يتزايد يوميا عدد مقاولات النقل الطرقي للمسافرين التي ينهكها نظام الرخصة «الكريمة» وتضطر إلى التوقف عن مزاولة نشاطها إن لم تجد نفسها عرضة لمتابعات قضائية. المعاناة تتزايد وتحتد لأن نظام «الكريمة « صمد وانتصر على منطق «التحرير» الذي انطلق في مارس 2003 بالاقتصار، في مرحلة أولى، على قطاع النقل الطرقي للبضائع على أن يشمل فيما بعد قطاع نقل المسافرين، فمواكبة الحداثة والعصرنة التي اعتمدت في صياغة القوانين الزجرية لم تجد طريقها إلى حماية المقاولين الصغار والمتوسطين الذين لم يعودوا يعانون فقط من صعوبات توفير واجبات كراء الرخصة «الكريمة»، التي غالبا ما تزيد عن 30 ألف درهم في الشهر، وإنما صاروا يعانون كذلك من توجه كبار المقاولين نحو تقليص عدد الحافلات المرخص لها بهدف رفع نسبة الامتلاء لعل ذلك يساهم في تحقيق التوازنات المالية، فحل مشاكل المقاولات الكبرى غالبا ما يتم على حساب المقاولات الصغرى، خاصة أن الوقائع اليومية تحمل ما يؤكد أن نفوذ مالك «الكريمة» يمتد ليطال حتى الإفلات من العقوبات. أين نحن من ديباجة القانون 16.99 الصادر بالجريدة الرسمية بتاريخ 13 مارس 2000؟ ماذا تحقق من قرار وضع نقل شمولي ومنسجم مع حاجيات مستعملي النقل في الظروف الاقتصادية والاجتماعية الأكثر نفعا ونجاعة ويساهم في تعزيز الوحدة الترابية والتضامن الوطني؟ لماذا تأخر موعد وضع إطار تشريعي يدمج مختلف أنواع النقل الطرقي ويضمن لها تطورا منسجما في إطار من التكامل والمنافسة الشريفة من خلال إقرار مقتضيات تدريجية في القانون المنظم للنقل الطرقي تهدف إلى تأهيل هذا القطاع للاندماج في نظام شمولي للنقل بجميع مكوناته؟ مرت حوالي 11 سنة بالتمام والكمال على دخول قانون التحرير حيز التطبيق، ولكن إلى يومنا هذا لم تتخذ التدابير التنظيمية الكافية لإرساء الشروط الضرورية لانطلاق خطة منسجمة وناجعة للنقل الطرقي في بلادنا. الإبقاء على نظام «الكريما» شكل عائقا حقيقيا أمام تحقيق الأهداف التي حددتها ديباجة القانون في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحال دون إعداد مخطط متوازن للتراب الوطني يأخذ بعين الاعتبار حماية البيئة واتساع المبادلات الدولية، فبعد 11 سنة من الخطب والحملات الإعلامية والتواصلية، لا يزال أرباب مقاولات حافلات نقل المسافرين «الكيران» يتحملون شهريا كلفة «الكريمة» التي تدفع للحاصلين على الرخصة بمداخيل شهرية لا تقل عن 30 ألف درهم مقابل وصل كثيرا ما يكون من نفس العينة التي تدفع لمستأجري الشقق السكنية، ويكون بطبيعة الحال خاليا من الشروط التي تجعل منه سندا قانونيا يعتد به. قدر المهنيون عدد الحافلات التي تخضع لنظام «الكريما» بما يزيد عن 10 آلاف، وهذا معناه أن أرباب المقاولات يدفعون للمستفيدين من الرخص ما لا يقل عن 300 مليون درهم أي 30 مليار سنتيم، وكل ذلك باسم الاعتراف للمقاومين ولمن أسدوا خدمات جليلة للوطن بما قاموا به، وقد كان بإمكان المهنيين أن يدلوا لنا بالمزيد من التفاصيل لولا أن هيمنة الإدارة وغياب الشفافية في التعامل يفرض عليهم تفادي التعرض لإجراءات انتقامية, غياب الشفافية يفسر عدم إدراج لائحة المستفيدين من «الكريمات» في بوابة وزارة التجهيز والنقل ويحول دون تمكن الدولة من تحصيل المستحقات الضريبية على قيم كراء الرخص، ومع أن هذا الوضع يندرج عمليا في منطق اقتصاد الريع ويشكل عائقا حقيقيا أمام النهوض بقطاع النقل العمومي الذي يعتبر من القطاعات الإستراتيجية، فإن إلحاق الضرر بالمقاولين، الذين يتخذون من مزاولة مهنة نقل المسافرين مورد عيشهم الأساسي، إن لم يكن الوحيد، لم يحض بعد بالاهتمام الذي يستحقه وكأن الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي يتسبب فيها هذا الإهمال أقل أهمية