أصدر مجموعة من المثقفين والمفكرين والباحثين بيانا ديمقراطيا قدموا فيه مجموعة من الاقتراحات تتعلق بالمجال السياسي والدستوري.. ويأتي هذا البيان في سياق ماتعرفه بلادنا، منذ مطلع هذا العام، من حراك اجتماعي وسياسي غير مسبوق في ديناميته وإيقاعه، والذي يتقاطع مع موجة الثورات والانتفاضات المندلعة في عدد من الساحات العربية، فيما يخص مطالب التغيير وشعاراتها. ينصرف الحراك الاجتماعي والسياسي في المغرب إلى وجهة المطالبة بالإصلاح السياسي والدستوري، وإعادة تأهيل المجال السياسي تأهيلا ديمقراطيا ومدنيا حديثا، تتمسك قوى هذا الحراك من «حركة 20 فبراير» وقوى وطنية وتقدمية برؤية للمستقبل السياسي تلحظ فيها تعديلا عميقا في علاقات السلطة، يقوم على إقرار نظام الملكية البرلمانية، والتوزيع العادل والمتوازن للسلطة بين مؤسسات منتخبة بنزاهة وشفافية وخاضعة للمساءلة الشعبية. وإذ سجل الخطاب الملكي في 9 مارس 2011 لحظة من التجاوب مع مطالب هذا الحراك، فأطلق مبادرة إصلاحية في المجالين السياسي والدستوري على قاعدة الجهوية والمبادئ السبعة المعلنة فيه، وإذ تألفت لجنة خاصة بالتعديلات الدستورية، وأحدثت آلية للاتصال واللقاء بين اللجنة والقوى السياسية والمدنية لاستحصال رؤاها البرنامجية في المسألة الدستورية، وإذ أعلن قسم كبير من هذه القوى عن رؤاه ومواقفه على صفحات الدوريات...، فإن الموقعين على هذا البيان يغتنمون مناسبة المناقشات الوطنية العامة الجارية في شأن البناء الدستوري والنظام السياسي، ليطرحوا على الرأي العام هذا ال «البيان الديمقراطي»، وهم يأملون أن يشاركهم فيه كل من تقاسم معهم منطلقاته وأفكاره ومقترحاته، كما يتطلعون إلى أن يكون هذا البيان لبنة من لبنات أخرى، تستوجبها متابعة حصائد الإصلاح في محطاته القادمة. ويتضمن هذا البيان أقساما ثلاثة. الأول منها، تناول الغايات الكبرى للإصلاح في ثلاثة عناوين فرعية، (من المخزن إلى الدولة، الدولة الديمقراطية وواجب الاستثمار الاجتماعي «إسقاط» الفساد وتطهير الاقتصاد) . إنها إذن، ثلاث غايات كبرى مترابطة، تشكل في الواقع جوهر الإصلاح السياسي والدستوري، وهي ذات المطالب التي يرفعها ويتمسك بها الحراك السياسي الجماهيري الجاري في بلادنا. القسم الثاني منها، تعرض لجملة من المبادئ والمنطلقات، هي في الواقع، قواعد حاكمة ومؤسسة لأي نظام سياسي ديمقراطي ومدني حديث، وبالتالي، لأي نص دستوري يبتغي التعبير عن مقتضيات هذا النظام. أما القسم الثالث، فهو ملحق تكميلي، يشدد على بعض المقترحات، من بين أخرى كثيرة، تفاديا لتكرار ما يبدو أنه مجمع عليه. في هذا السياق، اتصلنا بمجموعة من المثقفين لمساءلتهم حول ما تقدمت به وثيقة الدستور وما جاء في البيان الديمقراطي، وهل استجاب لكل الافكار التي تقدم بها البيان الديمقراطي. في هذا الصدد يقول الشاعر محمد الأشعري إنه وقع «على هذا البيان بطلب من بعض المثقفين الذين اتخذوا هذه المبادرة دفاعا عن فكرة إنجاز دستور جديد بالمملكة، يتضمن التنصيص على الحريات والحقوق، ويتضمن تحديدا دقيقا لسلطات الملك والحكومة والبرلمان والقضاء، بطريقة تضمن فصل السلط