مسألة اللغة، كغيرها من مكونات الهوية، مسألة شديدة الحساسية، مفرطة الذاتية، لا يَحسِمُ فيها النظر العقلي الحر ولا التدقيق الأكاديمي، وإن كان مفيدا. فهي ليست موضع قياس المكاسب والمنافع مهما كانت موضوعية، بل مناطُها العواطفُ والتمثلات. مثلها مثل المسألة الدينية، سهلةُ الوقوع في يد الغوغاء والأميين قصيري النظر، وحينما تتوهج تُعمي وتُصم. وعليه فليس من السهل إصدار فتوى في شأنها تحدد مبتدأها ومنتهاها، فالهويات بمكوناتها المختلفة مفتوحة على المستقبل مهما حاول الأصوليون ربطها بالماضي، ومنطقها في البيئات الديمُقراطية هو التدافع السلمي الخلاق. المهم هو توفير شروط التفتح وإزالة كل العوائق المترتبة عن ممارسة الحياة اليومية للناس. والمهم ألا تحس طائفة أو فرد أنها، أو أنه، مضطهد(ة) بسبب تلك الخصوصية، أو أنه محروم من الفرص المتاحة للآخرين من أبناء وطنه. واعتقادي الشخصي هو أن واضعي الدستور المغربي الحالي ورطوا هذا البلد المتنوع، الغني بتنوعه، في الكثير من التدقيقات الهوياتية (الدينية واللغوية والإقليمية..) التي كان ينبغي التنويه بكل تجلياتها وتركها مفتوحة على المستقبل، على نحو ما نجد في دساتير ديموقراطيات كبرى، مثل الولاياتالمتحدة. خاصة والمغرب مقبل على الجهوية الموسعة التي يمكن أن تراعى فيها الخصوصيات المحلية دون التفريط في المكتسبات التي تمد خيوط الاتصال بين أرجاء الوطن وتسهل التواصل بين مكوناته. نعود بعد هذا التمهيد النظري العام المؤطر لتصورنا إلى قضية الدسترة. الدسترة كلمة عامة فُتح بها المزاد الحواري في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة. ذلك أن اللغة الأمازيغية مُدسترة عمليا في الخطاب السياسي والثقافي المغربي منذ سنوات، فالكل يتحدث عنها باعتبارها لغة وطنية تستحق العناية. والكل يستهلك نتاجها الفني والحضاري ويتباهى به في المنتديات الدولية. وقد حققت في السنوات الأخيرة، تحت إلحاح طليعة أبنائها، مجموعة من المكاسب. وهذا نوع من العُرف الذي تراكمه بعض الدول والمجتمعات وتحتكم إليه بديلا عن دستور مكتوب مرة واحدة (يحال عادة على بريطانيا)، فالتدوين في هذا المجال لاحق للممارسة وليس سابقا عليها. وعليه، فالدسترة عند الأغلبية المسموعة التي عبرت عن رأيها في الموضوع تعنى أساسا تسجيل هذا الواقع وهذه العناية تحت عنوان الصفة الوطنية. غير أن هذه الأغلبية سرعان ما تنقسم بين من يرى أن المسألة تنتهي عند هذا الحد، وكفى الله المؤمنين القتال، وهناك من يرى أن هذه الإجراء مجرد مرحلة انتقالية تُعطَى فيها الوسائل اللازمة لبناء اللغة الأمازيغية الفُصحى الموحدة القابلة للترسيم، والتاريخ هو الذي سيحسم متى سيتم التأهيل ليتحقق الترسيم. وفي مقابل هذين الاتجاهين تقف فئة ثالثة ترى أن الخيار الوحيد المقبول هو ترسيم اللغة الأمازيغية اليوم وليس غدا، ترسيمها على حالتها القائمة. وهذا موقف الكثير من النشطاء المنتمين إلى الجمعيات التي