تشرفت في يوم من الأيام بدعوة لحضور حفل لتوزيع الجوائز والشواهد على بعض أفراد الجالية المغربية في إحدى العواصم الأوروبية، وقد تخلل الحفل فقرات ترفيهية، من فقرات غناء وعزف على آلة العود، من أداء أحد الموسيقيين المغاربة، ممن قضوا نصف قرن في هذه الديار، كما علمت لاحقا. وبينما نحن جالسون، نتبادل أطراف الحديث، تزجية للوقت، بادرني أحد جلسائي بالحديث عن جمود فقهائنا وعجزهم عن مسايرة الواقع الأوروبي، وهو يظن أن الخروج من هذا الجمود سبيله ما كان يُعزَف أمامنا من أنغام ويُؤدى من غناء. ولقد كان صاحبنا مزهوا بنفسه لأنه كان المسؤول عن برمجة فقرة الموسيقى التي اعتبرها عنوانا على الانفتاح الثقافي المنافي للجمود، حتى صدمته بقولي: «إن جمود الفقهاء في السياق الأوروبي، الذي تحدثت عنه، لا يكافئه إلا جمود هذا العازف على آلة العود». لم يكن صاحبنا، على علو مرتبته في العلوم التقنية، يفقه شيئا في الموسيقى، أو يتوفر على ثقافة في هذا الباب تُمكنه من قياس درجة الجمود من التطور في هذا اللون من الفنون؛ بل غاية ما كان يطمح إليه من وراء كلامه هو الإشارة إلى التقابل الإيديولوجي المستقر في ذهنه بين الانغلاق المقترن بالفقه والفقهاء من جهة، والانفتاح المقترن بالموسيقى والغناء من جهة أخرى. وقد صرفه هذا التقابل عن التنبه إلى أوجه الإساءة إلى الثقافة المغربية، من حيث ظن أنه يساهم في خدمتها. قلت لصاحبنا أننا كنا قبل أربعين سنة نطلق على هذا النوع من العزف (الكُريط)، نوع يتقنه من هب ودب، نوع يفصح للدارس العارف بفنون العزف والموسيقى عن أمية مستحكمة. وعليه، فإنه لا يليق بنا، ونحن في عاصمة أوروبية، بلغ فيها الحس النقدي الموسيقي ما بلغه من نضج وتطور كبيرين، أن نقدم للشباب المغربي، وللآخرين من الضيوف الأوروبيين، هذا اللون من (الكُريط) الذي إن لم يسئ إلى صورة الثقافة المغربية، فهو لا يخدمها بأي وجه من الوجوه. لم أجد تفسيرا لخلو اللون المعزوف أمامنا من أي أثر للثقافة الموسيقية العالمة أو لأبسط قواعد الهندسة النغمية المعاصرة، بالرغم من إقامة العازف في الديار الأوروبية لما يناهز نصف قرن من الزمن، سوى أننا أمام ظاهرة من ظواهر الجمود والاستغلاق على المؤثرات الخارجية والعجز عن الاغتناء بالتفاعل مع المحيط. وقد غلب علي الظن حينها أن هناك ضربا من الجمود ينسحب على شرائح مختلفة من المغاربة، بغض النظر عن اهتماماتهم وانشغالاتهم، وترسخ عندي الاعتقاد في وجود مشترك ثقافي يملي الانطواء على الذات والاكتفاء بالموروث المعلوم، خوفا من أي مغامرة غير محسوبة العواقب قد تفضي إلى تلاشي الهوية وذوبانها في الآخرين، حتى صرت أردد في كل مناسبة أننا «نتاج عصور الانحطاط»، أي كائنات غير مؤهلة للتمفصل مع الثقافات الأخرى. بعد تدقيق النظر في كثير مما يقدم للجالية المغربية في أوروبا تحت مسمى «الفن والانفتاح»، شعرت بأن حاجتنا إلى الالتفات إلى سؤال الثقافة المغربية والاشتغال به تأتي على رأس الأولويات. وأصدر في هذا الرأي عن قناعة تزكيها شواهد من الواقع اليومي، مفادها أننا نفتقر إلى مؤسسات تسهر على صورة الثقافة المغربية وتؤهل الكائن المغربي للخروج إلى مضمار الكونية. ومقصودنا بالحديث عن هذا الافتقار يحتاج إلى توضيح، حتى