أطلق عدد من المثقفين والفعاليات الأمازيغية نداء «تيموزغا من أجل الديمقراطية «، أعلنوا فيه عن عدة مطالب اعتبروها شرطا للتجاوب مع الدستور المقبل، وفي حالة عدم الاستجابة لها «سنساهم - يقول النداء- في الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء المرتقب» لنتوقف عند مضامين هذا النداء، الذي يعكس بشكل واضح بأن الأمر هو أبعد بكثير عن الاختلاف حول دسترة الأمازيغية كلغة رسمية. فإذا كان من المحتمل جدا أن يلبي الدستور المقبل هذا المطلب، خاصة وأن خطاب 9 مارس وضع الأمازيغية في صلب الهوية الوطنية مما يؤشر على إرادة عليا لتعميق وتطوير كل المكتسبات والإنجازات المحققة منذ خطاب أجدير التاريخي ، فان مطالب بعض الفعاليات الأمازيغية لا تقف عند هذه الحدود المتعلقة بالتدبير الديمقراطي للتعدد اللغوي، وانما تتجاوزها إلى ما هو أبعد من دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية . في هذا النداء? الوثيقة نقف عند مقاربة سياسية وايديولوجية للمسألة الأمازيغية، تكشف بوضوح عما وراء دعوة بعض الفعاليات الامازيغية الى دسترة اللغة الامازيغية لغة رسمية في الدستور الجاري إعداده. فليس هذا المطلب - داخل تلك المقاربة - سوى جزء من رهان أكبر وحلقة من سلسلة حلقات استراتيجية أوسع . إن الأمازيغية في هذا النداء ليست مشكلة ثقافية ولغوية فقط ، بل هو بالدرجة الاولى مشكلة كيان تم» تذويبه».. هو الأصل ..وفيه وجدت وتحققت كل القيم التي يناضل المغاربة اليوم من أجلها، من حرية ومساواة وعدل، والتي: «هي بالنسبة لنا معشر الأمازيغ قيم ثقافتنا الأصلية، وجوهر هويتنا وكياننا الحضاري الذي انحدر إلينا عبر الحقب التاريخية... قبل أن يتم اختزال هويتنا في بعد وحيد داخل الدولة الوطنية المركزية» مفاد هذا القول، أن الأمازيغ كيان أو شعب، هو الأصل، وإليه تجب العودة عن طريق رفع الظلم والحيف الذي لحقه من ما يعتبره النداء «التوحيد القسري على أساس مرجعيات أجنبية في التفكير والعمل»؟ !وعليه، فنضال «معشر الأمازيغ» اليوم، ومساهمتهم في الحراك السياسي والاجتماعي الحالي، منطلقه هو أنه «لا حياة للأمازيغية بدون حرية وبدون مساواة وعدل»، فهذه المطالب الشعبية للمغاربة لا تنتمي إلى «ثقافة مستحدثة وردت علينا خارج مجالنا الثقافي (الأمازيغي) الخصوصي» ! إنها سلفية أمازيغية في أدق وأفصح التعابير، ونزعة أصولية، تتطلع إلى المصدر النقي «للكيان الأمازيغي» قبل أن تفسده وتستوطن أرضه العروبة بكل ما جرته عليه من «أشكال الظلم والتهميش والتحقير، استهدفت الكرامة والكيان» ! باسم مفهوم اختزالي للوطنية البعدين العربي والاسلامي منذ الثلاثينات من القرن الماضي، حيث جرت «إذابتنا في النسيج العربي، ومحو كياننا، وصهر خصوصيتنا العريقة حتى نصير جزءا من وطن كبير، يمتد من المحيط إلى الخليج» ومن نتائج ذلك يقول النداء: «خنق بلدنا في رهان حضاري وحيد هو الرهان المشرقي» ...