من بين الأمور المدهشة في الفن الإفريقي، تلك القدرة الخارقة التي امتلكها الفنان في ترجمة الملحوظ إلى أشكال صامتة، تعبر بصمتها البليغ عن واقع القبائل والتجمعات البشرية في مناطق جنوب الصحراء، ولأن منبع الفكرة في الفن هو الملاحظة، ملاحظة كل ما هو مثير في الواقع أو في الشعور، فإن الفنان الإفريقي الذي ينتمي لقبائل مجبولة على الصيد استطاع أن يخلق ثقافة فنية أسطورية ترتكز على فعل اصطياد الإنسان للصورة، حيث اشتغلت أسطورة الفن الإفريقي على عكس أسطورة نرسيس الإغريقية، والتي تصيَّدت فيها الصورة الإنسان. فبداخل الفنان الإفريقي هناك دائما توق جامح إلى تجسيد أشكال تتميز بالأصالة والمنحى السحري. ارتبطت المنحوتات الأفريقية القديمة بمختلف نواحي التفكير والعمل اللذين عرفتهما الحياة اليومية للتجمعات القبلية سواء في إفريقيا الغربية (مالي والغابون وبوركينافاصو والزايير وغانا وساحل العاج، وغيرها)، أو في إفريقيا الجنوبي أو إفريقيا الشرقية الشرقية (زيمبابوي وموزمبيق وتنزانيا وغيرها ) فقد مثلت المنحوتات المصنوعة في الغالب من الحجارة أو الخشب أو الحديد، مختلف الأنشطة الإنسانية كالزراعة، وسحق الحبوب في الهاون، أو بعض الإيماءات الطقوسية أو وضعيات الجلوس الهادئ ولحظات التأمل، أو تجسيدا لبعض الأفكار العليا كفكرة الوحي أو الإلهام، وفكرة الخطيئة الإنسانية، إلى غير ذلك مما كان يستقر في الشعور الإنساني من الرؤى والأحلام. غير أن أمر تذوق العمل الفني الإفريقي مرهون دائما باستشعار الطقوس والشعائر المرافقة للفن، فإذا كان الفن الإفريقي قد ولد من التلقائية، أو كما يؤكد العديد من الباحثين، من دوافع نفسية Impulsions لا تمكن مقاومتها، ولعل الاحتكاك الدائم والمباشر للإنسان بالأدغال، خلق لديه هاجس الرهبة من القوى الخفية للطبيعة، ومن ثم كان ملجأه إلى السحر لمحاربة تلك القوى الجبارة أمرا طبيعيا، هكذا أضحت قبائل الرعاة في أفريقيا تتحوم حول النُصُب الفنية وتحتفل بصورة طقوسية غاصة بتجليات السحر، عبر الرقصات والأناشيد، وهكذا اعتُبِرت تلك المنحوتات الفنية التجسيد المادي للسحر، ورمزا للانتصار على الطبيعة. إن المنحوتة الإفريقية تخضع للشعائر المجتمعية، فهي تنبع من روح الجماعة التي تتفاعل داخلها المتطلبات الحياتية من أكل ولباس وغيرها مع الحاجيات الثقافية والحاجيات الروحية. ولذلك فإن مصدر ذلك الصنم هو كما يعبر ريجيس دوبري في كتابه «حياة الصورة وموتها»، هو الضغط الاجتماعي الذي يتخذ شكل الرغبة اللاواعية. ومن هنا نفهم ذلك الثراء الفني الذي يميز تحف إفريقيا، فالقناع في المعتقد الجمالي الإفريقي ليس فقط غطاء الوجه كما يعتقد الكثيرون، بل هو البذلة التنكرية ومجمل الحلي والأساور والعقود، ثم الموسيقى والرقص الذي تؤديه الطائفة التي تتراوح بين المقدس والمدنس. وقد جاء في «كتاب الرموز» الذي أعده آمي رونبيرغ Ami Ronnberg بأن القناع ساعد الإنسان على التعبير عن عشقه للآلهة، وعلى الاستشفاء، وعلى تلقين المبادئ، والحفاظ على قيادة المجموعة وعلى التقاليد الجماعية، لكن في الوقت نفسه فالقناع يعين على الهروب والانفلات من تلك السُّلط، التي تمتد من سلطة قائد الجماعة إلى سلطة المستعمر الذي نهب خيرات الشعوب الإفريقية. يؤكد الباحث الفرنسي وأستاذ تاريخ الفن لوريك زيربيني Laurick Zerbini في كتابه «أبجدية الفنون الإفريقية» على أن القرن التاسع عشر لم يكن منصفا في حق إفريقيا السوداء، فقد تميزت أبحاث العلماء الغربيين بإجحاف كبير في حق الإنسان الإفريقي الذي اتهم بالبلادة، وذلك من أجل الرفع من مركزية النموذج الاوروبي للإنسان الأبيض، ففي مادة «الزنجي Le nègre « ألحَّ بيير لاروس Pierre Larousse (1817-1875) على الضعف الثقافي و «البهيمية» لشخصية الإنسان الإفريقي الأسود، ملاحظا أن دماغ هذا الإنسان يتطور على نفس شاكلة تطور دماغ القرد. وقد صاحبت هذه النظرة الغربية الإزدرائية لعالم جنوب الصحراء، رغبة قوية في معرفة