قد تقبل هذه المعادلة أكثر من حل، لكن الدستور إما ان يقبل كله كنسق أو يرفض كله، ولا مجال الآن للاختيار والانتقاء من بين فصوله ما الذي ينسجم مع الحركة وما الذي يتنافى مع أرضيتها التأسيسية، وبالمقابل فحركة 20 فبراير لا يمكن أن تظل تشتغل بنفس المرجعية السياسية لهندسة أقليدس، حيث أن المستقيمات المتوازية لا يمكن أن تتقاطع، بل ممكن أن تتقاطع حسب نظرتنا للأمور، وهو الحد الأدنى المشترك الذي نؤسس من خلاله للفعل السياسي داخل المعادلة السياسية المقبلة، فمطالب الحركة وإن كانت تعبر عن مشروع مجتمعي يجمع بين الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، إلا أنه يبقى غير متكامل، كما تعثرت في تحديد خصمها بوضوح، وهذا راجع بالأساس لتنوع مكوناتها واختلاف مرجعياتهم لدرجة التناقض والتطاحن في أحيان كثيرة، لكن هل الحركة انتهى دورها ؟ الأكيد وبلغة عالم الاجتماع ألان تورين الحركة الاجتماعية تموت عندما تسيس أو تحقق أهدافها، فالحركة لم تسيس لتنوع مكوناتها واختلاف مرجعياتهم الفكرية والمذهبية والثقافية، وهو ما حال دون أن تفرز قيادة قادرة على المناورة والتفاوض والتنازل والتوافق ... كما أن الحركة لم تحقق أهدافها ومطالبها، وهو شرط وجودها واستمرارها، لكنها في المقابل استطاعت خلخلة المشهد السياسي والنقابي والثقافي، فلولاها لما انعتقت النقابات من إفلاس حقيقي كان يهدد كيانها بعد مصادقة البرلمان بغرفتيه على ميزانية للتقشف على صغار الموظفين مع تجميد الأجور والتوظيفات والترقيات، وبفضل حركة 20 فبراير تحركت الحكومة للرفع من الأجور ب600 درهم لجميع موظفي الدولة، وبفضل الحركة أجاب ملك البلاد في خطاب 9 مارس بطرح الخطوط العريضة لإصلاح دستوري موروث، وعلى أرضيته تمت صياغة دستور جديد بمرجعية حقوقية حيث سمو المواثيق الدولية، وبفضل حركة 20 فبراير كذلك تم ضخ ميزانية ضخمة في صندوق المقاصة رغم الانتقادات الكثيرة لهذا الصندوق والتي تصب في معظمها على أنها لاتخدم المواطن البسيط والمعوز بقدر ما تخدم أصحاب الشركات والمقاولات المرتبطة بنوعية المواد المدعمة، وبفضل الحركة أطلق سراح عدد مهم من المعتقلين السياسيين، وظل الحوار مفتوحا بين ملك البلاد والشارع، وبفضل الحركة أصبح للشارع معنى يوازي في مصداقيته المؤسسات المنتخبة، وأصبح ليس فقط مؤسسة للتنشئة الاجتماعية، ولكن مؤسسة للتنشئة السياسية وفضاء للفعل الاجتماعي. ومن جهة ثانية فالحركة عجزت عن إسقاط الفساد وجر المفسدين إلى المحاكم باستثناء المحاكمات الشعبية التي تتم بالشارع العام وأمام الرأي العام عن طريق التنديد بالمتورطين في نهب المال العام والمفسدين والمحتكرين وترديد شعارات تطالب بمحاكمتهم، والقضاء على اقتصاد الريع، عجزت الحركة كذلك عن الدفع بحل الحكومة وحل البرلمان وانتخاب مجلس تأسيسي لصياغة الدستور تعوض لجنة المانوني، لكن ألا يعني كل هذا التراكم الذي تحقق عبر مسار الحركة ضرورة التفكير الجدي في مراجعة نقدية لأرضيتها التأسيسية ولبرنامجها النضالي ولتكييف مطالبها مع الإصلاح لتحقيق مكتسبات لصالح المجتمع ككل وليس لفصيل مكون للحركة دون أخر، فما الذي يمنع الحركة وبالضبظ بعض مكوناتها، كالعدل والإحسان والنهج الديمقراطي القاعدي واليسار الديمقراطي من التصويت بنعم على الدستور والاستمرار في التظاهر لإسقاط الفساد وإعادة التوزيع العادل للثروات، وإسقاط الفساد الحزبي الذي يعتبر أصل الداء للتغيير الديمقراطي والتنموي المنشود، والتصويت