذ حيزا مهما من كبار الفلاسفة والمفكرين والادباء. وقد تفرق هذا الحيز بين ناف لوجود صديق وبين مثبت. وهنا نسوق مثلا قولة منسوبة إلى سقراط: « إن ظن أحد أن أمر الصداقة صغير، فالصغير مت ظن ذلك». إذن، فتتبع القارئ لكتاب الطاهر بنجلون، الذي نقدمه اليوم، هو رحلة في كتاب مع واحدة من أكبر الإشكالات التي يفكر فيها الإنسان يوميا: الصديق الذي يطلق عليه المسلمون «الأخ في الله» كما في قول عبد الله بن المبارك: «وما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخا في الله». لقد وجد الطاهر بنجلون، هؤلاء الإخوان في الله، لكن أحوالهم عديدة، ووجوههم مختلفة. لكن العبء ، الذي وجده بنجلون طيلة حياته مع الأصدقاء، هو إيجاد القدرة على القيام بهم، ومراعاة مسألة قلة وجودهم، وكأن بنجلون رجع بعيد لذلك الذي أجاب قديما جدا عن سؤال: «كم لك من صديق؟» قائلا: « لا أدري، لأن الدنيا علي مقبلة، فكل من يلقاني يظهر الصداقة، وإنما أحصيهم إذا ولت». ذات صباح، لم يأت الفقيه. عدنا غالى بيوتنا. لم أر حفيظ. بسرعة انتشر الخبر: «مات حفيظ وذلك بسبب الماء الذي اختلط بالدم في رأسه. والفقيه ذهب ليهيئه من أجل إرساله إلى السماء، لأن الأطفال، عندما يموتون، يصبحون ملائكة. ولا يمرون من يوم الحساب». منذ ذلك اليوم وأنا أخاف من الفقهاء الذين يغسلون الموتى. كنت أرفض أن تمس يدي يده. كنت أيضا أتحاشى تقبيل يده، كما هي العادة.كنت أتمكن من الهرب، وأنا أركض، إلى أن جاء اليوم الذي أمسكني فيه وأرغمني على تقبيل يديه، راحة وظهرا. كنت أفرك شفتاي لإزالة رائحة الموت. كنت مقتنعا بأن الفقيه عندما وضع يده على رأس حفيظ،أصيب بالموت كما نصاب بالزكام. كنت أعد الأيام التي تفصلني عن المدرسة، و الأيام التي لا نحفظ فيها عن ظهر قلب، وتلك التي نمرح فيها خلال فترة الاستراحة، والأخرى التي يكون لنا فيها الوقت لاكتساب أصدقاء. صديقي الأول كان يكبرني بسنة. لم نكن في نفس الثانوية. التقينا في الصيف، في مدينة «إفران»، حيث كان لخالتي إقامة ثانية ( الصيف في فاس لا يحتمل). كان له شعر أشقر، وكان رشيقا و أنيقا. لا أتذكر الظروف التي تعارفنا فيها. كنا نلتقي كل ظهيرة عند شلال ماء العين. بجدية، كنا نتحدث عن الدراسة، والأسرة وحتى عن مستقبل بلدنا الذي حصل على الاستقلال. كنا جديين كثيرا ، ونتصرف كأناس كبار. في تلك الفترة كنت مغرما بابنة عمي ذات العينين الزرقاوان. كنا نتحدث عنها بتجرد. كان يقول لي: لا يوجد الحب إلا في الزواج، وإلا فإن الأمر مجرد سينما وانحلال. والحال أن عشقي للصور و السينما يعود تحديدا لتكل المرحلة. و إذا تذكرت اليوم تلك الصداقة، فلأنها بنيت على الكذب. ورغم أنه يكبرني بسنة، فإنه يظهر أصغر مني. كنت قد بلغت المستوى السادس. وعندما سألته عن المستوى الذي يدرس فيه، أجابني « المستوى الخامس» بنبرة تكاد تقول: « بكل تأكيد». و أنا دون أن أفكر أجبت: «أنا أيضا».