ترفع صوتها عاليا، الجمعيات التي اعتنت باللغة والثقافية الأمازيغية بشكل ميداني ملموس منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي. وأنا أميز بين مسعى هذه الجمعيات الفعال وموقف حزب الحركة الشعبية التي استعملت هذه القضية استعمالا سياسويا، تلوح بها في وجه خصوم المخزن القوميين والاشتراكيين في الحدود التي يَسمح بها، وما إن يحصل زعماؤها على مجموعة من المناصب الوزارية، ويحلوا في موقع القرار السياسي حتى يُعيدوا مطلب الأمازيغية إلى حقيبة «ماكياج» الحركة ومخزن أسلحتها التاكتيكية في انتظار وليمة مقبلة، وقد استغرب الملاحظون كيف نفضت الغبار عن هذا السلاح عندما أقصيت في السنوات الأخيرة من المشاركة في الحكم. لا شك أن المهمة صعبة بالنسبة للنشطاء والأحزاب السياسية والدولة على حد سواء، ففي خطاب كل طرف منهم وتاريخه ما يثير توجس الطرف الآخر. فمن معيقات وصول خطاب الاتجاه الثالث المطالب بترسيم الأمازيغية دون قيد أو شرط ربطُ كثير من رموزه البارزة صراحة أو ضمنا بين الدفاع عن الأمازيغية ومعاداة اللغة العربية، تستفزهم بعنف كلمة التعريب. وكأن التعريب موجه أساسا لمحاربة اللغة الأمازيغية، والحال أن مطلب التعريب موجه إلى مواقع لم تحتلها الأمازيغية في يوم من الأيام، هذا في حين لم يعبروا يوما عن انزعاج من هيمنة اللغة الفرنسية. ومن المعروف تاريخيا أن التعريب تقوى مع مقاومة الاستعمار لارتباط حركة التحرير في المغرب بالحركات القومية العربية (الناصرية والبعث خاصة)، من جهة، واعتماد الاستعمار سياسة التفريق بين العرب والأمازيغ (الظهير البربري)، من جهة ثانية، كما ارتبطت المطالبة به، فيما بعد، بهيمنة اللغة الفرنسية على الإدارة والاقتصاد وغيرهما من مناحي الحياة. فلا مجال لمثل هذه الحساسية في نظري، لأنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية. ولا بد من الاعتراف أنه ليست هناك حركات أو أصوات يُعتد بها تعادي اللغة الأمازيغية وتدعو إلى تنحيتها، أو التقليل من شأنها، (وأنا لا أعتد بالعوام والغوغاء والمتطفلين على الذين ينشرون جهلهم على النيت دون حد أدنى من رقابة ذاتية أو تحريرية فكرية أوتعبيرية)، وبخلاف ذلك هناك في الطرف الآخر أصواتٌ عالية عنيفة تخرج من الدفاع عن الأمازيغية إلى التعبير عن كراهية عنيفة للغة العربية باعتبارها جزءا من واقع استعماري ينبغي طرد جيوشه، في اتجاه الشرق العربي. وهذا التوجه ليس جديدا، لقد صدمتُ به شخصيا وأنا طالب بكلية الآداب أواخر الستينيات حين دعاني أحد الأصدقاء، من أبناء جبل سيروا، إلى المساهمة في إنشاء جمعية ثقافية بورزازات الشيء الذي رحبت به، غير أنه استطرد إلى القول في حماس بأن العرب مجرد مستعمرين مصيرهم أن يُخرجوا من المغرب مع لغتهم كما أُخرج محتلون أعتى منهم، اعتذرت عن الاجتماع والجمعية وبقينا أصدقاء إلى اليوم. ثم اصطدمت بنفس الأفكار، بعد ذلك بعشرين سنة، عندما كتبت في أوائل التسعينيات مقالين