بوريطة: استقرار إفريقيا مرتبط مباشرة باستقرار المغرب    المقاتلات الشبحية F-35.. نقلة نوعية في القوة العسكرية المغربية    دوري أبطال أوروبا.. سان جرمان-ليفربول ودربي مدريد الأبرز في ثمن النهائي    توقيف شخص يشتبه في تورطه في شبكة للهجرة غير المشروعة والاتجار بالبشر بالحسيمة    "حليوة" أمام النيابة العامة بسبب تدوينة حول الرئيس الفرنسي ماكرون    منتدى دولي بطنجة يناقش تنافسية واستدامة قطاع صناعة السيارات بالمغرب    منع مشجعي الرجاء البيضاوي من حضور مباراة فريقههم أمام الجيش الملكي    تطورات التضخم والأسعار في المغرب    حماس: جثة بيباس تحولت إلى أشلاء    استعدادات لزيارة ملكية مرتقبة إلى مدن الشمال    النصيري يسجل من جديد ويساهم في تأهل فنربخشه إلى ثمن نهائي الدوري الأوروبي    شكاية ضد ابن كيران بتهمة القذف والسب ومطالبته بتعويض 150 مليون    إطلاق المرصد المكسيكي للصحراء المغربية بمكسيكو    شي جين بينغ يؤكد على آفاق واعدة لتنمية القطاع الخاص خلال ندوة حول الشركات الخاصة    القضاء يرفض تأسيس "حزب التجديد والتقدم" لمخالفته قانون الأحزاب    عامل إقليم الحسيمة ينصب عمر السليماني كاتبا عاما جديدا للعمالة    أداء مؤشر "مازي" في بورصة البيضاء    مضمار "دونور".. كلايبي يوضح:"المضمار الذي سيحيط بالملعب سيكون باللون الأزرق"    الجيش يطرح تذاكر مباراة "الكلاسيكو" أمام الرجاء    إطلاق تقرير"الرقمنة 2025″ في المنتدى السعودي للإعلام    الاقتصاد السوري يحتاج إلى نصف قرن لاستعادة عافيته بعد الحرب التي دمرته    كيوسك الجمعة | المؤتمر الوزاري العالمي الرابع للسلامة الطرقية يفي بجميع وعوده    باخرة البحث العلمي البحري بالحسيمة تعثر على جثة شاب من الدار البيضاء    المندوبية السامية للتخطيط تعلن عن ارتفاع في كلفة المعيشة مع مطلع هذا العام    الذهب يتجه لتسجيل مكاسب للأسبوع الثامن وسط مخاوف من رسوم ترامب الجمركية    روايات نجيب محفوظ.. تشريح شرائح اجتماعيّة من قاع المدينة    المغرب يحافظ على مكانته العالمية ويكرس تفوقه على الدول المغاربية في مؤشر القوة الناعمة    إطلاق أول رحلة جوية بين المغرب وأوروبا باستخدام وقود مستدام    توقعات أحوال الطقس ليومه الجمعة    تراجع احتمالات اصطدام كويكب بالأرض في 2032 إلى النصف    نتنياهو يأمر بشن عملية بالضفة الغربية    فضاء: المسبار الصيني "تيانون-2" سيتم اطلاقه في النصف الأول من 2025 (هيئة)    عامل إقليم الجديدة و مستشار الملك أندري أزولاي في زيارة رسمية للحي البرتغالي    كيف ستغير تقنية 5G تكنولوجيا المستقبل في عام 2025: آفاق رئيسية    محامون: "ثقافة" الاعتقال الاحتياطي تجهض مكتسبات "المسطرة الجنائية"    حوار مع "شات جيبيتي" .. هل تكون قرطبة الأرجنتينية هي الأصل؟    "بيت الشعر" يقدّم 18 منشورا جديدا    أوشلا: الزعيم مطالب بالمكر الكروي لعبور عقبة بيراميدز -فيديو-    "مطالب 2011" تحيي الذكرى الرابعة عشرة ل"حركة 20 فبراير" المغربية    حادثة سير مميتة على الطريق الوطنية بين طنجة وتطوان    "حماس" تنتقد ازدواجية الصليب الأحمر في التعامل مع جثامين الأسرى الإسرائيليين    طه المنصوري رئيس العصبة الوطنية للكرة المتنوعة والإسباني غوميز يطلقان من مالقا أول نسخة لكأس أبطال المغرب وإسبانيا في الكرة الشاطئية    سفيان بوفال وقع على لقاء رائع ضد اياكس امستردام    السلطات تحبط محاولة نواب أوربيين موالين للبوليساريو دخول العيون    6 وفيات وأكثر من 3000 إصابة بسبب بوحمرون خلال أسبوع بالمغرب    ثغرات المهرجانات والمعارض والأسابيع الثقافية بتاوريرت تدعو إلى التفكير في تجاوزها