من الحفاظ على مصالح المستفيدين من اقتصاد الريع, المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تواجه مخاطر الإفلاس تمثل أزيد من 85% من مجموع المقاولات العاملة في نقل المسافرين، ورغم أن المستفيدين من اقتصاد الريع صاروا يتخوفون من تطور الأوضاع في المغرب وشرعوا في عرض رخصهم للبيع، فإن عدم التوفر على المبلغ الكافي لشراء «الكريمة» يفسح المزيد من فرص الرفع من هيمنة المقاولات الكبيرة التي تتوفر على مصادر التمويل، على حساب المقاولات الصغيرة التي تدهور وضعها وصارت غارقة في الديون, لفهم الصعوبات المالية التي تواجه المقاولات الصغيرة والمتوسطة، ضرب أحد المهنيين المثل برخصة أو «كريما» لخط يغطي مسافة 1000 كيلومتر، فأوضح أن قيمة الكراء تتراوح بين 50 ألف و 60 ألف درهم في الشهر وأن تشغيل الخط يتطلب التوفر على 3 حافلات، الأولى لتغطية الذهاب والثانية لتغطية الإياب والثالثة للاحتياط، وهذا في حد ذاته يتطلب كلفة في حدود 7.50 مليون درهم أي 750 مليون سنتيم، كل هذا تضاف إليه كلفة التأمين التي تقدر بحوالي 600 ألف درهم في السنة, أي 60 مليون سنتيم، تضاف إلى ذلك قيمة الضريبة والتنبر ومستحقات المحطات الطرقية التي تتراوح، حسب المحطات، بين 0.17 و 0.25 درهم للكيلومتر مع ملاحظة أن هذه التسعيرة غير منطقية إذ تؤدي الحافلة التي تغطي مثلا خط الرباطالحسيمة 110 درهم في الرباط و 178 درهم في الحسيمة، وبالنسبة لمحطات العبور فإن الحافلة تؤدي 30 درهم في كل محطة, النفقات اليومية التي تشمل كذلك كلفة المحروقات والطريق السيار، تضاف إلى النفقات الثابتة التي تشمل بشكل خاص أجر سائقين ومساعد لكل حافلة وأجر مستخدم أو اثنين في كل محطة كما تشمل كلفة الفحص التقني الإلزامي الذي ينجز مرة كل 6 أشهر. النفقات متعددة بينما المداخيل في تناقص مستمر، ذلك أن نشاط القطاع يخضع للموسمية، ومع ان عدد مقاعد الحافلة محصور في 48 فإن نسبة الامتلاء غالبا ما تتراوح بين 30% و 90%، وحتى عندما تصل إلى مستويات جد مرتفعة, فإن تدني النسبة في الاتجاه المعاكس يقلص المعدل المسجل ذهابا وغيابا إلى مستويات لا تكفي لتحقيق التوازن المالي للمقاولة, وخاصة في الخطوط التي ارتفعت فيها تكاليف الرحلة دون أن يكون ذلك مصحوبا بارتفاع ثمن التذكرة، وكمثال على ذلك خط الرباطالدارالبيضاء الذي استقر في 18 درهم وخط الرباط طنجة الذي صار يتطلب إنفاق 800 درهم ذهابا وغيابا مقابل استعمال الطريق السيار., شتان ما بين من يحصل شهريا على ما لا يقل عن 3 ملايين سنتيم دون أن يقوم بأي مجهود وبين من ينفق من ماله الخاص ويصرف كل جهده ووقته على تأمين استمرارية المقاولة التي أنشأها ليجد نفسه في آخر المطاف غارقا في الديون، فلولا أن اقتصاد الريع تقوى في قطاع النقل الطرقي للمسافرين لأمكن للمقاولين الصغار والمتوسطين أن يستثمروا بشكل جدي في رفع مداخيل خزينة الدولة عبر أداء الضرائب وفي رفع مستوى جودة خدمات النقل وفي تحسين الأوضاع الاجتماعية للمستخدمين وخاصة منهم السائقين الذين يتحكمون في مصير الحافلات التي تزيد قيمة كل منها عن 250 مليون سنتيم ويشكلون عنصرا أساسيا من عناصر حماية الأرواح التي تسقط باستمرار في ما صار يعرف باسم حرب الطرق. إن تحسين وضعية السائقين والمستخدمين لا يرتبط بالانخراط في التغطية الصحية التي تم ربطها بالحصول على البطاقة المهنية ولكنها ترتبط بتحسين شروط عمل المقاولة وبوضع حد للعلاقات التي تؤمن للمحظوظين الحصول أموال طائلة ومضمونة على حساب البؤساء الذين يشتغلون صباح مساء دون أن يجدوا حتى ما يوفر لهم مستلزمات الحد الأدنى للعيش الكريم، فمن يؤمن بالشفافية وبالعصرنة وبالحداثة وبمنطق التحرير لا يمكنه أن يوافق على صمود علاقات اقتصاد الريع طيلة 11 سنة.