وتوازنها. واعتبر أن مطالبة المثقفين بذلك أمر بديهي، من الممكن أن تكون هناك في البيان نقط لا يتفق عليها الجميع، ولكن هناك اتفاق على النقط التي ذكرتها. ومن المهم، أن نلاحظ أنها منسجمة تماما مع المطالب التي عبرت عنها الأحزاب الوطنية الأساسية، واستجاب لها مشروع الدستور بشكل واسع». في حين اعتبر الباحث الجمالي موليم العروسي، أنه «يكفي أن نطالب ببناء دولة حديثة لكي نعرف أن من مقوماتها فصل الفضاءات وفصل السلط. الدولة الحديثة تقتضي أن يكون المجال الديني أو المقدس منفصلا عن المجال السياسي، والسياسي عن الأكاديمي، والأكاديمي عن الديني.. وعندما طالبنا في البيان الديموقراطي ببناء الدولة الحديثة فإننا كنا نعني كل هذا، كما كنا نعني فصل السلط، وكذا مدنية السلطة، حيث التعاقد على دستور يكون هو المصدر الأسمى للتشريع وهو التعبير عن إرادة الشعب، وليس هناك سلطة تعلو على سلطة الشعب. هذه المبادئ لا تصدر لا عن شرائع سماوية أو تشريعات قبلية أو عرقية، بل هي نابعة من قيم أصبحت اليوم كونية ولا يمكن لأي بلد أن يتقدم إن لم يعتمدها كأساس حصري لتشريعاته وقوانينيه. لا يمكن التستر وراء أية خصوصية مهما علا شأنها للتملص من الرضوخ لهذه القيم التي أصبحت جزءا من قانون دولي. المشكلة أن هذه القيم سوف تصبح مفروضة علينا إن نحن لم نخترها بمحض إرادتنا. هذه بعض المبادئ التي طالبنا، نحن، محرري الوثيقة الدستورية الأخذ بها عند المباشرة بوضع الصيغة النهائية للمسودة. لكن يبدو أن خطابنا لم يصل بأكمله. فباستثناء بعض الفصول التي تناولت بعضا من مقترحات هيئة الإنصاف والمصالحة في المجال الحقوقي، جاءت النسخة المعروضة للاستفتاء مخيبة للآمال. فكلما ظهرت بوادر الأمل في فصل من الفصول إلا ونسخه فصل لاحق يقيد أو يلغي نهائيا مضمونه النير، من ذلك مثلا المساواة بين الجنسين. صحيح أن مبدأ التكافؤ يعد جد متقدم بالنسبة لبلدنا، بل ويرفع حيفا ظل لفترات طويلة مطلبا من طرف الجمعيات النسائية والحقوقية، ولكن الفصل 19 جاء كحد السيف يلغي كل أمل في التقدم في هذا الباب، إذ يربط المواثيق الدولية بأحكام الدستور وبثوابت المملكة وقوانينها، هذا يعني أن لا جديد في هذا الباب. إذا أخضعنا هذه الحرية (حرية المرأة) للثوابت وأطرناها بالدستور وقوانين المملكة، فإن هذا يعني أن المرأة لن تملك السلطة المطلقة على جسدها، وسوف تبقى إلى إشعار آخر قاصرا تحت وصاية الرجل، وليس في هذا ما يشجع نصف مجتمعنا على الانخراط في بناء الدولة الحديثة التي بقي حلمنا بها أيضا معلقا إلى أجل غير مسمى». الناقد عبد الفتاح الحجمري، بدوره أكد أنه لايريد أن يقف «عند الآراء التي انتقدت البيان الديموقراطي من قبل بعض الكتاب أو المثقفين (وأشباههم كذلك)، ولا من قبل هيئات بادرت إلى إعلان رأي ومصادرة آخر، وكان عليها أن تبادر إلى مراجعة وضعها وما آل إليه حالها؛ ولا حاجة بي إلى التذكير بالكتابات المُنوّهة والمناقشة بالإضافة والإغناء لما حمله البيان من أفكار وبسَطه من قضايا. أفترض أن الموقعين على البيان الديموقراطي أو المتعاطفين معه يشاطرونني الرأي، فالأهمّ هو خلق فضاء لحوار مُثمر ومتنوع