مستقبلا    غشت المقبل آخر موعد لاستلام الأعمال المشاركة في المسابقة الدولية ل "فن الخط العربي"    إطلاق النسخة التاسعة للجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    سينما المغرب في مهرجان برلين    الذكاء الاصطناعي يتفوق على البشر في تحليل بيانات أجهزة مراقبة القلب    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    حصيلة عدوى الحصبة في المغرب    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    دراسة تكشف عن ثلاثية صحية لإبطاء الشيخوخة وتقليل خطر السرطان    صعود الدرج أم المشي؟ أيهما الأنسب لتحقيق أهداف إنقاص الوزن؟"    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    الشيخ محمد فوزي الكركري يشارك في مؤتمر أكاديمي بجامعة إنديانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيميائيات الأهواء
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 01 - 07 - 2011

شغلت الأهواء(1) الفلاسفة وعلماء الأخلاق والأدباء بما لها دور في إثارة المباهج أو الأحزان، وحدوث أزمات أو تفاديها، و شحذ إرادة الإنسان أو تعطيلها. ومن خلال المسار التاريخي للنظرية السيميائية يتضح أن السيميائيين، بدورهم وإن من منظور مختلف، اهتموا بدور الإحساس في تحقيق البرامج الحكائية، والانتقال من حال إلى آخر، وتوطيد تفاعل الإنسان ، أكان إيجابيا أم سلبيا، مع محيطه. يعد الهوى، بحكم تشبث السيميائيين ب» النظرة الجامعة والمتسقة»عنصرا أساسيا في إحداث الفعل ( على نحو حفز اللاعبين على الانتصار في المباراة) أو استرجاع تفاصيله (الندامة على الهزيمة)، ومده بالطاقة الانفعالية اللازمة حتى يكون في مستوى الآمال المعلقة عليه ( ما يرتبط بما سيحدث ) أو يخضع للتقويم الأخلاقي لتبين نقائصه ( ما يتعلق بما حدث). ويؤدي الجسد، في الحالات الانفعالية جميعها، دورا كبيرا في تحقق المعنى (جسد يحس بما يكتنفه ويدركه)، وتجسيد ما هو مؤلم للذات أو ما هو سار لها. إن حرص ألجيرداس كريماص وجاك فونتاني، في كتابهما المشترك(2)، على صياغة مشروع سيميائية الهوى أو الإحساس على نحو مستقل بذاته ( أي يتوفر على عدة مفاهية خاصة به ومنسجمة تقر- أساسا- باستقلالية البعد لانفعالي للخطاب، وبالتشييد النسقي للتدلال الاستهوائي la sémiosis du phorique، وبإنجاز نحو يفضي إلى الخطاطة الاستهوائية المعيارية)(3) ، لم يحل دون تأكيد مدى تفاعله وتكامله مع النظرية السيميائية للعمل في إطار ما يصطلحان عليه ب» الوجود السيميائي المتجامس». لقد كانت نظرية الأهواء، عموما، ثمرة سنين من العمل المتواصل اضطلعت به الجماعة السميائية-اللسانية ( المعروفة بمدرسة باريس) لمراجعة النظرية السميائية « المعيارية» بالتركيز على ثلاث مجالات تستأثر بالاهتمام أكثر، وهي: الابستمولوجية والنظرية والتطبيق.
1-وساطة الجسد في الدخول
إلى عالم المعنى:
كانت الأهواء، باستمرار، محط اهتمام النقاد والأدباء والفلاسفة لكونها تمس جانبا معقدا في دواخل الإنسان وفي علاقته مع العالم والأشياء. ولم يخرج السيميائيون عن هذا الركب سعيا إلى فهم الحالة النفسية بعدة مفاهيمية ملائمة ( ما يهم عوالم الكينونة). وإن كرسوا معظم جهدهم النظري والتطبيقي لإرساء الأهلية الجهية للذات السردية وضمنها جهة الفعل لما لهما من دور في تحريك البرامج الحكائية وتغيير العالم بهدف تحقيق غايات وأهداف محددة. وإن لم تتبلور سيميائيات الأهواء إلا في العقود الأخيرة، فبوادرها الأولية كانت تطفو، بين الفينة والأخرى، في المسار السيميائي. ويمكن أن نمثل ، على وجه الخصوص، بدراسة كريماص ل» هوى» الغضب(5) وبدراسة تخص « التكوين الجهي للكينونة»(6).
