تشكل الأسرة النواة الأساسية للمجتمع، وتربط افرادها كتلة متنوعة من المشاعر والاواصر النفسية على غرار المحبة والاحترام والعطف والتضامن والتآزر والتعاون ، كما تجمعها روابط قانونية وحقوق والتزامات ذات صبغة دينية وأخلاقية واقتصادية وثقافية. وقد سعت تونس منذ استقلالها في 20 مارس 1956 الى إيلاء الاسرة المكانة التي تستحقها في المنظومة المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية الوطنية، تكريسا لسيادة واستقلال البلاد، وسعيا للمحافظة على مقومات وخصوصيات المجتمع التونسي عبر المزاوجة بين قيم الاصالة والتضامن والتعاون والتوق الى الحداثة والتطور. وفي هذا السياق مثلت مجموعة الاجراءات التشريعية والقواعد القانونية التي تبنتها الدولة منذ الاستقلال في تطوير قانون الاسرة في تونس وجعله مثالا يحتذى ليس فقط على المستوى الاقليمي والجهوي, بل على الصعيد الدولي، حيث كانت تونس من الدول السباقة في مجالات تحرير المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين وحماية حقوق الطفل بما يعكس القناعة بأن الاسرة التونسية تشكل المحور الاساسي والهدف الاسمى لمسيرة التنمية والتحديث. وفي مايلي عرض موجز حول خصوصيات المنظومة القانونية المنظمة لقانون الاسرة في تونس والذي يتناغم في مختلف مستوياته مع اغلب المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات الدولية 1 - إيلاء الدستور أهمية لمنظومة البناء الاسري: في البداية تجدر الاشارة الِى أن التحول التاريخي الذي شهدته تونس بفضل ثورة 14 يناير يمثل فرصة كبيرة لمزيد ترسيخ حقوق المرأة والطفل في الدستور الجديد للبلاد، ومن مؤشرات ذلك هو قرار الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة القاضي بإقرار مبدأ التناصف بين المرأة والرجل في الترشح لانتخابات المجلس التأسيسي المرتقب , بما يعني المساواة والعدالة بين الجنسين. ويشكل المسار الديمقراطي الجديد في تونس اطارا مهما لتكريس مبادئ المساواة بين المرأة والرجل وحماية الطفل في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية، نصا وممارسة, وذلك بفضل اجماع غالبية المجتمع التونسي على المكاسب التي تحققت في مجال حرية المرأة وحماية الطفولة منذ استقلال البلاد في 20 مارس 1956. 2 - الدور الريادي لمجلة الأحوال الشخصية في تطوير نظام الاسرة في تونس: يعتبر اصدار مجلة الاحوال الشخصية التونسية في سنة 1956 من ابرز المكاسب التي حققتها تونس في مسار التحديث والتطوير المنشود مع المحافظة في نفس الوقت على قيم الاصالة والاعتزاز بالموروث الحضاري والديني للمجتمع التونسي، وقد سعى المشرع التونسي من خلال هذه المنظومة القانونية الهامة التي ارتقت بعض مبادئها الى مرتبة دستورية الى الحفاظ على وحدة الاسرة وتكريس قيم التضامن والتعاون والتآزر بين الافراد بعيدا عن اية مظاهر للاقصاء او التهميش. وفي هذا الاطار نشير الىِ بعض المبادئ الاساسية التي كرستها هذه المجلة, وخاصة في ما يتعلق بتحرير المرأة وتطوير مؤسسة الزواج وحمايتها و منها: - سن مبدأ التساوي بين المرأة والرجل - منع تعدد الزوجات - اعتبارا المرأة أهلا لتزويج نفسها دون ولاية من احد - اشتراط وجود موافقة الام على