لا ينصرف فهمه إلى أنه افتقار مقترن بنية مبيتة أو إرادة سياسية؛ بل المقصود هو أننا صرنا نشعر اليوم بأن مغرب اليوم ليس مغرب الأمس، والفرق بين المغربين هو الإحساس المتعاظم بقدرة الثقافة المغربية على الخروج إلى الفضاء المعولم، بعد فترة كانت هذه الثقافة تعنى بتطوير الميكانيزمات الدفاعية، ودرء مخاطر الغزو الخارجي، الفكري والثقافي والإيديولوجي. ومع هذا الوضع الجديد، تبرز الحاجة إلى التفكير في إعادة تأهيل المؤسسات الساهرة على الشأن الثقافي في السياق المغربي. بالأمس، كان مغاربة العالم يستدعون الثقافة المغربية استدعاء من يحن لصورة جامدة علقت بمخيلته وذاكرته، يحتمي بها في بيئة قاسية وأرض تتنكر له، وتربة لم ترب بين يديه. وبهذا الاعتبار كان طبيعيا أن يكون تشبث المغربي في الخارج بالأشكال التقليدية الموروثة يفوق تشبث مغاربة الداخل، أولئك الذي يعيشون ثقافتهم كواقع يومي متحرك، وهم يسعون إلى تبيئة الوافد الجديد على حيزهم الثقافي تبيئة مناسبة. أما اليوم، فنحن أمام أجيال جديدة، فتحت عيونها أول ما فتحتها على ممارسات ثقافية في أحياز أخرى، وهي لا تستدعي الثقافة المغربية استدعاء المحن إلى ماضي قديم، بل تقبل على هذه الثقافة طلبا لقيمة مضافة تغتني بها وتزداد سعة في الذات وبسطة. فإما أن تجد هذه الأجيال في ثقافة أجدادها ما تستسيغه ذائقتها المعاصرة، فعندها تتبناه، وتساهم في إلباسه لبوس المعاصرة، وإما أن تستهجن هذه الثقافة فتدخلها في عداد الثقافات البائدة التي لا تقوى على المقاومة والمنافسة. من يتأمل المنتوج الثقافي المغربي الموجه إلى الخارج يجده في مجمله موجها إلى المغاربة، وكأن المتوخى منه هو الإبقاء على أواصر الصلة قائمة بين الداخل والخارج؛ وهذا أمر محمود، له فوائد كثيرة، أهمها خلق فضاء تتوثق فيه الصلة بين المهاجر ووطنه الأصلي. فمغاربة المهجر عموما لا يبحثون في هذا الفضاء عن إبداعات ثقافية عالمة، بل غاية مطلبهم هو الظفر بلحظات حميمية أصيلة، تدخلهم في أجواء احتفالية، يستعينون بها على دفع الإحساس بالاغتراب عن الذات. ولا نظن أحدا يستطيع أو يرغب في قطع هذه الصلة، خصوصا ونحن نعيش عصر الانفتاح؛ فخروج المنتج المغربي إلى الخارج، مهما كانت طبيعته، متوقف على مدى الإقبال عليه. والإناء بما فيه ينضح كما يقال، والطيور على أشكالها تقع؛ ولا يجوز لأحد أن يفرض ذوقه الشخصي على مغاربة العالم، أو أن يعمل على كبح إبداعات مغاربة الداخل، بدعوى أنها إبداعات تجمد على القديم، أو أنها لا تستجيب لمعايير الثقافة العالمة، وما شابه ذلك. لكن بعيدا عن الفضاءات التي تعتبر امتدادا للثقافة المغربية خارج حدودها الجغرافية الطبيعية، يعسر وجود منتج ثقافي مغربي يملك مقومات النفاذ إلى عمق الأحياز الثقافية الأخرى، أو الدخول في منافسة أو مزاحمة لإبداعات ثقافية أخرى. هناك قصص نجاح يكتبها مغاربة العالم، وهناك جوائز تمنح لمغاربة في مجالات إبداعية كثيرة، وهناك مشاركات ومساهمات من مغاربة في إنجاح مشاريع علمية وفنية ورياضية كبرى؛ لن ينكر هذا كله إلا جاحد. غير أن هذه الطاقات الإبداعية، على كثرتها، قليلا ما تنطق باسم الثقافة المغربية. فليس للثقافة المغربية من جائزة تمنح لمغربي في مختبر تحليلات علمية أي فضل