التفكير في الصحوة التي تعرفها المنطقة الجنوب -متوسطية منذ دجنبر 2010 والتي أخذت مظاهر شتى، فيها أوجه تشابه ومؤشرات اختلاف انطلاقا من تونس ومرورا بمصر وبمخاضات ليبيا وكذلك بنوعية المطالب والحراك الذي ميز المغرب، تفكير بناء. إنه تفكير ملزم لكل مجهود تأمل في التحولات التي نعيشها والتي ستبصم لا محالة الغد القريب. إن ما تشهده منطقتنا يظهر أن الأمر يرتبط إلى حد بعيد بميلاد مساهمة جيل جديد من الشباب وبروح جديدة أيضا في معترك الفعل السياسي. جيل جديد يطرح مطالب ضد ممارسات وتوجهات يعتبرها تجسد الاستبداد السياسي والاقتصادي. ومطالب تفصح عن نفسها بشكل غير معهود من أجل التجسيد الملموس والفوري للحرية والديمقراطية والكرامة. انبثاق حركات تثوق نحو مناخ ديمقراطي ملموس إن هذه المجموعات من الشباب والتي أطلق عليها اسم «حركة 20فبراير» بالمغرب و»14 يناير» في تونس و»25 يناير» في مصر، مجموعات انخرطت إما في منطق التغيير والذي سمي أحيانا بمنطق الثورة الذي يطالب برحيل شخص وأحيانا المنظومة السياسية القائمة بكاملها كما تجلى ذلك في تونس ومصر, وإما اندرجت تحت منطق الإصلاح .وهي تنادي وتؤجج المطالبة بإصلاحات عميقة مثل ما هو الشأن في المغرب. ومن الطبيعي، هنا وهناك، إن هذه الحركة وهي تقتسم وتشترك في لحظة إيناعها بل وتصدرها لميولات وتطورات المشهد المجتمعي وليس السياسي وحده، حركة تخترقها تناقضات وتتخللها تباينات بالجملة وتفصح اليوم وقد تفصح غدا عن توجهات جديدة ككل الحركات التي أثثت حراكات المجتمع وأثرت في مساره بشكل أو بآخر. إنها حركة تمتاز بوجه مشرق من حيث ما ميز ظروف انبثاقها من نعومة متصاعدة ولباقة في طرح المطالب ومن نزعة واضحة في تفادي المواجهة وعدم اختلاق ما يؤججها. فالطابع السلمي كطابع بين وكميزة غالبة, أضفى عموما على هذه الحركة الشبابية الجديدة جاذبية مؤنسة ومهد لها الانتفاع من قنوات عريضة للتعاطف و لاستيعاب وتفهم مواقفها المعلنة. ولذلك برزت وترسخت لدى أوساط عريضة من الرأي العام تقييمات ومواقف إيجابية علينا تسجيلها ونحن نساهم في تحليل أسباب هذا الانبثاق و مقومات الدفع بإيجابياته. نسجل أولا أن هذا الشباب وفي جزء كبير منه، شباب يشعر أنه ضحية الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي, لأنه شباب يعاني من البطالة وخاصة بطالة تظل غير مفهومة وغير مستساغة في مجتمعاته وهي بطالة الخريجين. وانطلاقا من هذا الوضع يطرح هذا الشباب بنوع من المشروعية قضية ونموذج التوزيع وبشكل عفوي, ولربما بتلقائية جديدة على مشهدنا السياسي, فإنه يطرح بالتتابع إشكالية نموذج التدبير السياسي. والمثير للانتباه في نفس الوقت هو أن هذا الجيل له أكثر من غيره ارتباط بالعولمة وخاصة من الزاوية المباشرة لاستعمال آلياتها في التواصل؛ فهو جيل يعرف ويتتبع ما يحدث عند الآخرين وتمكنه من هذه الآليات خول له إمكانيات هائلة في التعرف على ما يحدث في مختلف بقاع العالم وللدخول في معمعة التواصل التي تيسرها الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت. دينامية المجتمع و العنصر الديمغرافي ومن هنا التفسير الموضوعي الذي يتعين إعطاؤه لما يحدث ولما هو آخذ في التبلور أمام أعيننا. فمن طبيعة الحال العفوية في التاريخ قد تميز لحظة معينة ولكن لا تعفيها من الارتباط باللحظات التي سبقتها والتي ستتلوها. ففي نفس الوقت كل ما يحدث هنا في عالمنا هذا متداخل الارتباطات لأن أسسه وأسبابه الخفية والمعلنة عميقة لها صلات مباشرة وغير مباشرة بالتشكل الحالي للعالم طبعا وبالحركية