ثقافات شعوب هذا العالم، وفهم سلوكاتها وعاداتها، وقد شكّلت فنون هذه المجتمعات المصدر الوحيد لتحصيل تلك المعرفة، ومن ثم اكتسبت القطع الفنية الإفريقية قيمتها العالية، ولعل هذا ما جعل أوروبا تفكر جديا مع منتصف القرن التاسع عشر في إنشاء متاحف إثنولوجية تضم المجموعات الفنية المسماة «بدائية» لتلك الشعوب التي كانت تعتبرها شعوبا «متوحشة». وبما أن أصل الفن هو الانفتاح على الوجود، حتى ينتشر الإشعاع الجمالي على كل بقاع الأرض، فقد كان من البديهي تخطي الفن لهذه النظرة الدونية لإفريقيا أو يعمل على قبرها مؤثرا استعارة جوهر الإبداع الإنساني الحضاري طالما أن الحضارة فعل وُجد مع الإنسان منذ البدء. ولقد جسَّد الفنانون الرومانسيون الخيال الاستشراقي في أعمالهم، حيث تفوح روائح حياة القصور والحمامات المشرقية، وينبعث نقع الفروسية في لوحات دولاكروا وجيريكو وغويا وتيرنر وغيرهم، وعلى غرارهم انتبه التكعيبيون والسرياليون للفن الإفريقي ولعل تأمل منحوتة «رأس المرأة» لبيكاسو يكفي لفهم استيعابه لاستعارة الفن الإفريقي. وقد لقي هذا الفن في عقود متأخرة اهتماما بائنا من طرف العديد من الفنان العرب، ولعل الحس بالانتماء القاري المشترك للفنان المغربي كان أساس استلهامه لرموز هذا الفن، نعثر على ذلك خصوصا في أعمال فريد بلكاهية، وفي التقابلات اللونية في أعمال محمد شبعة الأخيرة، وفي هيئة الأجساد المقتحمة للصحراء في أعمال محمد القاسمي، الذي كان كما يقول الشاعر محمد بنيس: «يتجه نحو الجنوب، من صحراء إلى صحراء، في إفريقيا. في التوجه نحو الجنوب رغبة لمس المنفتح الذي يظل منفتحا. عتمة أو لا نهاية. والصحراء إفريقية مكان عود إلى البدئي، في الوعي الجمالي العربي المتجسدن في العصر الجاهلي» (كاتالوغ محمد القاسمي أو معادلة المعنى). ولم يكن تأثير الفن الإفريقي في الفنون العالمية على مستوى الإبداع فقط، بل وأيضا على مستوى تداول العمل الفني، حيث يعلمنا درس الفن الإفريقي أن العيش مع الفن يخلق أنواعا من الاستجابات المتفاوتة، وهي استجابات تخص ملكة الذوق، وترعى نمو الخبرة الجمالية، ولذلك حاول فنانو العصر الحديث إدخال العمل الفني: اللوحة والمنحوتة إلى البيوت والشوارع والمصانع والمؤسسات. ولقد ظل العديد من فناني إفريقيا إلى عهود متأخرة وفيا للأصل، مطوِّرا للأشكال التقليدية، ومن بين هؤلاء الفنان سيكير كامبير Sikir Kambire (1896-1963) وهو من أبرز فناني بوركينافاصو والذي بدأ النحت في سن مبكر، واستطاع أن يخلق أسلوبه المتميز في نحت الأقنعة، وفق مورفولوجية للوجه محددة بدقة. إيمانا منه بأن التقنية هي أصل العمل الفني، وأن ليس اعتباطا أن يطلق اليونان كلمة التقني على الصناعة، والفن معا، ولذلك اعتنى بما يدعوه هايدغر بنية الشيئي التحتية، والتي هي الحقيقة الأولى في العمل الفني، والتي تتأسس عليها البنية الفوقية للعمل، والتي تتضمن ما هو فني. والآن، وقد مرت حقب تلو أخرى على عهود الماضي الفني الإفريقي الساحر، نجد من الفنانين الأفارقة، من أقام قطيعة مع التقليدية الفنية معتنقا روح الثقافة الجديدة، والانخراط في موجة ما بعد الحداثة الفنية، وقد قدم بينالي داكار الإفريقي في دورته الحادية عشرة (DAK'ART 2014 ) تشكيلة من هؤلاء الفنانين، والذين تراوحت أعمالهم بين النحت والتصوير وأشكال البيرفورمونس، وغيرها من أنواع التعبير الفني. ومن بين هؤلاء الفنان النيجيري أولي أمودا Olu Amoda، الذي تتجسد لديه فكرة الشكل كمعطى بلاستيكي ذي أهمية خاصة، وقد نال الجائزة الكبرى للبينالي مناصفة مع الفنان الجزائري إدريس وضاحي. إذا كان الاقتصاد العالمي قد انتبه متأخرا لمناجم الثراء الإفريقية، خاصة فيما يتعلق بالثروة البشرية، فإن الفن، وعلى نطاق شامل قد اهتدى مبكرا إلى أن ما اعتبره البعض أشكالا فنية إفريقية «بدائية»، هي في جوهرها نماذج خارقة للتمثل الفني الحسي، تعتبر ثروة حقيقية لشعوب خلدت عبر أشكال الفن تاريخها المجيد في صمت كئيب.