ومتعدد يغني هذه اللحظة التاريخية والأفق السياسي الذي ستَرسم معالمه لعقود موالية. لا أعرف أن أكون واعظا، وليس من طبعي أن أكون وصيا على أحد أو رأي؛ لذلك سأقدّم بعض الملاحظات الشخصية أستهلها بما يلي: تكمن أهمية البيان الديموقراطي في تشديده على فكرة الإصلاح السياسي والدستوري وضرورته، برؤية نقدية وفكرية راعت الخصوصية التاريخية والاجتماعية والسياسية لنظام الحكم بالمغرب. تختزن فكرة الإصلاح في البيان الديموقراطي المشروع السياسي المستقبلي الذي نريده باستناده إلى فكرة سموّ نصّ الدستور، واعتبار البرلمان مصدر تشريع، والحكومة مسؤولة عن السياسة العامة وتدبيرها. من هنا، حين دافع البيان عن فكرة الانتقال من الدولة المخزنية إلى الدولة الديموقراطية، فإنه كان يدافع عن فكرة الانتقال من الملكية التنفيذية إلى البرلمانية. لقد شدد البيان أن نظام الحكم في المغرب ينبغي أن تكون الملكية البرلمانية؛ نظاما يقضي بنقل السلطة التنفيذية إلى الجهة التي ينبغي أن تخضع للمحاسبة والمساءلة أمام البرلمان، أي مجلس الحكومة؛ وتمتيع الملك بالسلطة التحكيمية الضامنة للتوازن بين مؤسسات الدولة (فضلا عن إمارة المؤمنين). والملاحظ أن مشروع الدستور المعروض للاستفتاء يوم الجمعة يمثل معبرا أساسيا للانتقال إلى الملكية البرلمانية، لأنه لم يُقم فصلا واضحا بين السلط؛ فقد بقيت سلطات الملك محورية. ورغم ذلك، فإن قراءة متأنية لنص مشروع الدستور تبرز«تنازلات ملموسة» أقدمت عليها المؤسسة الملكية من حيث بعض الاختصاصات، كما أن هناك إضافات تخص حقوق الإنسان وتحصينها، وحقوق المواطنة ورعايتها من قبل دولة الحق والقانون. مسألة أخرى تبدو لي في غاية الأهمية: دفاع البيان وتكريس مشروع الدستور على ثوابت الهوية المغربية المتعددة الروافد والمنفتحة على قيم التسامح والتفاهم والحوار الإنساني والحضاري الموحد للأمة في أبعادها العربية والأمازيغية والصحراوية والأندلسية والإفريقية والعبرية والمتوسطية. يضاف إلى ذلك، ضرورة التفكير في سياسة لغوية (وثقافية عامة) تراعي التعدد السالف وتغنيه بفاعلية وانسجام يحميان اللغات الوطنية وينهضان بها، مع الحرص والسعي إلى تشجيع تعلّم اللغات الأجنبية التي تتطلبها روح العصر ومقتضيات مجتمعات المعرفة الحديثة. وقد عبّر البيان الديموقراطي عن هذا المنحى بتشديده على التكريس الدستوري للحق في الثقافة والتثقيف من حيث هما حق من حقوق المواطنة، ولما لهما من أدوار رئيسية في بناء الذات وصيانة القيم، وفي تمكين المجتمع من تطوير القدرات المعرفية والإبداعية والإنتاجية. لقد تبنى البيان نصّ الدستور على الحقوق الثقافية واللغوية للمجموعات الاجتماعية والسكانية كافة، فيشار دستوريا إلى لغاتها المتنوعة بوصفها لغات وطنية، مع الاحتفاظ باللغة العربية بوصفها لغة رسمية؛ وفي البيان فقرة شارحة ومبينة لخلفية هذا الرأي ومبررات بسطه. وكل هذه القضايا وغيرها هي من إحدى مهمات المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية الذي نصّ عليه مشروع الدستور . مشروع الدستور الحالي نصّ، وتفعيله يحتاج إلى نصوص أخرى. وهو بهذا المعنى ثمرة