الداخلية والتجدر الذي يميز نوعا من المطالب في كل بلد و داخل كل جهة من جهات العالم. ولعل التفسير الديمغرافي أول عنصر يتبادر إلى الذهن لكونه أولا عنصرا أساسيا في تاريخ البشرية ككل, حيث شكلت التحولات الديمغرافية من خلال الكم أي التزايد الديمغرافي في حد ذاته ومن خلال الكيف المرتبط بمستوى التكوين وبتحسن الأوضاع الصحية عوامل نافذة في إحداث تطورات متلاحقة وتحريك تغيرات المجتمعات. لذّلك يعتبر التفسير الديمغرافي عنصر إيضاح لكثير من التحولات التي عرفتها البشرية. فهذا التفسير هو الذي أنار تشكل العناصر المؤدية للثورة الصناعية وهو الذي أوضح مكامن الانتقال من هيمنة النظام الفيودالي في أوروبا نحو أنظمة برزت فيها البورجوازية كقوة رائدة في مسلسل هيكلة دول المركز الرأسمالي. وهو أيضا التفسير الذي يسعفنا في فهم كيف ولماذا أخذت تحولات بريطانيا العظمى منحى الإصلاح فيما اتجهت تحولات فرنسا منحى الثورة بما ميز وعلى الدوام النموذج الانجليزي عن النموذج الفرنسي. والعنصر الديمغرافي من جهة ثانية أساسي لأن المنعطف الديمغرافي واضح الآن في المنطقة العربية وخاصة المتوسطية منها. ففي كل بلدان هذه المنطقة على اختلافها العنصر الديمغرافي آخذ في التأثير وفي الدفع نحو عدد من التحولات. ولذلك نعتبر أن المعطى الديمغرافي بكثافة انعكاساته وقوة وقعها على النسيج الاجتماعي ككل لا يترك مجالا للاستثناءات، العرضية منها والدائمة، فهو اليوم معطى موحد في كل هذه البلدان, حيث 50% من السكان لهم ما دون 30 سنة. ومعنى هذا أن لهم حاجيات تتولد عنها ضغوطات على الطلب في مجالات مستلزمات وتكاليف الطفولة والمراهقة والشباب من تعليم وتطبيب وشغل وترفيه. وتجد أهمية ونوعية العنصر الديمغرافي امتدادها في كون 35%من ساكنة هذه البلدان تتراوح أعمارهم بين 15 و35 سنة وهي خاصية لها آثارها وانعكاساتها الفورية و التدريجية مع التطور الذي وقع ولو من الناحية الكمية في مجال التعليم. كما أن انغلاق الأسس والمصادر التقليدية لخلق فرص الشغل يظهر أن التغيير الديمغرافي، كما وكيفا، تغيير يمكن أن يجعل هذا الجيل بعينه يطرح مطالب ملحة ومستعصية في الوقت الذي تترسخ عنده طموحات مرتبطة بالانفتاح والعولمة. وبطبيعة الحال هذا لا يعني أننا نجزم بأن كل التحولات ترتبط لزوما ومباشرة، أوتوماتيكيا أو ميكانيكيا، بتغيرات ديمغرافية معلومة. فالتغيرات التي أدت إلى زوال النظام السوفييتي في روسيا وفي أوروبا الشرقية سنة 1989 لم تترتب مباشرة عن الضغط الديمغرافي, بل ارتبطت بجمود البنية السياسية ونتائجها على البنية الاقتصادية بالمقارنة مع البلدان التي كان فيها اقتصاد السوق مترسخا وسائدا وارتبطت كذلك بتفاوتات في المجال الجيواستراتيجي (حرب النجوم]. كما أن هذا الجيل الذي يبادر إلى طرح مشكل مجتمعي وينبه لانعكاساته على الحاضر والمستقبل جيل جدير بالشكر والتنويه من طرفنا نحن الذين ينتمون إلى أجيال سابقة. فالشكر له هو بمثابة إعلان عن تقدير مفعم بالعطف وبالتشجيع على الارتقاء بطروحاته و لذلك نتوجه إليه بعيدا عن كل تعالي أو نصح أبوي, لنقول له بمنطق الحوار وتبادل الأفكار والتجارب انه بقدر ما نجح في طرح ضرورة التحولات وإبراز استعجالية التغيير، بقدر ما يجب أن يأخذ بعين الاعتبار دروس التراكمات النضالية التي ربما لم تؤد إلى تغييرات جذرية وعميقة, ولكن في نفس الوقت كان لها تأثير في تطور البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والذهنية أيضا في المغرب. نحو قراءة موضوعية و مصاحبة هادئة ملاحظتي هاته عبارة عن دعوة