على الرغم من استصدار بيان(( انتهى الكلام))..فإن الكلام سيظل مستمرا،اليوم وغدا، حول السلطة السياسية بالمغرب...ذلك أن الكلام من مقومات استمرارية السلطة، كقوة مادية ورمزية، تنشد الترسيخ والدوام...، وبالتالي، ودون الاستطراد في سياقات لعبة الأخذ والرد بين الفرقاء السياسيين في قضية تشكيل حكومة مغرب اليوم، يمكن القول إن ظروف وإرادة وأجندة الحوار والتشاور الوطني حول تشكيل الحكومة، ستظل مفتوحة أمام الأطراف المشاركة في اللعبة السياسية، التي نريدها أن تكون ذات رؤى استشرافية وخطوات إيجابية، تستحضر دقة المرحلة التاريخية، في أبعادها الوطنية والإقليمية والدولية، تلافيا لحالات الانسداد والارتداد إلى الخلف، التي أضاعت على هذه البلاد فرصا تاريخية مهمة للسير قدما نحو الديمقراطية والتحديث والتنمية... يقول الشهيد المهدي بنبركة، في محاضرة له حول الأزمة الوزارية لسنة 1958 ألقاها بقاعة الأفراح بالدارالبيضاء،وهو آنئذ رئيس المجلس الوطني الاستشاري:'' إذا استطعنا أن نتفهم المعنى الحقيقي للحرية أمكننا أن نكتب عن جميع الحوادث من غير أن نهيج الرأي العام. فالمعركة معركة دقيقة، ينتظر الشعب من ورائها أداة لتحقيق الأهداف الوطنية. وهذه المعركة هي التي سميتها أزمة المغرب، أما الذين يريدون أن يسموها معركة الحرية فهذا تضليل. لقد دنت ساعة إحقاق الحق، ونحن لسنا طلاب مناصب ولاجاه، وكما عرفنا الشعب جنودا مجندين نقتحم ميادين النضال...فإنه يعرفنا الآن الرعاة الأمناء لهذه الانتصارات المحققة بكفاحنا المرير..فإذا تحققت لنا الوسائل، فإننا سنقوم بمسؤولياتنا، وإذا لم تتوفر فسنقوم بواجبنا خارج الحكومة، نكون في كلتا الحالتين في خدمة المصلحة العليا للوطن. والواجب يقضي أن نكون صرحاء مع أنفسنا، وأن نقول بأن فترة الانتقال قد انتهت، ولنا من تاريخ الكفاح المشترك من حول جلالة الملك، ما يجعل جلالته يعلم صدقنا وإخلاصنا، لأنه لم يتعود منا غير ذلك...فالمسألة ليست مسألة تنافس على المناصب، وإنما تحمل المسؤولية، وما عدا ذلك فما هو إلا ملهاة يلهون بها الشعب. إنه سؤال ملقى علينا كمسؤولين في الحزب للبحث عن الرجال الصالحين للمكان الصالح...وإذا عرفتم أن هذه هي الخطة التي نتبعها في حل الأزمة، علمتم أننا نسير في الطريق المستقيم والمصير الذي يحقق للبلاد العزة والكرامة والرفاهية والرخاء، ولنا الضمانة الكافية في حكمة صاحب الجلالة لإيجاد الحل الذي يقتضيه الموقف. وجلالته يعرف هذه المهام، كما يعرف المغرب، ككف يده الكريمة، وهو وحده يستطيع أن يميز بين من يصلح للقيام بهذه المهام وبين من لا يصلح. ونحن نضع ثقتنا فيه بدون أي تملق، لأنه يعلم أننا لم نتبجح بمحبة العرش بعد الاستقلال، وأننا دافعنا عنه بدمائنا في الوقت الذي يئس الآخرون من رجوع صاحبه المفدى إليه، فالعرش شيء مقدس وشيء سام لدينا، فيجب أن ندرك من الآن أن البلاد مقبلة على مرحلة دقيقة هي مرحلة الوضوح، فالمسألة مسألة صراحة واستعداد لتحمل مسؤولياتنا، فعلى الحزب أن يعلم أننا مقبلون على مرحلة دقيقة وأننا نعد الأمة لبناء البلاد لأننا بناؤون سواء كنا داخل الحكم أو خارجه». (نقلا عن جريدة العلم العدد2965ليوم 21 أبريل 1958، وثيقة منشورة بمجلة وجهة نظر، العدد الثاني، شتاء1999). ما أشبه اليوم بالأمس، على الرغم من مرور مياه كثيرة تحت جسور الدولة المغربية الحديثة، فما أحوجنا اليوم إلى هذا الدرس في السياسة الحقيقية التي هي سياسة الحقيقة، تلك المقولة النبيلة التي ظل يرددها الشهيد المهدي إلى أن جاءه القدر المحتوم، ليظل سؤال حقيقة قتله وحقيقة قبره يؤرقنا ويحرقنا في كل لحظة وحين...