بقيت على تلك الكذبة طيلة سنة. كنا نتبادل الرسائل. كان يكلمني عن الكتاب الذين قرأ لهم في القسم وكنت أحث الخطى إلى المكتبة الفرنسية لأستعير كتبهم، وأحاول قراءتهم بدوي حتى أنخرط في النقاش. بعد صيفين، كتبت له رسالة طويلة اعترفت فيها بالحقيقة. لم أتمكن أبدا من تحمل نتائج كذبتي. كنت أفضل التخلص منها. كانت تلك هي نهاية تلك الصداقة. لم أتلق منه أبدا أي رسالة. عندها فهمت أن الصداقة لا تحتمل أي خرق، حتى وإن كان كذبة كبرياء. الدرس يتلخص هكذا : لقد خسرت صديقا لأنني كذبت عليه. هذه الكذبة الصغيرة الصادرة عن طفل في الثالثة عشرة ستطاردني مدة طويلة، إلى درجة أن الصراحة أصبحت بالنسبة لي دينا حقيقيا له نتائج مهمة. ورغم ذلك، فإن قول الحقيقة بانتظام ليس أمرا مستحبا: ليست كل الحقائق صالحة لأن تقال. صديقي الثاني كان على النقيض مني: يحب اللعب، مغامر، مغو، ويراقص البنات بشكل رائع. كان نور الدين من ذلك النوع الذي نسميه صبيا فاتنا، لطيفا ولعوبا. كانت رتبته في الثانوية ضمن المتأخرين في صفه. كان يحب معاشرتي لأنه كان يريد أن «يكسر» طابعي الجدي والحازم ويدفعني إلى عالم الخفة والاحتفال.كنا معا نحب السينما. هو لا يتحدث إلا عن الممثلين( كان يحب أن يتماهى مع جيمس دين و إيرول فلين)، أما أنا فكنت أهتم بالمخرجين والمنتجين. كان يقول: « شاهدت فيلما لجون واين»، أما أنا فأقول:» شاهدت فيلما لجون فورد أو لهوارد هاوكس». الحلقة:3 لم تكن السجائر تذكر عندنا، وبالأحرى الكحول. ولا خروج يتجاوز بضع ساعات. كنت، في الثانوية، آخذ الدروس بجدية كبيرة.وكان نور الدين يحب سرد لياليه متباهيا بفتوحاته الأنثوية. كان يطمح إلى غواية «إران باباس» و»دليدا» اللتان كانتا تعبران من طنجة. كنت أنصت إليه برغبة. كان خجلي يمنعني من أن أتبعه في خرجاته. وفيما كنت أحلم بالفتيات، كان هو يكتشف أجسادهن و يجمع رسائل الحب. وعندما وقعت في الحب، سخر مني. و أنا مهان، اكتشفت أن نور الدين لا ينصت أبدا للآخرين؛ و أنه كان في حاجة إلى من ينتصت إليه لاختبار خيلائه. ودون نزاع معه ا تخذت مسافاتي، مقتنعا بأن الصداقة لا يمكن أن توجد دون إنصات متبادل. لقد استمعت مدة طويلة لنور الدين وهو يحكي لي قصصه، بينما هو لم يكن قادرا على منح قليلا من وقته الى ذاك الذي يعتبره صديقه. اليوم نور الدين هو رجل آخر. نلتقي بالصدفة كل ثلاث أو أربع سنوات. نقول لبعضنا أشياء مبتذلة. يذكرني دائما بأنه كان يحسدني بسبب شعري الطويل وقراءتي لروايتين في الأسبوع الواحد. في نفس المرحلة، كن أذهب رفقة بوبكر إلى السينما، وهو طفل قصير القامة، شديد التدقيق في التفاصيل