لقراءة موضوعية لانحسارات وإخفاقات وكبوات التراكمات النضالية السابقة ليس في اتجاه تعميق النقد والنقد الذاتي بشأنها, بل لأن من شأن هذه القراءة وفي هذه اللحظة التاريخية بالذات أن تسعفنا في التذكير بضرورة الخروج من مرحلة الطرح والاحتجاج إلى مرحلة وضع المشاريع والبناء الملموس للمشاريع. يجب أن نشكر كلنا هذه اللحظة التاريخية التي ارتبطت بصحوة جيل جديد لأنها محطة من المحطات المشرقة لنضالات الشعب المغربي وتلاقح أجياله ولأنها تبشر بأخذ قضايا المستقبل مأخذ الجد. فهي لحظة تاريخية طبعا لأنها لم تقف عند إشكالات ترتبط مباشرة بتقنيات صياغة وثيقة دستورية جديدة أو إصلاح فضاءات إستراتيجية في دستور 1996 بل تميزت بطرح مدوي لمعضلة محاربة الفساد وبالبحث عن تناول متجدد وبناء لتجاوز إشكاليات موقع النساء في المجتمع وسبل تجسيد الاعتراف بالمكونات الثقافية للأمة وخاصة العربية و الأمازيغية. لذلك سيكون على الأجيال السابقة وهي تستوعب وتثمن طروحات « حركة 20فبراير» أن تقوم بدورها كاملا في مؤازرة و مصاحبة الانتفاضة الشبابية حتى لا تبقى الأشياء والطروحات مرتبطة بجيل وحده وببعض فئاته ومجموعاته و تنعزل أو تنكفئ على نفسها بحدود الجيل ومشاغله الخاصة. فقد أظهرت نتائج عدد من الحركات الاجتماعية أن العمل والتحرك حينما تبقى منحصرة فهي لا محالة ستكون عرضة لكل محاولات الاحتواء والتدجين وقد تنمحي أو تقبر جوانبها المشرقة ولا تبقى ظاهرة ومعروفة عنها سوى اكليشيهات حول جوانب شكلية و حول مظاهر الاصطدام والتنافر والاحتجاج . فهنا تطرح قضية التضامن بين الأجيال، التضامن بمفهومه العريض. وهي قضية نستخلصها من دروس الحركات التي اشتهرت في نهاية الستينات سواء بالنسبة لأحداث براغ و حركة مايو 1968 بفرنسا أو الثورة الثقافية الصينية. فالحدود التي ارتطمت بها هاته الحركات الثلاث الشهيرة كلها ترجع إلى عدم الارتباط بين الأجيال, حيث أنه في هذه النماذج كل شيء تغير صوريا ولا شيء تغير في العمق. ففي مايو 1968 مثلا ورغم الحركة الاحتجاجية العارمة ورغم مظاهر ر فض مجتمع الاستهلاك كمجتمع استلاب للعلائق البشرية ,فلم تترك هذه الحركة سوى بصمات على شكل نقد للحضارة الغربية المادية لكن البنيات السياسية للجمهورية الفرنسة الخامسة صمدت أمام الخيار الثوري الذي بقي مرتبطا بشكل متمايز لصفوف الشباب وحده و لم يستطع تجاوز اختراق مرحلي للشباب الجامعي على وجه الخصوص. وإذ لا يسعفنا المقام هنا في عرض شامل للأسباب التي لم تجعل النجاح يحالف الحركات الاجتماعية التي لا تعي مخاطر الانكفاء على الذات والدخول في وهم القدرة على الإشعاع من تلقاء النفس, نكتفي بالتذكير بأن كل توجه وكل سلوك يرفض الترابط الموضوعي بين الأجيال يؤدي إلى التراجع ثم إلى التقوقع. ففي ظل نسيج اجتماعي متعدد المكونات ومتنوع المشارب و متناقض الأهداف الآنية والمستقبلية يسفر عدم البحث عن ترابط وتمفصل متقد وبناء بين الأجيال إلى فوات فرص التلاحم من أجل تحقيق أهداف مشتركة في لحظة تاريخية معينة. والارتباط بين الأجيال كما استنتجناه وبكل تواضع من معاينة أحداث وحركات اجتماعية كبيرة في الخارج كما في مسار بلادنا هو الربط بين مسلسل التراكمات النضالية ومسلسل الانتفاضة السلمية والحضارية والصحوة التي جسدها شبابنا في منطقتنا كما في مغربنا العزيز. وهذه ضرورة ملحة وحيوية اليوم بالنسبة للبلدان التي حاولت تغيير نظامها مثل تونس ومصر ونتمنى ذلك أيضا للشقيقة ليبيا. إنها بلدان تتلخص إشكاليتها المركزية المطروحة بالأساس في خلق الوسائط السياسية على شكل هيآت