في الحلقة الأخيرة من برنامج «مسار» استضاف الزميل عتيق بن الشيكر في قناة 2M رمزا فنيا مغربيا ذا كعب عال في مجال الموسيقى والطرب الأندلسيين جعله شامخا وطنيا وعربيا. إنه الفنان الحاج محمد ابا جدوب الذي ساهم في سهرة تكريمه عدد من الفنانين والباحثين ضمنهم كاتب هذه السطور الذي أعد ورقة مستفيضة في حقه اضطر إلى تلخيصها فيما سمع وشوهد بالقناة، لذا وتعميما للفائدة ارتأى إعادة نشرها كاملة هدية منه لهذا الفنان المعلمة ولزميله عتيق: أبا جدوب مدرسة قائمة بذاتها في موسيقى الآلة والطرب الأندلسي.. ابا جدوب نغمة منفردة تغريك بالإنصات إليها وإن بغير استيعاب مضامينها.. فليس مهما ما ينشد، ولكن الأهم هو كيف ينشد، وبهذا استطاع أن يحبب هذا النوع من الموسيقى إلى العامة، أو بالأحرى أن «يشبعنها» إن جاز هذا التعبير ليجعلها محبوبة لدى شرائح كثيرة من الشعب وأن يشببها أيضا بطريقة أدائه الموشاة بابتسامة عبدية طافحة هي إلى الضحكة أقرب.. كما استطاع أن يمغرب كثيرا من المواويل والأدوار الشرقية.. وينقل بالمقابل مواويلنا وموشحاتنا المغربية إلى الشرق. نهل الفنان ابا جدوب أصول الطرب الأندلسي من جلسات فن الإنشاد والسماع في بعض الزوايا والأضرحة الشهيرة بمدينة آسفي على رأسها الزاوية الدرقاوية على يد الشيخ الفداوش ثم في ضريح الشيخ أبي محمد صالح الذي كان يعتبر مركز إشعاع فكري ساهم إلى حد بعيد في ترسيخ أصول العلم والفكر، لاسيما في الثلاثينيات من القرن الماضي حيث برزت مجموعة من المادحين والمنشدين نذكر منهم مولاي إدريس الحسني الملقب بالهواري الذي حملت المرحلة اسمه «مرحلة جوق بلهواري» ثم الشيخ حدادو بوكزيم، الغريسي وقد استمرت أنشطة هذا الجوق إلى غاية الستينات حيث انضم إليه الفنان أبا جدوب فكانت جل أنشطته تنحصر في إحياء الحفلات الدينية خصوصا ذكرى الإسراء والمعراج، والمولد النبوي وسميت هذه المرحلة بمرحلة الجيل الجديد. وفي الثمانينات ساهم ابا جدوب بمعية من زملائه في تأسيس جمعية السماع والمديح بآسفي ضمت مجمل المادحين المسفيويين . بعد ذلك هاجر ابا جدوب إلى مدينة سلا ليتتلمذ على يد عدد من أقطاب الموسيقى الأندلسية على رأسهم الحاج عبد الكريم الرايس رئيس جوق البريهي ثم عاد لآسفي ليؤسس عدة أجواق لموسيقى الآلة، فجمعية السماع والأمداح ، إضافة إلى تدريسه لهذا الصنف من الموسيقى بالمعهد الموسيقي قبل أن يتقلد منصب مدير له. وبفضله غدا كثير من الشباب المسفيوي العبدي المنقاد تلقائيا وطبيعيا لفن العيطة مولعا بالطرب الأندلسي حافظا لنوباته وأوزانه ومتقنا لما يعرف بموسيقى الخمسة والخمسين، والتي ماهي إلا 11 نوبة أندلسية : (رمل الماية? الرصد? رصد الديل? الاستهلال? الاصبهان ? عراق العجم? الحجاز الكبير? الحجاز المشرقي? العشاق? ثم غريبة الحسين) مضروبة في الخمس إيقات الشهيرة واللصيقة بهذه الموسيقى: (البسيط? البطايحي? الدرج? القدام? القائم ونصف) . وظل الحاج محمد ابا جدوب في منصبه الإداري إلى أن غادره ليتفرغ كليا إلى منصبه الإبداعي الذي لا يطاله التقادم، ولا يوقفه التقاعد حيث لازال صوته يصدح طربا وإنشادا بشكل لا يمكن لنا إلا أن نحييه من أجله ونهنأ أنفسنا عليه قبله . في هذا السياق، واعترافا بعطاء هذا الرجل الجميل صغت هذه الورقة التي سأطلق عليها قياسا «نوبة العشاق للطرب والإبداع الجميلين» وهي التي قدمت بالشاشة : «حين نذكر ابا جدوب نذكر آسفي .. حين نذكر آسفي نذكر الإبداع في تجليات شتى: الخزف، والبحر والسمك الطري وسيدي بو الذهب وسيدي أبي محمد صالح، وتراب الصيني، وجنان ألفسيان... حين نذكر آسفي وعبدة عموما، نذكر العيطة.. فنذكر خربوشة وعايدة وخديجة مركوم وحفيظة الحسناوية وجمال الزرهوني وامحمد الدعباجي والحامونية والراحل الباحث بوحميد ... حين نذكر آسفي ونحن بعيدون يهزنا حنين عارم إليها.. أما حين نستقر بها ولو لزمن لاهث منفلت من عاديات اليومي والاجتماعي المتداول نشعر بجمالها غير المعلن.. آسفي نهارا سجل فني زاخر لازال في حاجة كبيرة وملحة للتصفح والتوثيق: صورة صوتا وكتابة. أما ليلا، فآسفي «صندوق لآلئ» يشع حبا ويلمع عشقا.. فيحول الشتات لمة.. والفراق التحاما جديدا.. آسفي في كل الأزمنة مدينة تستعصي على الوجدان ومعزوفة تصدح عيوطا ونوبات .. أوزانا وحطات.. أنغاما وأصواتا.. وضمنها صوت الحاج محمد ابا جدوب الذي أنشد فأجاد: رأيت الهلال ووجه الحبيب فكانا هلالين عند النظر فلم أدر أيهما قاتلي هلال الدجى أم هلال البشر ؟ فلولا التورد في الوجنتين ومر عليه سواد الشعر لظننت الهلال الحبيب ولظننت الحبيب القمر أما أنا ومن باب الاقتباس أو «الاختلاس» الأدبي المعلن، من هذا القريض الجميل فقد أنشدت : رأيت الهلال ووجه ابا جدوب فكانا هلالين بعيد الغروب فلم أدر أيهما مطربي هلال الدجى أم هلال عبدة الشروب ؟ فلولا رقة الأداء والصوت الطروب لظننت المطرب الحبيب ولظننت الحبيب ابا جدوب ابا جدوب الرجل الجميل، والصوت الأجمل هو من قالت فيه الشيخة الفنانة : أنا الصوت الصافي حوز آسفي»