ومتسلط. بدا لي تصرفه غريبا. كان يخيفني قليلا. كان يحدثني عن أمه التي يعتقلها والده في البيت. أذكر أنه لم يكن يدعوني أبدا إلى بيته، بينما كان هو يزور والدي بين الفينة والأخرى. علمت ذات يوم أن أمه أصيبت بالجنون فلم يعد إليها. كان مستبدا. و يحدث أن يكون قاسيا مع القطط. لم أكن أشعر بالراحة معه. كان يرهبني. لم تكن علاقة صداقة. عندها فهمت أن الصداقة لا يمكن أن تتأسس على الخوف والاستبداد. فابتعدت دون أن أحدث قطيعة كلية معه. لم أكن على خطأ. ثلاثون سنة بعد ذلك، أصبح هذا الرجل رائدا من رواد المسجد، محافظا خالصا وصلبا.ترك لحيته تنمو. وكلما رأى فتاة جميلة بلباس أوروبي، يتضرع من الله أن ينزل الصواعق. و إذا كنت اليوم أتذكره، فلأنه لم يكن يفتقد إلى الذكاء، ولا الدعابة. هواجسه، مخاوفه و انزعاجه جعلتني أكون لطيفا معه. لابد أن أقول إنني لم أفعل شيئا لمساعدته من أجل الخروج من نفقه الطويل الذي رمته فيه المشاكل العائلية. مع لطفي، لا شيء يدفعني لأن أصبح صديقا. لم نكن في نفس الثانوية؛ لم نكن نقطن في نفس الحي وعائلتينا لا تعرف بعضها. كان هو هو ينتمي إلى عائلة عريقة في طنجة. أنا جئت من فاس، و والدي لم يكن يظهر الكثير من الانجذاب نحو ناس طنجة. كان يجدهم كسالى وغير اجتماعيين. كان لطفي يحب الجاز و أنا السينما. هو كان يعلن في كل مكان حبه للمفكرين الأحرار، مثل فولتير أو أناتول فرانس، فيما أنا كنت أطلب من الله ان يسمح لي بلقاء هذا الشخص. هو كان يحب تدبير المهازل والخدع؛ و أنا أجد في ذلك سوء ذوق. هو يجهر بأفكاره؛ أنا أخفي أفكاري وراء جمل جميلة. كان أحيانا يصاب بالإفلاس؛ كنت أقل منه قليلا في هذا الجانب. لم يكن يأخذ السينما الأمريكية على محمل الجد؛ أما أنا فكنت أكتب مقالات عن أورسن ويلز ، كما كنت أنشط النادي السينمائي في سينما «روكسي» بطنجة. هو كان ماركسيا (تقليد من أخ إلى أخ)، و أنا كنت ألوذ بالرومانسية. كان له، ولازال، حس المرح. الذي أفتقد إليه. كان جريئا، وكنت محترسا. كان يضحك الفتيات؛ وكنت أضجرهن بقصائدي الصغيرة التافهة. الحلقة:4 رغم كل الاختلافات، لم أكن أشعر بأن لطفي نقيضي. كنا مختلفين لكن « منسجمين». كان واحدنا ينصت للآخر. بدأت صداقتنا بنبرة خفيفة. لم يكن شيئا صعبا. نستطيع أن نسخر من كل شيء. لم يكن هو يضع حدا للسخرية. الكل موضع هزئه. كنت أحب هذه الحرية كثيرا. لم يعلمني فقط الإنصات للآخرين، بل علمني أيضا حب الجاز. كنا نلتقي عند عازف بيانو إسباني يعمل في المركز الثقافي الأمريكي. كنا نستمع بورع لأسطوانات لدوك إلينغتون، كونت بازي، ميل دايفيس، ديزي جيليسبي، إلخ... أنشأنا ناد للجاز عند السيدة «أبريناس»، التي عوضت حب الموسيقى بحب الكحول. ما أن يتعلق الأمر بالموسيقى، يصبح لطفي