عن المأساة الطلابية التي خلفها توقيف تعريب العلوم أوائل التسعينيات، إذ وجدت في أحد الأيام مجموعة من الزملاء يحاكمونني غيابيا بتهمة العقوق والتنكر للأصول. وهذا الموقف يُثير مشاعر فئات عريضة من المواطنين، بل يثير ردود فعل طوائف من الأمازيغ أنفسهم، إذ يشمون فيه موقفا من الدين الإسلامي نفسه. وقد نَقلتِ المواقع الإلكترونية، في الأسابيع القليلة الماضية، مشاداة عنيفة بين منشط إذاعي أمازيغي وبين المتصلين به الذين صُدموا من رفضه الاستماعَ إليهم، لا لشيء سوى أنهم استعملوا عبارة «السلام عليكم»، فلا يقبل من أحدهم الاستمرارَ في الكلام إلا بعد أن يُعوض تلك العبارة بعبارة «أزول». إن المسألة تتجاوز اللغة وتجعل الأمازيغي يصطدم بالأمازيغي حول شيء آخر كما ظهر من التعليقات التي دارت حول التسجيل. والتاريخ يشهد على أن مثل هذه الأصوات المنكرة المنفرة تؤدي إلى نتائج عكسية، فمن سخريات التاريخ أن محاولة فرنسا لفصل الأمازيغيين عن إخوانهم العرب أثناء احتلالها للمغرب أدى، حيث لم يتوقعوا، إلى تشبث الأمازيغيين أنفسهم باللغة العربية والمطالبة بتعميمها. نعم مطالبة الأمازيغ بتعريب أصقاعهم، لا تستغرب، فهذا ما نقرأه في أدبيات إنشاء المعهد الإسلامي بتارودانت وفروعه التي غطت منطقة سوس وامتدت شرقا إلى ورزازات، وشمالا إلى الجديدة. فقد وجَّهت جمعية علماء سوس رسالة إلى المغفور له محمد الخامس تطالبه بالإسراع بتعريب الأصقاع السوسية قبل أن تكتسحها لغة المستعمر. وفي هذه الأجواء قام العلامة المختار السوسي، وكان من أبرز رجال تلك الجمعية، بتدوين التراث العربي الأدبي والتاريخي في بلاد سوس في أعماله الموسوعية القيمة. فاعتبروا يا أولي الأبصار. من الطبيعي، بل من المفيد لفتح الأعين وتليين المواقف، أن يُستأنس في مجال الدسترة بالتجارب العالمية، وهي متنوعة تعمل في ثلاثة اتجاهات. وذلك ما فعله المختلفون في هذا المجال، ففي الوقت الذي يستشهد دعاة ترسيم أكثر من لغة ببوليفيا التي ضربت الرقم القياسي في هذا المجال وبالهند وجنوب إفريقيا (حسب ما ورد في مقال للأستاذ أحمد عصيد)، يدعو المتحفظون إلى الاستشهاد بفرنسا التي حضنت الحركة في مختبراتها اللسانية بعد أن فشلت محاولاتها زمن الاستعمار، فهي متمسكة بوحدتها اللغوية لغة رسمية (وبذلك يبدو الفرنسيون وكأنهم يبيعون القرد ثم يضحكون على من اشتراه)، أما الداعون إلى التريث وانتظار ما يفرزه التدافع الطبيعي فيجدون أمثلتهم الجيدة في الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول التي لا ينص دستورها على لغة رسمية أصلا (كما جاء في مقال للأستاذ محمد المدلاوي). ومن الطبيعي أن المقارنة بين هذه النماذج سترجح التريث، على أقل تقدير. ويظهر من مقترحات الأحزاب أن الاختيار يسير في اتجاه التريث دون اعتراض على المبدأ بناء على عدم جاهزية اللغة الأمازيغية الموحدة التي يُراد ترسيمُها، والتي يعمل المعهد الملكي منذ إنشائه على