يعيد السيميائيون النظر في تنظيم المسار التوليدي الذي يمثل حالة افتراضية ونشاطا قيد الانجاز. ويعملون، بهذا الصنيع، على تصحيح مكامن الخلل وتعزيز مواطن القوة، حتى تغدو النظرية خطابا منسجما وشاملا. إن المنطقة الأكثر فاعلية في المسار التوليدي هي الفضاء الوسطي الذي يتموضع بين البنيتين السطحية(المكون الابستمولوجي) والعميقة (المكون الخطابي)، ويهم أساسا النمذجة السردية وتنظيمها العاملي أي ما يميز العامل بفعله وحده (وليس برواسبه النفسية)، وهو الشرط الأساس لتطوير سيميائية العمل.
يؤدي الجسد محفلا توسطيا بين الإحساسيْن الداخلي والخارجي، ويضمن تفاعل الإنسان مع محيطه، ويجسد حركيا مجموع الأهواء التي تنتاب الإنسان أكانت مفرحة أم محزنة « جسد حاس، مدرك فاعل؛ جسد يعبئ كل الأدوار المتفرقة للذات، في تصلب وقفزة ونقل. جسد باعتباره سدا وتوقفا يقود إلى تجسيد مؤلم أو سعيد للذات» ص368. وتتشخص حركة الجسد خطابيا في شكل آثار تلفظية (ما تجسده التجليات الثقافية وإيحاءاتها إن على المستوى الجماعي (اللغة الجماعية) أو الفردي (اللغة الشخصية)( يمكن أن تخضع لتقويم أخلاقي لتثمينها ( هوى الشجاعة) أو بخسها ( هو البخل). تخص الأهواء كينونة الذات لا فعلها. وحتى عندما تعمل الذات الهوية ( أي عندما تنتقل من ذات الحالة إلى ذات فاعلة)، فهي تكون موجهة وفق جهة الكينونة. ولما يضطلع الجسد بالتوسط بين الحالتين(حالة الأشياء وحالة النفس)، فهو يسهم في إحداث نوع من الانسجام بينهما.
2 -الكتلة الاستهوائية
( الأريج المبهم):
إن عطر الأهواء ينبعث من تنظيم خطابي للبنيات الجهية. وهي، في هذا الصدد، لا تخص الذوات وحدها، وإنما تسم الخطاب برمته. ويمكن أن تسقط ( بوصفها آثارا سيميائية) سواء على الذوات أو على الموضوعات. تعيش الذات أفقا توتريا قبل أن إدراك مرادها أو عدم الحصول عليه. فقبل أن يتوله الأمير ( في رواية أميرة كليف) بالآنسة دوشارتر، إبان لقائهما عند بائع المجوهرات) لم يكف عن التعبير عن مدى اندهاشه بما يحيط بها، أي أنه كان يعاني من حالة متوترة مستشرفا إمكانات حبه لها. إن ما يحدد قيمة المضامين الدلالية هو، دوما، من طبيعة أخرى ( قيمة القيمة أو ظلها: عدد الذرات المضافة إلى تركيبة جسم آخر)، ويحتمل أن ينقل إلى ذات أخرى. ويتجسد هذا التكافؤ كما لو كان ظلا للقيمة أو انطباعا عنها. تقدم رواية « السقوط لألبير كامو» صورة عن عالم دون قيم ( عالم تنعدم فيه الثقة). إن القاضي/ الثائب ، كما صوره ألبير كامو، هو عامل توليفي يمارس، على الطريقة الكلبية القديمة، التحقير المنظم والاستفزاز التهكمي. إن المكافئ ( الذي يشكل مجموعة الاستيثاق) يمنح عالم الأشياء صلابته. وبدون هذه الصلابة لن تكون للأشياء أية قيمة. إن الشخص نفسه يصادف في طريقه امرأة يائسة تلقي بنفسها في نهر السين، ولم يبادر بإنقاذها. يوحي هذا المشهد بانهيار عالم القيم الذي يعد صورة محتملة ومقلوبة للحادثة التي قوضت دعامات ضرورة الوجود الراهن، و يجسد ، في المرحة الأولى، التكافؤ أما في المرحلة الثاني فيشخص القيمة.