يذكر، بل إن هذه الجوائز تعتبر تتويجا لمنظومة علمية قائمة بذاتها. بل الأدهى والأمر أن بعض الجوائز الممنوحة لمغاربة العالم، في مجالات أدبية مثلا، قد يكون الدافع من وراء منحها هو تتويج جهود أصوات تنطق بما يسئ للثقافة المغربية، لا بما يعلي من شأنها، أو يجلي خصوصيتها. بقدر ما تضيق الساحة الثقافية الأوروبية في وجه الإبداعات الناطقة باسم الثقافة المغربية، بقدر ما تتسع للفلكلور المغربي، بوصفه شاهدا على تفاعل أصيل مع فضاء قديم، وكذلك بوصفه خزانا لأحاسيس ومشاعر وألوان وأشكال يستعين بها المبدع في الثقافات الحديثة على تجاوز أزماته الإبداعية ومضايقه الثقافية. فالفلكلور المغربي مطلوب أوروبيا لطابعه الغرائبي، ولتغلغله في الماضي الإفريقي، أو اقترانه بالعجائبية المرتبطة بالشرق العربي. ويحق لنا كمغاربة أن نفخر بفلكلورنا، الذي هو انعكاس لعلاقة وطيدة بالزمن والمكان المغربيين. لكن لا يحق لنا أن نقف عند حدوده. فالثقافة المغربية اليوم تقف بين حدين: حد الانفلات والابتذال من جهة، وحد الجمود على الممارسة الفلكلورية. والمطلوب هو الخروج إلى أفق أرحب، أفق الإبداع. شعرت وأنا أقرأ رواية إليف شافاق «الفتى المتيم والمعلم» (The Architect ‘s Apprentice)، حول أحد تلامذة المهندس سينان، أنني أمام عمل روائي يخرج الثقافة التركية من الخصوصية إلى مجال التجربة الشعورية الكونية، عمل يضفي على الفضاء التاريخي العثماني بعدا يدخله العالمية من بابها الأوسع. وعندي أن السر في ذلك هو تشبع الروائية بثقافة العمل، وابتعادها عن الارتجال، وتمكنها من بلاغة العصر وأدواته التعبيرية، وهذه العناصر مجتمعة هي ما تمنح النفس الطويل اللازم للانخراط في السباق نحو التميز فوق خشبة العصر. وبالمقابل، قليلا ما شعرت بأعمال مغربية ترقى بالفضاء التاريخي والثقافي المغربي إلى مرتبة شبيهة بتلك التي وضعت إليف شافاق الثقافة التركية فيها. وجدت في سيرة أحمد الصفريوي الذاتية «صندوق العجائب» (La Boîte à merveilles) مقومات تجربة أدبية قادرة على الانطلاق من واقع مغربي ضارب في الخصوصية بغرض النفاذ إلى أحياز ثقافية أخرى. وقد كُتب لي أن أعاين حجم التأثير الذي كان لعمل أحمد الصفريوي على عدد كبير من المهتمين بأدب الأطفال في كل من فرنسا وألمانيا، مما دفعني إلا التساؤل عن سر نجاح هذه التجربة. وقد استقر رأيي على أن وراء هذا النجاح عنصرين اثنين: صدق التجربة الشعورية وارتباطها بعالم الطفولة البريء من جهة، وتوسل الكاتب باللغة الفرنسية، كأداة من أدوات العصر المتاحة، لإيصال تجربته إلى الآخرين من جهة ثانية. لقد اشتملت تجربة الصفريوي على مقومات النجاح وعناصر القوة التي افتقرت إليها التجارب الأخرى التي تلتها، ويأتي على رأس هذه المقومات والعناصر كلها التصالح مع الذات. حين يكون المبدع متصالحا مع ذاته لا يضره أن يتوسل بأدوات عصره ليعبر عن هذه الذات. نشعر ونحن نقرأ «صندوق العجائب» بأن اللجوء إلى اللغة الفرنسية لم يكن على حساب الثقافة المغربية الأصلية، وهذا على خلاف ما نشعر به ونحن نقرأ لعدد كبير من الكتاب ممن أسقطهم استعمالهم للغة الفرنسية في أسر الثقافة الفرنسية التي تحولت إلى حاجز يحول بينهم وبين النفاذ إلى الكونية. لقد تحولت اللغة