إلخ ! ويسهب النداء في إبراز أشكال ومظاهر الظلم والحيف في مختلف المجالات الذي لحقت بمعشر «الأمازيغ»، وهي في الواقع مظالم تعني جميع المغاربة ، بغض النظر عن أصولهم ، في المدن والقرى والجبال، ليخلص أصحاب النداء إلى تساؤل غريب وخطير «هل نحن غرباء، لاجئون أو مستعمرون، هل نعيش احتلالا من طرف أقلية ( !!)لا تبالي بهويتنا وثقافتنا...»،معتبرين ومتهمين المؤسسة الملكية « بالانحياز إلى طرف دون آخر، بل لعائلات بعينها ( كذا) والذي أصبح في تزايد في الآونة الأخيرة « ومن هذا الاتهام تفوح رائحة عنصرية كريهة لا تحتاج لا تخطئ أنفا . ولتجاوز هذا الوضع: وضع الإقصاء والتهميش «والشعور بالحكرة»، يطالب النداء بالاستجابة في الدستور المقبل وفي السياسات العمومية للمطالب التالية: - «التنصيص على الأمازيغية في تصدير الدستور ضمن أبعاد الهوية الوطنية، ووضع البعد الأمازيغي في صدارة العناصر الأخرى، لكون الأمازيغية هي الهوية الأصلية لسكان المغرب...» بناء على ذلك، وتأكيدا على الأصل الأمازيغي للهوية، يطالب النداء بإبعاد كل العبارات المشوشة عليه، والماسة بصفائه، وذلك بحذف كل ما هو على «نقيضه «كعبارة «المغرب العربي» وتعويضها بتسمية شمال إفريقيا»! وإلى جانب ذلك، ينبغي أن ينص الدستور على اللغة الأمازيغية كلغة رسمية بما يضمن حمايتها وتداولها في مختلف مناحي الفضاء العمومي، و«إنهاء احتكاره من طرف اللغتين العربية والفرنسية». - تشذيب الخطاب الرسمي من كل العبارات الإقصائية التي تصنف المغرب ضمن الدول العربية أو «الوطن العربي» احتراما لمشاعر المغاربة الأمازيغيين» ! ويضيف النداء، في دعوة إلى انسلاخ المغرب عن انتمائه العربي والإسلامي إلى «التفكير في مغادرة الجامعة العربية «، والاكتفاء في العلاقات الخارجية مع إفريقيا وأوربا وآسيا، لأن الانتماء المشرقي- في نظر النداء «فيه تهديد لمصالح المغرب وأمنه بسبب الإيديولوجيات الهدامة التي مصدرها الشرق الأوسط والخليج» ! هي دعوة صريحة إذن لنزع البعد العربي عن الهوية الوطنية ،باسم أسطورة الأصل، و التخلي عن الانتماء إلى الحضارة العربية والإسلامية وفضائهما التاريخي والجغرافي وعمقهما الوجداني، ألسنا أمام نزعة «تمزيغية»، إقصائية بقناع الدفاع عن تعددية الهوية؟ ! إن مفهوم الأصل الذي تتأسس عليه هذه المطالب، والذي هو مفهوم ميتافيزيقي لا واقعي، ولا يؤمن بأن التاريخ سيرورة وقطائع، يدفع أصحاب هذا النداء إلى السقوط في نزعة إيديولوجية عرقية وعنصرية، مؤسسة على أساطير وأوهام حول الأصل الغابر في التاريخ السحيق والذي تجب العودة إليه، هي إيديولوجيا لها شعار واحد «لسنا عربا»، وبالتالي فلا بديل عن التحرر من الحيف والشعور بالغربة والاحتلال إلا باستراتيجية « للتمزيغ» ظاهرها الدفاع عن الحقوق الثقافية واللغوية، وجوهرها مناهضة العروبة والانتماء إلى فضائها الحضاري سواء كتاريخ، أوذاكرة ووجدان وامتداد جغرافي. ووفق ذلك وكنتيجة منطقية ، على المغرب أن يفك ارتباطه بقضايا العرب، بما فيها قضيتهم الرئيسية التي يعتبرها كل المغاربة قضية وطنية ألا وهي القضية الفلسطينية. لقد قاد هذا المنطق المتطرف ضد العروبة عددا كبيرا من الفاعلين الامازيغيين المغاربة، يساريين ومحافظين رجعيين ، إلى الهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإنشاء جمعية صداقة أمازيغية إسرائيلية، كما دفع بعضهم إلى اعتبار القضية الفلسطينية مجرد قضية إنسانية، نازعين عنها بعدها القومي العربي والاسلامي، فأي تضامن مع الفلسطينيين لا يجب أن يخرج عن هذا الإطار ( قيل هذا الكلام في أوج المجازر الاسرائيلية في غزة ). إن تاريخ المغرب ماضيا وحاضرا ومستقبلا، يثبت بأن مصالحه وأمنه، خاصة في عصر التكتلات الجهوية والإقليمية، يرتبط وثيق الارتباط بانتمائه العربي الإسلامي اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وإنسانيا...، كما أنه يثبت بأن المغاربة عموما اعتبروا - وما زالوا-المشرق العربي بؤرة حضارية وثقافية إشعاعية، كان لها أثرها الكبير على تكون النخب الوطنية الثقافية منها والسياسية طيلة قرون، عبر أعلامه الكبار في الفلسفة والفكر والأدب وفي مختلف المجالات الإبداعية الإنسانية... إن الانتماء العربي يؤسسه الوجدان الواحد، واللغة الواحدة، وتفرضه المصالح المشتركة، والمصير المشترك، أليس ربيع الثورات العربية الحالي، الذي انطلق من تونس وامتد إلى كل بقاع الوطن العربي، دليلا ساطعا على ذلك، وحجة ضد حيثيات دعوات «التمزيغ» هنا، و»الفرعنة» هناك؟ وفي متابعة مطالب النداء «الوثيقة»، نقف عند بيت القصيد أو مربط الفرس - كما يقال- عندما يدعو إلى «الحرص على تمثيلية الأمازيغيين في المجالس واللجن الوطنية التي يتم إنشاؤها من أجل وضع خطط وطنية ... وذلك بالتساوي في العدد مع مواطنيهم المنتسبين إلى العروبة وإنهاء احتكار عائلات معينة للمناصب الديبلوماسية ( !!!) وإنهاء الحجر على الأمازيغيين في الجيش والسماح بترقيتهم...إلخ ! ) إنها مطالبة صريحة ب «كوطا « لتحقيق المساواة بين الأمازيغيين والعروبيين، هي ديمقراطية «المحاصصة» التي من أجلها صيغ هذا النداء، ديمقراطية تقوم على تقسيم المغاربة، وعلى جعل المكون الأمازيغي للهوية الوطنية في تضاد وصراع مع المكون العربي والإسلامي لها. ترى كيف سنميز بين الأمازيغي والعروبي في معيار التمثيلية ،خاصة وأن جل الأمازيغيين المغاربة يعتبرون بوعي أو لا وعي أنهم «أمازيغيون عرب» بحكم العيش المشترك على مدى التاريخ والوجدان الواحد والذاكرة الموحدة؟، فهم لا يعيشون «الاغتراب الذهني» و»الفصام النفسي» لدعاة الأصولية الأمازيغية... إن السيرورة التاريخية للمغرب هي سيرورة امتزاج وانصهار، عرفت قطائع وتحولات في كل المستويات، هي التي نسجت هويته الوطنية في تركيبتها القائمة، وصقلتها مواجهة المغاربة على اختلاف أصولهم الأمازيغية والعربية والإفريقية والأندلسية لتحديات الغزو الخارجي والاستعماري، ففي غمرة هذا التاريخ الكفاحي الطويل والمتواصل تلاقحت عناصر الهوية الوطنية وتشكلت متكاملة المكونات والابعاد، وظلت دائما مستهدفة حتى من طرف جزء من مكوناتها ، وخاصة من بعض التيارات الامازيغية باسم حماية التنوع الثقافي ، الذي هو حق يراد به أباطيل، ومصالح ضيقة لنخب أمازيغية ثقافية عديمة التأثير في المجتمع، وضيقة الأفق.... وللنقاش جولات أخرى.