3 -الهوى والفعل:
الهوى شعور يدفع أو ينزع إلى الفعل. ويعد بمثابة أهلية تمكن من الفعل أي ما يسعف على الانتقال من إرادة الفعل إلى القدرة على الفعل. وهكذا يعتبر الكون الاستهوائي امتدادا للكون الجهي. وفي هذا الصدد يبدو من الضروري الاستعانة بتنظيم جهي للكينونة. وإن كان مستقلا عن الفعل المحتمل فهو يعتبر عدة جهية محددة للهوى بصفته أثرا معنويا. فهوى الاندفاع يعتبر طريقة في الفعل، ويشمل على « فائض جهي» (يجمع بين إرادة الفعل والقدرة على الفعل) يمكن من توقع الإرادة والقدرة والمرور إلى الفعل. يعد العناد « حالة استعداد للفعل» دون الخوف من المعوقات. وفي هذه الحالة تكون الذات منفصلة عن موضوعها (جهة : معرفة عدم الكينونة)، ومتشككة من النجاح في مهمتها( القدرة على عدم الكينونة) ومصرة، في الآن نفسه، على إدراك مبتغاها(إرادة الكينونة). ورغم غياب إرادة الفعل بسبب المعوقات فإن العنيد لا يتخلى عن برنامجه ( مشروع الفعل المحتمل). إن الأمر يتعلق إذن بفائض جهي هو الضامن لمواصلة الإنجاز. « وحضور هذا الفائض هو ما يفرض علينا صياغة عدة هووية من خلال حدود « تنظيم جهي للكينونة» لا من خلال حدود « أهلية في أفق الفعل» ص115.
من خلال هذا المثال تتضح بعض المفارقات: تخرج « إرادة الفعل» عن « عدم القدرة على الفعل»، وتزداد قوة داخل تنظيم جهي للكينونة. وهو ما يقتضي الافتراض بوجود تركيبين يهم أحدهما التركيب الجهي للفعل، ويخص ثانيهما التركيب الجهي الهووي. وفي حال هوى « العناد» تكون « أهلية الفعل» مجرد صورة افتراضية أو تصاورا « إن العنيد يريد أن يكون، داخل ما سميناه التصاور الهووي للعناد، « ذاك الذي يفعل»، وهو ما لا يعادل «يريد أن يفعل» ص116.
إن رغبة العنيد في أن ينتصر ( إرادة الكينونة) تقتضي منه معرفة الكينونة من الناحية التركيبية. وهو، في هذه الحال، يدخل في صراع من الآخرين. في حال هوى اليأس يتعذر حل الصراع، في حين أنه في حال العناد يُحل من خلال انتصار الذات. وما يميز بين الهويين أن « مقاومة الحاضر» ، في العناد، تعمل لصالح انتشار المآل، في حين تكون غير حاضرة في هوى اليأس.
4-الهوى بين الاستعمالين الفردي والجماعي:
إن الكون الهووي للفرد يعبر عن خصوصيته، ويجلي « أسطورته الشخصية» ( وفق شارل موران) فيما يخص تثمين أهواء أو بخسها. تعلم كي دي موباصان من مدرسة شوبنهاور أن الإرادة هي أساس مأساة الإنسان. فعندما تكون الرغبة غير مشبعة ينتج عنها الضجر والازدراء، فيتولد الإحباط والعذاب. وهكذا فعادة ما ترتبط الإرادة عند موباصان باللامعنى والعبث والتناحر.يستفيد موابصان من شوبنهاور، وينضاف إلى جيل من الكتاب الذين تأثروا به. ويطبق لويس أراغون على اليأس نسقا فكريا أكثر عمومية . فهو يأس تاريخي ورمزي وسياسي يفضي إلى تذمر اليائسين من الحكام، وإن ظلوا أوفياء للتعاقد الذي يربطهم بالقيم الملكية.. ونعاين ، من المثال الأول، أن صنافة فردية ( نسق فسلفي) تتحول إلى صنافة اجتماعية محايثة. ونلاحظ من خلال المثال الثاني أن صنافة اجتماعية ( وهي إيديولوجية تيار فكري بأكمله) تتحول إلى صنافة اجتماعية محايثة. « إن هذه التغييرات في المواقع تقتضي منهجا ممكنا لدراسة العلاقات بين النص والنص المحيط والسياق: فعندما تتم عملية تحديد الثوابت والمعايير التي تشتغل بها الصنافات الإيحائية، وبعد أن يتم تمييز مختلف الفصائل ومختلف المستويات التي تتحرك ضمنها، سيكون بإمكاننا، من هذه الزاوية، تصور الدراسة « التكوينية» للنصوص من خلال التحولات بين مختلف الصنافات» ص149.