الفرنسية عند كثير من المبدعين المغاربة إلى أداة ساهمت في مخاصمتهم مع ذواتهم، وهذا ما أفضى إلى كتابة مضطربة، نزاعة إلى جلد الذات، أسيرة التقليد، عاجزة عن الإبداع الفكري، هجينة هجنة يستحيل معها تحقيق الذات. فعوض أن يتخذ المثقف المغربي الكاتب بالفرنسية الثقافة الفرنسية نافذة يطل منها على الثقافة الكونية وينفذ من خلالها إلى هذه الثقافة، اتخذ هذه الثقافة سقفا لإبداعه. أعجبتني وصية والد الكاتب الجزائري كاتب ياسين حين أوصاه قائلا: «يا بني، إن اللغة الفرنسية تهيمن اليوم، فهيمن عليها». أرى أن مآل الثقافة المغربية اليوم متعلق بقدرتها على التمكن من أدوات العصر والهيمنة عليها، سواء أكانت هذه الأدوات لغات أو وسائل أخرى. وأنا وأنت نعلم أن التمكن والهيمنة لا يتأتيان إلا بالعمل، فالعمل، ثم العمل. يقول إبن خلدون في مقدمته: «بالتكرار تحصل الملكة»، ولن نمتلك أداة من أدوات العصر التي نقوى بها على التعبير عن ذواتنا، إلا بالتكرار والمثابرة والعمل الدؤوب وأخذ الأمور مأخذ الجد. أذكر وأنا أتابع مقابلة لكرة القدم بين فريق مغربي وآخر أوروبي كيف هيمن الفريق الأوروبي على الفريق المغربي هيمنة مذلة، جعلتني أبحث في سوسيولوجيا اللعب وفي المؤثرات الثقافية التي أفضت إلى هذه الهزيمة. عند التأمل في حركات اللاعبين المغاربة وسكناتهم تجدها تدل على نقص كبير في الاحترافية. تشي تفاصيل كثيرة بأننا أمام أفراد مندفعين إلى اللعب، لكن دون الأخذ بالأسباب الضرورية لمبارزة الآخرين، وكأننا باللاعب المغربي «يلعب مع» هذا الآخر، في حين أن هذا الآخر «يلعب ضده»، والفرق بين النمطين في اللعب كبير، مثله كمثل الفرق بين الهواية والاحتراف، إذ الهاوي لا يكترث للتفاصيل ولا يعي وزن الحركة البسيطة في تحقيق النصر أو الهزيمة. حين أعدت مشاهدة المباراة بتأني، وجدت أن ما صنع الفرق فعلا بين الفريق المغربي والفريق الأوروبي كان هو جملة حركات بسيطة، تبدو للمتابع أنها حركات يأتيها المحترف بعفوية، بينما هي في العمق نتاج عمل ودراسة وتدريب. لن تخرج الإبداعات الثقافية المغربية للكونية - وهي تستأهل أن تخرج، وقد حان وقت خروجها- إلا بنبذ روح الاستخفاف بالفنون والتخلي عن الارتجال، ثم الانتقال من «اللعب مع» الثقافات الأخرى، إلى «اللعب ضد» الثقافات الأخرى. وهذا الأمر لا يتأتى إلا بسياسة عمومية تحسس المجتمع بأهمية الثقافة المغربية وضرورة صيانتها من الابتذال، وتوفر المؤسسات التي ترعى الإبداع منذ نعومة الأظافر. يستحيل أن نصون الثقافة الموسيقية المغربية من العبث ومدن بأكملها لا تتوفر على معاهد لتدريس الموسيقى، أو أن نطلب تحقيق الفوز في البطولات الرياضية ونحن نخلط بين «لعب الرياضة» وبين تأهيل أبطال مغاربة للفوز في المحافل الدولية. إن المدخل للارتقاء بالإبداع المغربي على جميع الأصعدة هو «التكرار»، أو ما يعرف في التمارين الموسيقية ب «Les études»، أو التمارين التي تصقل الموهبة. قديما كتب إبن خلدون في معرض حديثه عن الإبداع الشعري ما يلي: «وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده، فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف بالترك والإهمال». هذا حال جميع المواهب؛ فالشرط في بلوغها مرحلة العطاء