بنائها. وقد بادر المتحمسون للترسيم إلى دحض هذا الادعاء ونعت تلك الأحزاب بأبشع النعوت. بل دفعتهم الرغبة في دحض هذا الموقف إلى إعادة النظر في تقييمهم السابق لعمل المعهد الملكي الذي أصبح «عملا جبارا» بعد أن كان موضوعا للنقد وعرضة للتبخيس، بل اعتبروا ما أنجز في ميدان التعليم كافيا لتأهيل لغة موحدة قابلة للترسيم. ونوهوا كذلك بالجهد الإعلامي العام والخاص الذي أنجزته قناة الأمازيغية في الشهور القليلة التي تعد في عمرها، وهذا شيء خارق للعادة إن تحقق فعلا. وهذا موقف سيسر وزارة الإعلام والتعليم وإدارة المعهد الملكي، فقد ساهمت الرغبة في إبراز الأهلية للتنويه بعمل هذه الجهات. من الصعب القول أن بين أيدينا اليوم لغة أمازيغية فصحى يفهمها السوسي والزموري والريفي، وإذا كانت موجودة فعلا في منتوج المعهد أو غيره فإنها لم تصل بعدُ إلى الجمهور، أي أنها ما تزال مجرد لغة افتراضية عليها أن تدخل معترك الحياة من خلال السينما والمسرح والغناء والصحافة...وغيرها من الوسائط ووسائل الاتصال والتأثير. وأنا أخص هذه المجالات لأنني أرى اليوم أنها هي التي تحفظ رمق اللغة العربية نفسها، بل تعيد نشرها على نطاق جماهيري واسع. فاللغة العربية لم تجن شيئا ذا بال من ترسيمها. فنظرا إلى أنها ليست لغة الإدارة إلا في مستوياتها غير المفيدة، وليست لغة الاقتصاد ولا لغة العلم النافع، فقد انعكس هذا الواقع على وضعها التعليمي في جميع المستويات. وهل يخفى على أحد اليوم أن الطلبة لا يطرقون باب شعبة اللغة العربية والدراسات الإسلامية، حيث تهيمن العربية، إلا بعد أن تسد في وجوههم جميع الأبواب. لو كان الترسيم يحل مشكلا لما احتاجت اللغة العربية نفسها إلى جمعية تدافع عنها، ولما احتاج الأستاذ بنعمرو، حفظه الله، إلى رفع عدد من الدعاوى ضد الإدارة التي تراسله بالفرنسية في شؤون إدارية. أتمنى أن يُفتح الآن نقاش في الجوهر: ما هي مترتبات الترسيم المنتظرة؟ وما هي إمكانيات الوفاء بها، بالترسيم أو بغيره؟ فهناك فعلا حاجيات لا يمكن السكوت عنها، وحالات لا يمكن القبول بها. فمن الضيم أن يُحاكم مغربي لا يعرف غيرَ الأمازيغية أمام قاض لا يعرف هذه اللغة. ومن حقه، في نظري، أن يرفض فكرة الترجمة لأنها تجعله أجنبيا في وطنه. هذا مجرد مثال. ربما تكون الجهوية مجالا للتجريب في هذا المجال فاتحةً الطريق نحو ما هو أوسع. الموضوع، كما قلت ابتداء، صعبٌ وحساسٌ ومفتوح على المستقبل، ومن الأحسن أن يبقى مفتوحا، وعلى النشطاء في هذا المجال أن يضمنوا حيويته بتكوين لوبي سياسي حقيقي متعاقد مع فاعل قوي بعيدا عن أي انطواء عنصري. عليهم أن يمتحنوا قوة إقناعهم مع الأمازيغيين قبل غيرهم، فهم قوة انتخابية حاسمة، أما إن لم يستطيعوا تعبئة هذه القوة فعليهم أن يراجعوا أنفسهم، ويعدلوا خطابهم، ويكفوا عن استعداء القوى الأجنبية أو التعامل مع أطراف منبوذة من المغاربة مثل إسرائيل. (*) أستاذ باحث في بلاغة الخطاب www.medelomari.net