5 -مدونة الغيرة:
درس كريماص وفونتاني الفصل الثاني من الكتاب نفسه «البخل» باعتباره هوى/ موضوعا (علاقة البخيل بما يملكه)، وأكّبا ، في الفصل الثالث، على دراسة الغيرة بصفتها هوى بيِْذاتيا( تنفاس الغيور والغريم على المحبوبة). نستعرض مدونة الغيرة لبيان، على نحو مجمل وشامل، الغاية من دراسته سيميائيا.
أ-التمظهر المعجمي:
لما يكون الغيور في علاقة مع المحبوبة يتوطد هوى الخشية ( مراقبة الغريم والسعي إلى إبعاده). وفي حال حدوت الأزمة الاستهوائية بينهما تتنامى لديه مشاعر الانتقام من خصمه. يفيد المعجم أن الغيور متعلق كثيرا بموضوعه القيمي ويكد من أجل الحفاظ عليه. وهكذا تقترن الغيرة لديه بالرغبة والحماس والحسد. إن وجود الغيور في فرجة أو مواجهة يوحي بأنه يتألم وهو يرى غيره يستمتع بالموضوع أو أنه يخاف ويرتاب من فقدانه. وتهم الفرجة الرباط الذي يلحم الغريم أو الذات بالموضوع المتنازع عليه. إن استمتع به أحدهما أضاعه الآخر.
ومن أجل تكوين فكرة عن «الغيرة» ينبغي أن نضعها في حضن جملة من التمظهرات التي تبين مختلف العلائق والأبعاد الدلالية الاستهوائية التي تحتملها العدة العاملية المشخصة في الثالوث ( الغيور والغريم و المحبوبة). ومن ضمن هذه التمظهرات الغرام الذي يشمل الغُرم والتنافس والتباري،ثم تمظهر التعلق الذي يستوعب أهواء من قبيل التعلق الشديد والحماس والامتلاك والحصر. ومن خلال السمات التوليدية للغيرة في القاموس يتبين ما يعتري الغيور من أهواء (على نحو الريبة والقلق والخشية) تحدث تشويشا استيثاقيا ( ما يهم الثقة المتبادلة بين الحبيبين). وهذا ما ينعكس سلبا على المعطيات الأصلية للتعلق. إن التعلق يفترض الثقة التي تعطي معنى للحياة. ولما تتصدع هذه الثقة يفقد الغيور السيطرة على الموضوع والاستمتاع به، ويخفق في خوض المعارك مع غريمه.
ب-البناء التركيبي للغيرة:
يعد القلق مكونا من المكونات التركيبية للغيرة. ويُعبر عنه، وفق ما يشغله من مواقع تركيبية، إما بالريبة لما يظهر الغريم على حلبة المنافسة، وإما من خلال الخشية عندما يكون الحدث المؤلم متوقعا. إن القلق ليس انفعالا عابرا وإنما هو حالة مترددة. وقد يفضي إلى أزمة استهوائية عندما يقترن بالشك. و لا تنتمي الغيرة إلى نسق مصغر(7) قابل لاستيعابها في كليتها وشموليتها، وإنما تنتسب إلى عدة تمظهرات بسبب تنظيمها المعقد.» هناك نسق التعلق ونسق الحصر ونسق البنيات السجالية التعاقدية ونسق الأهواء الاستثاقية وغيرها. فالغيرة ليس بالهوى المعزول فحسب، ذلك أنها تنتمي إلى أنساق مصغرة حيث لا تشكل سوى موقع من بين مواقع أخرى» ص267. وهذا يبين أنه ينبغي تجنب دراسة الأهواء على نحو منعزل، وبالتالي يجب أن يتعامل مها بوصفها « منظومة استهوائة». استعان صاحبا الكتاب بخطاب الأخلاقيين من أجل استكشاف معاني الغيرة، وبيان تصاور المحبوبة ( مختلف المواقع المفترضة التي تشغلها من خلال الصراع المحتدم بين التنافسين)، والانتقال من الجمال ( ما يتوفر عليه النص من سمات جمالية وتخيلات) إلى الأخلاق ( إصدار أحكام أخلاقية واجتماعية حول الأهواء). ويمكن أن نمثل بملفوظ مقتطف من كتاب لابرويير « ألأمزجة» : « الغيرة اعتراف مكره بالاستحقاق». يحصل الانهيار الاستيثقاقي (فقدان الثقة) لما يدخل المنافس إلى حلبة المنافسة والصراع للظفر بالموضوع. ومن خلال موقع الغيرة في الملفوظ يتضح أن الغريم يتكافأ مع الغيور في قدرته على استحقاق الموضوع المتنازع عليه وامتلاكه. وبقدر ما يخشى الغيور استيلاء الآخر على ما يعتبره في عداد ملكيته بقدر ما يعتقد أن منافسه يستحق الموضوع.