وأحزاب سياسية لأنه بدون هذه الوسائط لا يمكن للانتفاضات والثورات, بل يستحيل عليها أن تصبح ديمقراطيات. أما بالنسبة لبلادنا والتي لها تقاليد في مضمار وجود تعددية سياسية لم تكتمل نتائجها بفعل طول فترة الانتقال الديمقراطي وانحساراتها , فالرهان هو إعادة الاعتبار للعمل السياسي الهادف والمنظم. فيجب أن يكون هادفا إلى إنتاج وابتكار البرامج وسبل الإنجاز التي تقدم كمقترحات للمشاريع المجتمعية أمام الاختيار الحر للمواطنات والمواطنين. ويتعين أن يكون منظما بحكم منطق تمثيلية فئات المواطنين وحرية انتمائهم ومساندتهم. هكذا ستكون إعادة الاعتبار للعمل السياسي مدخلا لإنضاج ترسخ دمقرطة العلاقات الاجتماعية والسياسية وأرضية تتوطد من خلالها إمكانيات عمل الأحزاب الحقيقية التي خرجت من رحم المجتمع وانطلاقا من ذلك طورت قدراتها ومؤهلاتها على إنتاج وصقل مشاريع سياسية واجتماعية. وكل ما نأمله ونتمناه في أول الأمر هو أن يستطيع الشبان والشابات الذين أخذوا المبادرة التوجه بعد تفكير واقتناع لتيسير سبل الانخراط في العمل السياسي المنظم والمسند بمشروع مجتمعي واضح كمعبر نحو تحمل المسؤولية داخل الحزب الذي يرتضون العمل ضمن صفوفه. إن المطروح في بلادنا هو دعم الربط بين الإصلاح الدستوري المرتقب وعمليات وبرامج الإصلاح السياسي. أي إصلاح النص الدستوري بتعديلات وتنقيحات وإضافات نوعية وفي نفس الوقت إصلاح الحقل السياسي من أجل ضمان قراءة سليمة للنص وأكثر من ذلك خلق الظروف والتربة السليمة لتطبيقه لأن الرهان المطروح على المنطقة العربية وخاصة المتوسطية بكامل أجزائها اليوم، ونحن منها، هو كيف الانتقال من فترة طرح المطالب والتعريف بها والتعبئة حولها إلى فترة الجهاد الملموس. فالبناء اليوم في المغرب هو بناء منظومات سياسية قوية بالالتزام بتمثيل جزء من المجتمع والدفاع عن طموحاته، وقوية كذلك بالقدرة على الانفتاح على القوى السياسية الأخرى والتعامل معها من منطلق الانفتاح والانسجام والتشبع بمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان. وعلى مستوى آخر نأمل في أن تتمكن بلدان المنطقة من حل مشاكلها الاقتصادية والمالية أي خلق شروط استنهاض إمكانيات الزيادة في الثروات وفي تنويع مصادرها على أساس مزيد من الاجتهاد والابتكار والعمل عوض الاعتماد والركون إلى مقاربات الريع وذلك بهدف ضمان تحسين الأوضاع المادية في تناغم مع إمكانيات بلداننا ومتطلبات مناعتها والحفاظ على البيئة وحقوق الأجيال المقبلة. وأيضا وفي مستوى ثالث تطرح وبإلحاح القضايا المرتبطة بحل إشكاليات العلاقات بين كياناتنا وباقي العالم, أي التفاوض مع العولمة ومراكزها الموجهة والمؤثرة من خلال التحديات والرهانات التي تطرح في سياق تحولات المعمور و مخاضاته الجيوسياسية والاقتصادية. وأخيرا ومن زاوية رابعة وعلى مستوى داخلي لكل بلد تتعمق الحاجة إلى الانكباب بشكل معبأ ومستوعب من طرف قوى المجتمع على حل الإشكاليات الاجتماعية المرتبطة بالشغل والسكن والتعليم والصحة, أي عمليا القضايا التي يبرز من ثناياها مجهود معالجة اختلالات توزيع المداخيل وتوفير سبل الكرامة الاجتماعية والسعي نحو توزيع متكافئ للثروات. إذن بلدنا ومنطقتنا تعيشان على إيقاع ترقب إصلاحات عميقة. إنها تعيش لحظة لقاء بموعد تاريخي، جيلها الصاعد يطالب بالتغيير المنتج للحرية والكرامة والتقدم ويجب مصاحبته من خلال خلق شروط نجاح الإصلاحات وعبر تيسير سبل انخراطه في مشاريع التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ليحمل باقتدار مشعل بناء المستقبل.