زواج ولدها القاصر, سواء كان ذكرا او انثى -تحديد سن دنيا للزواج ووضع حد لتزويج القاصرات اللائي لم يتجاوزن سن المراهقة - تمكين البنت القاصرة المتزوجة من ممارسة حقوقها فيما يتعلق بحياتها الشخصية ومعاملاتها -اقرار التراضي مبدأ اساسا لقيام عقد الزواج، وفي هذا الصدد نصت المجلة المنقحة في 12 يوليوز 1993 على وجوب ان يعامل كل الزوجين الاخر بالمعروف وتعويض النص القديم الذي يقتضي ان على الزوجة ان ترعي زوجها وتطيعه فيما يأمرها به. إصدار القانون عدد 91 لسنة 1998 والمتعلق بنظام الاشتراك في الأملاك بين الزوجين كنظام تكميلي اختياري مع المحافظة على نظام التفرقة في الأملاك لمن شاء ذلك. ويعني الاشتراك في الأملاك بين الزوجين هو نظام تعاقدي اختياري عند إبرام عقد الزواج أو لاحقا بموجب حجة رسمية وهو نظام يشمل العقارات فقط دون المنقولات. ? إخضاع الطلاق إلى مراقبة القاضي وتشريك المرأة في إدارة شؤون الأسرة. ? إلزام الزوجة بالمساهمة في الإنفاق تكريسا لمبدأ واجب المساعدة والتعاون والتضامن المفترض توفره قانونيا داخل الأسرة، حيث نصت الفقرة الأخيرة من الفصل 23م.أ.ش?» وعلى الزوجة أن تساهم في الإنفاق على الأسرة إن كان لها مال»?. والمشرع التونسي في هذا الإطار قيد هذا الواجب بشرط توفر مورد مالي للزوجة. أي أنه واجب ثانوي يهدف كذلك إلى الإبقاء على الصبغة المطلقة والرئيسية لواجب الإنفاق المحمول على الزوج بصفته رئيس العائلة. كما تجدر الإشارة إلى ملاحظتين هامتين, الأولى: أنه في صورة عسر الأب أو وفاته يصبح واجب الإنفاق الكلي على الأبناء والعائلة، محمولا على الأم وهي في ذلك مقدمة على الجد في الإنفاق إذ كان لها مال بموجب أحكام الفصل 46 م.أ.ش. أما الثانية، فإن تشريك الزوجة بصفة فعلية وإلزامية في الاضطلاع بواجب المساهمة في الإنفاق إن كان لها مال لم يحرمها من حقها في التمتع باستحقاق النفقة أثناء قيام الرابطة الزوجية وعند انفصامها طبق مقتضيات القانون بوصفها مطلقة [نفقة العدة] - توفير النفقة للأبناء: أقر الفصل 46 جديد مدونة الأحوال الشخصية حق الأبناء في النفقة وبالتحديد حق البنت التي تنتفع داخل الأسرة بحق النفقة مع تمييز إيجابي إذ لم يحددها المشرع على غرار ما سنه لشقيقها حد في السن, فهي تتمتع بحق النفقة في كل الحالات حتى يتوفر لها الكسب, وفي غياب ذلك تستمر نفقتها على الأب إلى أن تجب على زوجها بشرط الدخول. ? إحداث صندوق النفقة لفائدة المرأة المطلقة وأبنائها, بحيث يتولى هذا الصندوق دفع النفقة أو جراية الطلاق المحكوم بها نهائيا لفائدة المفارقات وأبنائهن، وذلك في صورة تعذر تنفيذ الأحكام الصادرة في الغرض. - توسيع حالات إسناد المرأة الجنسية التونسية لأبنائها من أب أجنبي. * انعكاسات هذا الإطار على وضعية المرأة - جعل يوم 13 غشت من كل سنة عيدا وطنيا للمرأة وهو الذي يصادف إصدار مجلة الأحوال الشخصية في سنة 1956 . ? تطور منظومة الرعاية لصحة الأم والطفل في التقليص من وفيات الأطفال والنساء الحوامل أثنآء الولادة وارتفاع مؤمل الحياة عند المرأة. ? تكريس المساواة بين النساء والرجال في حق العمل وفي الأجر وفي التغطية الاجتماعية وفي الرعاية الصحية وخص المرأة الحامل والمرضع بحماية تحفظ لها صحتها وأمومتها. - إقرار مبدأ المساواة بصفة عامة بين الجنسين في حق التقاعد وفي فرص الارتقاء وفي الضمانات عند الطرد, وجاءت القوانين التونسية في مجال الشغل والتغطية الاجتماعية مطابقة لأغلب المعاهدات الدولية التي سنتها المنظمة العالمية للشغل وصادقت عليها البلاد التونسية. - فتح عالم الشغل أمام المرأة التي لم تترك مجالا من مجالات النشاط الاجتماعي إلا واقتحمته وتقلدت المرأة مختلف أنواع الخطط والمهن وأثبتت فيها كفاءة وجدارة ساهمت بشكل فعال في تطوير العقليات وتخليصها من العوائق المحقرة لشأن المرأة. - اقرار مبدأ الأهلية للقيام بالعقود المدنية والإجراءات القضائية ومن حيث الذاتية المالية للمرأة ومنحتها القوانين حق الانتخاب والترشح الى مختلف الخطط. - ضمان حرية المرأة في التنقل والسفر وفي تحمل المسؤوليات النيابية والحكومية وفي المشاركة في الحياة الجمعياتية و في الأحزاب والمؤسسات السياسية المختلفة. 3 - تعزيز منظومة حماية حقوق الطفل في تونس: يمثل الأطفال شريحة هامة من المجتمع ومكون أساسي من مكونات الأسرة في تونس وتجمع جل القوانين الوطنية على ضرورة حماية الطفل وضمان حقوقه وتأهيله للاضطلاع بدوره المستقبلي، عبر توفير بيئة سليمة للتنشئة وضمان حقه في التعليم وتنمية طاقاته الإبداعية ومن أهم المبادئ والقوانين الصادرة في الغرض نشير إلى: - إصدار قانون يتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين أو مجهولي النسب. - إقرار مبدأ مجانية ووجوبية التعليم. - تكريس مبدأ التساوي بين البنين والبنات في حق التعليم وجعله إجباريا ووحد بين البرامج والخيارت المفتوحة أمام الدراسين وعمت المدارس المختلطة للبنين والبنات وبذلك زالت مظاهر التمييز بين الجنسين في مستوى التعليم وتساوت نسب التمدرس بينهما. - تجريم تشغيل الأطفال أو الاعتداء عليهم. - المصادقة على اتفاقية العمل الدولية عدد 138 التي تحدد السن الأدني للقبول في العمل. - جعل يوم 11 يناير من كل سنة عيدا وطنيا للطفولة - اصدار يوم 9 نونبر 1995 مجلة حماية الطفل التي بوأت تونس مكانة مرموقة بين سائر الدول واصبحت مثالا يحتذى به في مجال رعاية الطفولة وصيانة مكاسبها وضمان حقوقها. - بعث مرصد الإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات حول حماية حقوق الطفل. ويذكر أن تونس تضم نسيجا جمعياتيا ومؤسساتيا متنوعا، يتمثل في المؤسسات التعليمية,توجد المؤسسات التربوية الترفيهية ورياض ونوادي الأطفال، والمراكز الإعلامية الموجهة للطفل، ومركبات الطفولة والمراكز المندمجة للشباب والطفولة، بالإضافة الى عدد هام من الجمعيات والمنظمات التي تحتضن الأطفال والشبان خارج أوقات الدراسة وتعاضد مجهود الدولة في الإحاطة بالأطفال وتمكينهم من أنشطة تربوية وترفيهية مفيدة وتساعدهم على تطوير قدراتهم وتعزيز مواهبهم وحثهم على الابتكار والخلق والإبداع. وفي الختام يجدر التأكيد على أن ثورة الكرامة في تونس ستشكل محطة هامة في مجال النهوض بحقوق المرأة والأسرة وتقوية روابط التآزر والتعاون والتكاتف بين المرأة والرجل في كافة الميادين بفضل تضامن المجتمع وانفتاحه على قيم الديمقراطية والعدالة والتنمية. * مستشار الشؤون الخارجية بسفارة تونس