« يضع « الخوف من الفقد» إرسالية صريحة، و» البوح بالاستحقاق» إرسالية ضمنية مفترضة. ولكن البوح مفروض، بمعنى آخر، لأنه يسير في الاتجاه المضاد لمصالح الغيور: فالاعتراف بأحقية الغريم معناه مضاعفة حظوظ الآخر بالاعتراف له بالحق في موضوع القيمة» ص 277. وبموازاة مع ذلك يفيد البوح اعتراف الغيور بوجود خلل ما في علاقته بالمحبوبة، ويفترض الإقرار بدونيته في آخر المطاف.
ج- التقويم الأخلاقي:
نعاين آثار الضغط الاجتماعي على الموقع الذي يشغله الغيور. يمكن أن نتصور حكما إيجابيا يبين مدى استعداد الغيور على الدفاع عن تعلقه بالمحبوبة رغم أنف خصمه. وبالمقابل ينصب الحكم السلبي على تراجع الغيور عن المنافسة وعدم قدرته على ركوب غواربها. وفي هذا الحالة يحتمي الغيور بالأزمة الاستهوائية أو الاستيثاقية ( الشك). وهكذا يتضح أن شفرات أخلاقية تتقاطع فيما بينها داخل تمظهر الغيرة، ومن ضمنها نذكر:
- تُحشر أخلاق الاستحقاق في شؤون العشاق ، وهذا يقتضي البرهنة على وجود نسق قيمي يضبط الصدامات بينهم ، ويسعفهم على حسن استعمال السجال. ويفترض، في هذا الصدد، أن يتصوروا « الشرف» الذي يتيح لهم تسوية خلافاتهم بشكل نهائي.
- ينجم الوفاء عن حصرية التعلق التي تستجيب لمقتضيات أخلاقية، وهو ما يعزز لدى الغيور معيار الملكية الحصرية.
- ينبغي للعلاقة الغرامية ، في الأخلاق الكلاسيكية، أن تظل سرية. وفي حال افتضاح خيوطها تصبح علامة على الخجل والفضيحة و مثار إدانة ( الحكم الأخلاقي).
د-التخطيب:
لقد أسعفت دراسة الهوى المضمن في الخطاب على بيان عملية استحضاره الفردي والجماعي سواء على مستوى التحسيس أو التقويم الأخلاقي. وفي هذا المضمار يستند مؤلفا الكتاب على نماذج وترسيمات معيارية ( ومن ضمنها أساسا المقطع المكبر الذي يستوعب ما يهم الأزمة الاستهوائية في عدة انفعالية) لبيان مدى انضباط هوى ما لها أو انزياحها عنها ( الاشتقاقات الممكنة المترتبة على متغيرات افتراضية) تبعا للأنماط الثلاثية الكبرى التي تُعنى ببناء الأهواء الإيحائية ( التكون، ثم التحسيس، ثم التقويم الأخلاقي). تكمن معيارية المقطع المكبر في مدى اشتغال الافتراضات على الوجه المطلوب. إن انتفى افتراض فإن المقطع الاستهوائي يتوقف مفضيا إلى أهواء لا تنتسب إلى تمظهر « الغيرة». ويمكن أن نستدل على هذا الانحراف الاستهوائي بمثال من أمثلة كثيرة يحفل بها مسرح راسين . « إن أنتيوشوس عاشق منهك، وتعلقه أحادي ( وفق نمط « هبة الإيمان»)، وبما أنه لم يحصل أبدا على الحق في الأمل، فإنه لا يمكن أن يكون غيورا» ص327.