جديا. وعندما تبالغ السيدة «أبريسناس» في الشرب، ننتقل إلى بيت لطفي للإنصات إلىالموسيقى الكلاسيكية. كان على معرفة بحياة الملحنين الكبار، ويقارن بينبين صيغ هذه السمفونية أو تلك. لقد كان مولعا كبيرا بالموسيقى: كان يخجلنا دون الإشارة إلى جهلنا. كنا نتساءل أين أمكن له أن يتعلم كل هذه الأشياء التي نجهل. لقد نقل له إخوته حب الموسيقى كما نقلوا له فيروس النضال. كانت لي طفولة بدون موسيقى. لم يكن والدي يعرفان سوى الموسيقى الأندلسية التي تعزف في أعراس الزفاف. كان عندنا جهاز مذياع لا نسمع فيه أبدا موسيقى الجاز. وضع لطفي رهن إشارتنا مكتبة العائلة الموسيقية، وبذلك أعطى معنى لعلاقتنا. كنت من جانبي أحاول إثارة اهتمامه بالسينما. لكن جهدي كان ضائعا. كان يضجر في القاعات المظلمة. لم يكن يحب حتى أفلام رعاة البقر، لأن الابطال دائما يكونون وسيمين وطيبين والأشرار قبيحون وجبناء. ولم يكن هو يجد نفسه وسيما. كان يقول إن السينما تفرض على الناس هذا التساوي الغبي بين الجمال والطيبوبة من جهة، وبين بشاعة الآخر الجسدية وقبحه. هذا ما كان ينتقده في السينما. ولم يكن مخطئا. السينما، الأمريكية على الخصوص، تتأسس على هذه المانوية التي يصفق لها الجمهور الواسع و يضمنها: على البطولة أن تتجسد في الجمال؛ بينما على الجبن، و الفظاظة أن يقرآ في تقاسيم الوجه. ووجه لطفي لا يعكس اللطف دفعة واحدة. لم نكن في تلك الفترة ننتبه لهذه الأشياء. كانت الفتيات تحتقرننا. والفرصة الوحيدة لتملقهن، كانت الحفلات الراقصة المنظمة، في غالب الأحيان، من طرف زملاء الدرس الفرانسيين. لم نكن ندعى إليها إلا نادرا. كان نور الدين هو المغربي الوحيد المدعو بشكل منتظم. كان كبيرا، وسيما وصيادا ماهرا. كان مسليا شعبيا ويستطيع بسهولة أن يصبح أوروبيا. لطفي و أنا كنا شخصان عاديان. الفتيات لا ينتبهن إلينا. واللواتي يتقربن منا قليلا لا يتذكرن حتى اسمينا، أو يلحنن فيهما: لطفي يصبح لفطي، و أنا طا أر. مع لطفي لا نتحدث عن الصداقة. كن نلتقي أحيانا وسط المجموعة. كنا نخرج في نزهات. لقد كانت مرحلة الحب. هو يعدد الأخطاء العشرة في صديقته الصغيرة. أنا أكتب قصائد لحبي الأول. أتذكر شخصا، طويل القامة و نحيفا، يرتدي سروال جينز يشد الجسم يسمي نفسه «إلفيس». كنا نسميه «بندقية» بسبب نحافته. كان يخجل من كونه فقيرا فلم يكن يدعونا إلى بيته. أنانيته وبخله جعلانا ننتهي بالكف عن اللقاء به. لكن ما لا نغفره له، أنه كان يتنكر لوالديه. كان في المجموعة أيضا حسن، الذي يتثاءب أثناء درس الموسيقى، والذي يريد ان يصبح ديبلوماسيا. كان يضحكنا بصراحته، وبعباراته الأرسطوقراطية وميولاته إلى الصحافة. الزمن هو أحسن من يبني الصداقة. إنه أيضا هو شاهدها ووعيها. الطرق تفترق، ثم تلتقي.