بنعم ليس بهدف أن يتحول النهج الديمقراطي لحركة إصلاحية ولا أن تتحول العدل والإحسان لحركة دعوية وفقط، ولكن لإخراج الحركة من عنق الزجاجة التي أصبحت رهينة لها، حتى لا تنقسم الحركة على نفسها بين من مع الدستور ومن ضده، ولكن لاستقطاب عدد كبير من الأصوات المبحوحة والمكمومة وتلك الكتلة الصامتة للانخراط الجماعي في التغيير، نعم لطريق ثالث نعم للدستور وللقبول بقواعد لعبة جديدة، لكن لدينا شروط قبل بداية هذه اللعبة وأول هذه الشروط إسقاط الفساد وتأهيل الحقل السياسي والحزب لتكافؤ الفرص، نعلم جيدا أن للعدل والإحسان مجالسها وهياكلها وللنهج الديمقراطي مكاتبها ومؤتمراتها، ولتفعل ما تشاء ولتتخذ من القرارات الأجدر منها، لكن لندع الحركة تقوم ببعض من النقد الذاتي، فهناك مستقلون هم مكسب للفعل الاجتماعي والسياسي، وهناك شبيبات أحزاب وإن نعتت بالإصلاحية فعلى الأقل قادرة على الوفاء لإصلاحيتها، وشعار إسقاط الفساد الحزبي من أهم مرتكزات نضالها، نعم لدستور جديد ونعم لحركة 20 فبراير مع تجريم محاولة السطو عليها من طرف فصيل معين، الحركة للمغاربة جميعا، وهي لازالت بيد المغاربة جميعا، والمغاربة لا يقولون لا للدستور، ولكن يقولون لا للحكرة، لا للفساد والرشوة، لا للبطالة ، لا للظلم ....فاستمرار الحركة ليس بعزلها عن المجتمع أو بنقل قرارات حزب معين وفهم معين وفرضه على كل الحركة، وقد تمت هذه العملية بالفعل وتم التصدي إليها، لكن المرحلة تقتضي الانتقال للسرعة النهائية في الإصلاح، وهو ما يعني تسريع درجة التفاعل والذي لن يتم دون استحضار اللحظة التاريخية وقراءتها بشكل سليم وواقعي بعيدا عن المزايدات السياسية لاستغلال الفرص المتاحة، فللحركة نقط ضعف كثيرة، لكن نقط القوة أكثر، وتجاوز الاكراهات رهين بدرجة الاستيعاب ودرجة الوعي الذي وصلت إليه الحركة كفاعل أساسي في المعادلة السياسية، هذا إذا قبلت أن تلعب هذه الوظيفة، مع ضمان حق اللعب للجميع، بدل التهافت على ضمان مواقع بأي ثمن في الرقعة التي تهيئ للمستقبل، نعم للإصلاح السياسي والدستوري سيفتح الباب واسعا أمام الحركة للفعل داخل المجتمع وستستقطب قطاعات نقابية وفعاليات مجتمعية مهمة، قاسمها المشترك تجديد النخب وإسقاط الفساد والتوزيع العادل للثروات، وهنا سنفشل مخططات من يريدون التمويه والادعاء بأن خصمنا الحقيقي هو الدستور، والكثيرون من المحافظين والرجعيين يروجون أن قول لا للدستور تعني لا للملك، وبالتالي سينقسم المغاربة من مع الملك ومن ضده، وكل من يرفع مثل هذا الشعار يريد توريطه في صراع مفتعل تنزع منه صفة التحكيم والممثل الاسمي للدولة، ونعم للدستور تجنبنا السقوط في الانقسام على ذاتنا من مع ومن ضد، خصمنا الحقيقي هو الفساد والمفسدين، لتستمر الحركة في تحقيق التراكم الميداني والتجربة حتى ترتفع درجة الوعي للفاعلين فيها والوعي لن يحدد هويتها بدقة، ولكن على الأقل ستضعف الخصم، نعم للدستور هي طريقة لكي نعلن أن الأحزاب ضعيفة كفاية باستثناءات قليلة، وأن النخبة التي تقدمها غير قادرة على التشريع، أو مشكوك في وطنيتها، وفي مصداقيتها، وبالتالي فالانتقال مع ملك البلاد نحو ملكية برلمانية أسلم وأكثر أمان بأن نسلم البلاد لبعض البلطجية وبعض العائلات القذافية بالتفكير والطرابلسية بالبدن، أثبت الواقع المعيش شجعها وتجبرها وتسلطها واستعبادها للمواطنين من خلال تسيير الشأن العام المحلي والوطني، لكن مع احتلال الشارع لفرض واقع وإن تأجل فهو آت لا محال.