وتتحول خشية الغيور ( الخوف الاستباقي من فقدان المحبوبة)، عند بروست، إلى أمل. وبالمقابل يصبح البغض ( الأسى الاسترجاعي من فقد المحبوبة) أمانا وراحة.
لقد سعيت، من خلال هذه المداخلة المقتضبة، أن أبين مدى ملاءمة الكتاب المترجم إلى اللغة العربية، وتفاديت الدخول في تفاصيل محتوياته وفرضياته، وأرجأت إبداء ملاحظات على بعض مفاصله سعيا إلى تقديم جملة من المفاتيح المسعفة على فهمه واستيعابه. حاول كريماص وفونتاني، في هذا الكتاب، إبراز دور الجسد ( التجسيد) في تفاعل الإنسان مع محيطه إيجابا ( السعادة) أو سلبا(الألم)، والانتقال من الهوى إلى فعل سابق ( ما نجم عنه الندم) إو إلى فعل لاحق ( ما يترتب على التهييج والتحميس )، والتدرج من الشروط القبلية ( القوى المتماسكة في الكون التوتري) إلى مستوى الخطاب (يصبح النص- عند نهاية المسار التوليدي- متغيرا وتجليا للسطح. لا شيء أكثر عمقا من النص (فرنسوا راستيي). وهذا ما عبر عنه أحد علماء الأخلاق بهذه العبارة الموحية: لا شيء، في الإنسان ، أكثر عمقا من البشرة).
اعتمد صاحبا الكتاب على المدونة الثقافية الفرنسية التي تقدم تصورا خاصا للعالم الاستهوائي، وترسم حدودا فاصلة بين اللغتين الفردية والجماعية. وسعيا إلى بيان مدى انضباط التجليات الاستهوائية إلى نماذج معيارية ( الثوابت الثقافية) أو تمردها عليها (المتغيرات المحتملة). ويحتاج الكتاب المترجم إلى تشخيص تجارب مماثلة لإبراز خصوصيات بعض الأهواء في الثقافة العربية، وتقويمها من المنظور الأخلاقي(8). وفي المرحلة الموالية، يستحسن أن تستخلص طبيعة العلاقة التي تجمع مدونة ثقافية وظنية مع مثليتها التي تحظى بميسم كوني.
1 - نص المداخلة التي ألقيتها في « عيد الكتاب» بتطوان، يوم الثلاثاء 7 يونيو 2011.
2 - Algirdas J.Greimas & Jacques Fontanille , Sémiotique des passions : Des états de chose aux états dâme, Seuil 1991
3 - انظر في هذا الصدد:
Cécilia Wiktorowicz : » Algirdas J.Greimas et Jaques Fontanille,Sémiotique des passions . : Des états de chose aux états dâme, Etudes littéraires, vol25, n3,1993 ;p153 p155.
4 - كريماص وفونتاني ، سيميائية الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، ط1، 2010.
5 - A. J. Greimas , » De la colère « in Du sens II, Seuil,1983 pp245-255.
6 -- A. J. Greimas ; » De la modalisation de lêtre «, Du Sens II op.cit pp93-102.
7 - يعتبر المقطعان المكبر (شكل من أشكال المنظومة الانفعالية) والمصغر(يهم ، في المقام الأول، التسلسلات الجهية الخاصة بالأزمة الهووية) بمثابة خطاطتين معياريتين. وتنضاف إليهما الأنماط الثلاثية الكبرى لبناء العوالم الهووية الإيحائية ( التكوين ثم التحسيس ثم التقويم الأخلاقي). يحتكم إلى تداخل المقطعين المصغر والمكبر ( انظر الخطاطة ص 316) لبيان ما إن انضبط هوى « الغيرة» لما هو معياري ( اللغة الاجتماعية) أو انزاح عنه في شكل متغيرات افتراضية (اللغة الفردية).
8 - ما حاولنا إبرازه في تحليل هوى « الحب» في رواية « الحي الخلفي» لمحمد زفزاف ثم هوى « الغيرة» في روية « الضوء الهارب» لمحمد برادة. انظر: محمد الداهي، سيميائية السرد بحث في الوجود السيميائي المتجانس، منشورات رؤيا، القاهرة، ط1، 2009.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.