توافقات ترضي بنسب متفاوتة هذا الفريق أو ذاك، ولا تجد القبول أو الحماس عند فريق آخر؛ مما يعني أن ثمة هوامش ممكنة لمزيد من إنضاج وثيقة دستورية تمنح السيادة للأمة وترعى الحقوق والحريات صونا لمبدأ المواطنة، أسّ كلّ نظام ديموقراطي. إن البيان الديموقراطي لحظة ثقافية وفكرية مهمة في مغرب اليوم، وقعه مثقفون نزهاء وشرفاء، ولقي تأييدا واسعا من آخرين لم يحمل البيان توقيعهم وهم كُثر؛ أتى البيان ليقول: خافوا على الديموقراطية، لا منها... وليفكر في ذلك أولو الألباب... ». الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري، رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب، من جهته اعتبر أن « وثيقة الدستور مشروع وسط، أحسن بكثير من وثيقة 1996، جاء بمقتضيات إيجابية هامة فيما يخص الحريات والحقوق والمساواة ورفع الميز بجميع أشكاله. هناك تقدم لا بأس به في فصل السلط وتوسيعها وتقويتها، على أمل أن يتولد عن ذلك فصل كسب المال عن السياسة. النص يظل في تقديري الشخصي بعيدا عن طموحات «البيان الديمقراطي» في مسألتين على الخصوص. المسألة الأولى هي أن السلطة التنفيذية والسلط الأخرى الكثيرة التي بيد الملك تستتبع أن تقوم حكومة ظل جديدة حول الملك تتولى مساعدته في تدبير هذه السلط. وهذا شيء يرهن المسار الديمقراطي، ويضعف فصل السلط وتوزيعها التوزيع الملائم. المسألة الثانية تتعلق بالهوية، والهوية اللغوية على الخصوص، حيث لم يقع نقاش هادئ وعميق في هذه المسألة، ليبين فوائد الوحدة إلى جانب التنوع. وما انفك الأمر عند البعض قرنا للغة بالقومية، وفرضا لقوميتين بألوان عرقية على المغاربة، مع أن المغاربة لم يعرف عنهم أنهم قوميون، بل إنهم وطنيون ومواطنون بالأساس. وينبغي أن يكون واضحا أن معالجة إشكال التعدد اللغوي أو الثقافي لا يمكن أن يرتبط بفرض هوية قومية أحفورية وطائشة، وأن هذا يتنافى والحقوق الفردية والجماعية للمغاربة، كما يتنافى وسمو الوطنية على الهويات الفئوية، علاوة على ربطها ببينية وكونية تجميعيتين وتراكميتين. وإذا كان لا بد من تأكيد دور الملكية في صيانة المصالح العليا للبلاد، ودورها التحكيمي والرُّعْوِي، وإمارة المؤمنين، فإن دورها المتسامي عن كل ما هو حزبي أو فئوي أو انتفاعي، علاوة على كونها آخر ملاذ فيما يخص النزاعات التي تهدد أمن البلد واستقراره المجتمعي والأمني، يضطرها إلى أن تتموقع ضمن نظام ديمقراطي صريح، وغير قابل لاجتهادات أي حكومة، أو قيام حكومتين. وقد يكمن المخرج في أن يُعْلَنَ أن الدستور الحالي وثيقة نَقْلِية لمرحلة تدوم دورة تشريعية واحدة، يحرص فيها جلالة الملك على تسريح كل ما هو نزاعي أو نفعي أو خاضع للمحاسبة للحكومة السياسية الواحدة المأمولة، التي تُوَظَّفُ الفترة الانتقالية لسبر الملامح الجديدة والطلائعية لأطرها، وتغيير العقول وتأهيل من يطمحون إلى ثقة الشعب في السلط الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، تجاوبا مع ما تتطلبه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الساخنة، ومشروعية المطالب الشبابية، ومطامح الشعب في الحرية والديمقراطية والكرامة.»