والإبداع هو المراوضة والمعاودة والامتراء؛ وفي حال الترك تجف المواهب وتضمر. فليس من سبيل لبلوغ تألق الثقافة المغربية سوى تعهد المؤسسات التعليمية المغربية الطفولة المغربية بالسقيا من معين الإبداع الحقيقي، ألا وهو العمل والمسؤولية. قرأت يوما عن الشروط اللازمة لتقديم طلب الترشح للانضمام ل»جوقة برلين الفيلارمونية»، فأصبت بالذهول. تشترط «جوقة برلين الفيلارمونية» على من أراد أن يشارك في مباراة الالتحاق بها أن يكون عمره بين سن العشرين والخامس والعشرين، وأن يثبت توفره على عشرة آلاف ساعة من التدريب على الآلة التي يعزف عليها. وكيف لا يصاب المرء بالذهول..؟! إذا علم بأن عشرة آلاف ساعة من التمرين مقسومة على حياة شخص لا يتجاوز عشرين سنة من العمر تعطينا ساعتين من التدريب يوميا، منذ أول يوم ولد فيه هذا الشخص. هكذا تصنع النخب التي تخرج بثقافة الأمة إلى الكونية والعالمية. وبالموازاة مع المؤسسات الحاضنة للمواهب المغربية، خصوصا الفنية منها، نحتاج إلى إعلام يرقى بذوق الإنسان المغربي وبوعيه الفني، عسى أن نخرج من الابتذال وانسداد الأفق الذين يتوعدان الثقافة المغربية بالضمور والجفاف. صحيح أن للسهرات الفنية دورا في تسلية المجتمع والترفيه عنه، لكن للإعلام دور آخر يكمن في التثقيف. فلا يضر مع ما يُقدمه الإعلام المغربي من مواد ترفيهية أن يخصص حيزا، ولو بسيطا، للحديث عن الدراسات الفنية ومقاييس التقدم والتأخر في الأعمال الفنية والثقافية. ولو كنا نتوفر على مقاييس نقيس بها الهزيمة والنصر في المبارزة الفنية بيننا وبين الشعوب المتقدمة، لكان إحساسنا بالمذلة أكبر بكثير مما نحس به ونحن نهزم هزائم نكراء في مباريات لكرة القدم. لا يشفع لنا التشدق بالانفتاح الفني ونحن نبقي على الأمية الفنية والثقافية؛ إذ ليس كل انفتاح فنا. إن أفلاطون يوصي السلطان بأن يحسن الإصغاء حتى يكون على بينة بما يعزفه الشعب. من المعلوم أن لكل زمن موسيقاه، فالطبول تقرع لتحريب النفوس زمن الحرب، والعزف على آلات السحب والجر يساهم في تليين العواطف وتسكينها زمن السلم. فمن خلط بين اللونين من الموسيقى، يوشك أن يثبط عزائم النفوس زمن الزحف، وأن يحمسها زمن السلم. ولا يحق للمؤسسات الثقافية الاستهانة بسؤال الإبداع في الثقافة المغربية، خصوصا ونحن نعيش مرحلة مفصلية أصبح عندها الإنسان المغربي يشعر بعمق تاريخه ومدى قدرته على التأثير خارج حيزه الجغرافي. لم تبرز الحاجة إلى الاعتناء بالثقافة المغربية مثل بروزها اليوم. فلقد آن الأوان أن تقوم الثقافة المغربية بدورها كرافعة تخدم توجهات البلد الاستراتيجية، وتدافع عن قضاياه، وتصحح صورته، وتساهم في تبويئه مكانة تحت شمس الثقافة المعولمة. حين يستقر الوعي بضرورة تأهيل الثقافة المغربية للخروج للعالم، للآخرين، عوض الاكتفاء بصناعة جيوب للثقافة المغربية في الخارج، عندها ستمتد جسور التواصل بين الطاقات الإبداعية المغربية في الخارج وفي الداخل. وخلاصة القول أنه لا سبيل للثقافة المغربية للخروج نحو العالمية إلا سبيل العمل، ولا حاجة لهذه الثقافة تعدل حاجتها إلى مؤسسات تحرص على الاعتناء بالتفاصيل الصغرى التي تصنع التميز الثقافي والتفوق الحضاري وتعنى بتلقين هذه التفاصيل إلى الأجيال الناشئة.