كان صديقي علي السمان أول من حدثني عن جونفييف شوفيل ومشروع كتابها خلال تناولنا وجبة إفطار في منزله بباريس. كان موضوع الكتاب يهمني بشكل خاص، إذ كنت متلهفا لمعرفة ما يمكن أن تقوله «غربية» عن شخصية مثيرة للجدل إلى حد كبير بين المسلمين الشيعة والسنة، لأن النقاش يظل جافا، كما لو أن الأمر يتعلق بخبر فقط. ومؤخرا، كان العالم الأكبر الشيعي اللبناني سعيد فضل الله قد وجه نداء صارما يذكر فيه بأن المسلم ملتزم باحترام «آل اليت» وكل صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا ما يتعلق بصلب الموضوع في الوقت الذي تستفحل فيه الأوضاع الطائفية في العراق يوما بعد يوم. ومن جهة أخرى، فإن الكتابة عن «عائشة، أم المؤمنين»، يمسني بشكل مباشر، لأننا، حسب ما يشير إليه أرشيف عائلتي، ننحدر من أول خليفة إسلامي، أبي بكر الصديق. ولقد انتقلنا للعيش في المنفى منذ زمن. الأحداث التي عاشتها عائشة وشقيقها عبد الرحمان كان لها تأثير مباشر على مصيرنا. ولكل هذه الأسباب، كنت أنتظر بفارغ الصبر لقاء جونفييف شوفيل، والتي عقدت معها بعد ذلك مجموعة من اللقاءات. واعترف لها بروحها الإنسانية وبشهامتها. سيدة مثقفة، بل ومثقفة جدا، كلامها عبارة عن إلقاء مرصع بنبضات طبيعية، أفكارها واضحة وتبتعد كل الابتعاد عن الغموض، متمكنة من معارفها حول العالم العربي - الإسلامي. تتحدث عن الأديان بكل إخلاص. وعندما تطرح أسئلة حول علم الأديان، فإنها تولي الأمر اهتماما كبيرا. إنها إنسانة، كما أقول في قرارة نفسي، تدرك ما تريد، وتعرف جيدا إلى أين تسير. في الإهداء الخاص بكتابها الأول «أمازون الصحراء»، وجهت إلي الدعوة لمشاطرة المعارف والتجارب لما فيه مصلحة مجتمعينا. كان ذلك في الخامس والعشرين من شهر نونبر 2005. وفي سنوات التسعينات، عملت على تتبع مسار حياة صلاح الدين الأيوبي العظيم، معتمدة في ذلك على صرامة المؤرخة وريشة الرومانسية، حيث تقول: «منذ أكثر من ثمانية قرون، أبقت ذكراه ونموذجه النار متقدة، ولا يمكن أن يتم إطفاؤها ما دام الإسلام والغرب لا يبديان رغبة حقيقية ومتبادلة من أجل التفاهم.» هل كانت تلك دعوة من أجل فتح حوار مثمر وبناء؟ من هذا المنطلق قبلت المشاركة في عملها من أجل بناء حوار مستمر، يتوافق وكلام القرآن الذي جاء فيه في سورة آل عمران: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.» أو في سورة البقرة: «وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.» غير أنني اكتشفت إثر ذلك، وبفرح كبير، أن الكاتبة استعدت جيدا لتعزيز موضوعها بآراء مؤرخين من العيار الثقيل وعلماء دين كبار من قبيل محمد سعيد رمضان البوطي، دون ذكر الآخرين. كما أنها تسير على عكس توجه السواد الأعظم من الإعلام الغربي، الذي لا يلقي سمعا ولا يهتم بأي شي لا يتوافق ونظرتهم المسبقة حول القيم والثقافات، بل يكتفي بنشر كل ما هو ملغوم ويسخر من الإسلام ويعتبره دين عنف. إن كان الإسلام بمثابة الأممالمتحدة في مذهبها، فإنه يظل غنيا بتجاربه وتاريخه. إن الحوار بين الأديان يمثل لنا حاجة ملحة من أجل إدراك أن الله خلق البشرية مختلفة، وفي هذا الاختلاف تكمن قوة الإيمان والعقيدة، كما يشير إلى ذلك القرآن في سورة النحل: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة.» وفي هذه الظروف الصعبة، وتحت ظل هذه السماء الملبدة، جاء كتاب «عائشة، محبوبة الرسول» ليعزز جسر الصداقة مع كاتبة مسيحية التي تحملت عبء القراءة، والبحث عن حقيقة وقصة حول المرأة، حول نساء هذا المجتمع العريق الذي كانت تهيمن فيه روح القبلية المطلقة. ولا ننسى أننا في القرن السابع للميلاد، حيث كان ثمة نقاش كبير حول الدين يهز هذا الجزء من العالم، في الوقت الذي كان فيه بيزنطة والحبشة يقومون المرة تلو الأخرى بالتدخل في شؤون شبه الجزيرة العربية، من أجل دعم المستعمرات المسيحية على حدود البحر الأحمر. في وقت حملت فيه الديانة اليهودية معيارا مطلقا لمسألة أنسنة الإنسان، أي على مستوى الضمير، إلى ما وراء غرائزنا: مواضيع الارتباط بين الإنسان والإله، التيه، أي قدرة الإله على أن ينتزع من الإنسان كل شيء، ثم الوعد، أي مجموع ما يشترطه الإله على الإنسان لكي يمكنه من بناء «مملكته» في احترام للقانون. وفي وقت كان يمكن أن تكون فيه الثنائية الأساسية للفكر اليوناني قائمة على تصور جديد تماما للعالم مقارنة مع ما جاءت به المسيحية، جاء الإسلام ليتأسس كدين توحيدي بشكل صارم، ليس بالمعنى الذي توجد عليه جميع المجتمعات الدينية، لكن بالمعنى الذي يوضح بأن المجتمع الذي يقوم على ذلك الأساس ليس متدينا فقط. فالعقيدة في هذا المجتمع تشمل جميع مناحي الحياة، شخصية كانت، أم اجتماعية أو سياسية. ولقد حاولت الكاتبة أن تفصل لنا هذه الحقيقة، وتصفها لنا بشكل مبسط، وأن تأخذ من كلام كل من لهم علاقة بالموضوع والذين قد ينساهم التاريخ أو يتجاهلهم. تقدم لنا جونفييف شوفيل صورة إنسانية معمقة للرسول عليه الصلاة والسلام من خلال منظور عائشة أم المؤمنين التي تعتبره «الرجل المثالي». * مدير معهد الدراسات الدينية بالمسجد الأعظم بباريس