فوفاء لذاك الشهيد والعقد الفريد، ووفاء لهذا العقد أو الرباط المقدس بين الملك والشعب، نقول: لنكن اليوم، عند حسن الظن ببعضنا البعض، ولنكن في مستوى النخبة السياسية الديمقراطية المراهن عليها كثيرا، من أجل إنجاح هذا الورش التاريخي، المحفز نحو الدخول في زمن الحداثة (السياسية والثقافية)، وإذا تلكأنا مرة أخرى، أو لم نتمكن من ذلك، لا قدر الله فلا يجب أن ننسى أن ‘' الملك يحكم ببطانة (القوة الاحتياطية الثالثة بتعبير الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي)، لأن النخبة ضعيفة، ضعيفة في البرلمان وفي غيره من المؤسسات، لأن الجمهورلا يزال أميا والأمية تنافي السياسة من منظور العروي . إذا تغيرت هذه الأوضاع، أي تحققت شروط الديمقراطية، عادت النخبة نخبة حقا، قادرة على الحكم فعلا بتكليف من النواب وتحت نظرهم. يظل الملك مرجعا ضروريا، لا كأمير بل كإمام، حتى وإن رفعت إليه مسألة خلافية مصلحية، لأن الرجوع إليه يتحتم عند الالتباس...''.(عبد الله العروي، ديوان السياسة، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء،2009، ص146). وإذا كان سؤال الحداثة السياسية، واحدا من ضمن القضايا الأساسية المطروحة في صلب انشغالات الفاعلين السياسيين بالمغرب المعاصر؛ فإنه لا بد من التوضيح أن الواقعية السياسية تستدعي منا ألا ننساق وراء موضات أو موجات اختزال الحداثة السياسية في مجرد دعوات أو صحوات أو صيحات سياسوية، تنشد تحقيق القطيعة الجذرية أو فك الارتباط مع الماضي، والارتماء الرومانسي في أحضان المستقبل، متناسية بذلك الخصوصية السوسيوتاريخية للمجتمع المغربي المركب بلغة بول باسكون، الذي تتناضد داخل بنياته المجتمعية أنماط تقليدية وأخرى حداثية، ومتنافية مع دروس التاريخ السياسي وتجارب الانتقال الديمقراطي، التي تعلمنا بأن التحديث يتحقق من داخل التقليد، وبأن الدمقرطة البناءة تتحقق في صلب المصالحات السياسية الخلاقة، التي تنبذ الجمود وتتوق إلى المزيد من التجديد، وفق خطوات مدروسة وجرعات مقاسة، لا تخاطر بكل شيء من أجل حصد لاشيء في آخر المطاف. يقول المؤرخ والمفكر المغربي الأصيل عبد الله العروي، في حوار أو لقاء مناقشة معه حول :''..كل ثورة ثقافية تتضمن خطرا بالغا بعدم الاستقرار. يمكننا أن نفهم تردد مسؤول، وخاصة لما يتعلق الأمر بملك، أمام خطر من هذا القبيل. لقد أعقبت كل الإصلاحات الكبرى، تلك التي يتحدث عنها المؤرخون، دائما انتفاضات اجتماعية عميقة ومستديمة. هل يمكننا أن نتمنى هذا؟ هل لدينا الحق أن نتمنى حدوث عاصفة، كثمن لولوجنا خشبة الإصلاح؟. سؤال ليس من اليسير الجواب عنه. ولهذا السبب أكدت على ظاهرة الجزرية. المغرب جزيرة مطوقة لا يمكن في نطاقها السماح للنفس بالمغامرة بعدم الاستقرار.لم أكن لأقول هذا لو أنني لم أستشعره بعمق''.( نظرة مؤرخ للمغرب في عهد الحسن الثاني ، جريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد9604، 13 أكتوبر 2009). في هذا الإطار، ومن صلب انهماكات واهتمامات الملكية المغربية الدستورية والحداثية، نجد الملك محمد السادس يصوغ لنا ‘'نموذجا مغربيا'' أو نمطا مثاليا بلغة عالم الاجتماع ماكس فيبر للتحديث السياسي المغربي، وهو النمط أو النموذج المبني على الوحدة في التعددية، أي النموذج الواقعي الملموس والمعيش بين المغاربة، الذي لا يجعل من مطالب التعددية والاختلاف،كشرط للتحديث أو التغيير، ‘'سيبة سياسية'' أو شعبوية فوضوية، أو عنصرية عرقية، تريد إلغاء مبدأ الوحدة الوطنية، ونسف التماسك المجتمعي والانسجام الثقافي المغربي ؛ بقدر ما يعتبر التحديث هو تلك الدينامية الخلاقة المتبادلة والمتفاعلة التي تفسح المجال لإبراز غنى وتنوع ‘'الطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة''. إن اللغة/الثقافة الأمازيغية مكون من مكونات الشخصية القاعدية للإنسية المغربية والهوية الوطنية، ذاك أن ‘' الشرق والغرب مجتمعان في ذاتنا كمغاربة'' كما يقول الأستاذ محمد شفيق (محمد أتركين، المثقف الأمازيغي داخل فضاء دار الملك...مجلة وجهة نظر، العدد 24 شتاء 2005،ص.17). وإذا كانت الأمازيغية مسؤولية الدولة ومسؤولية الأمة بكافة شرائحها، فإنها ، أي الأمازيغية، ليست ضرة للعربية وما ينبغي لها ذلك، بل هما معا دفتا باب لفضاء فسيح نسكنه جميعا، نريد من هاتين الدفتين أن ينفذ إليهما نور الحرية والمساواة والعدل'' على حد تعبير الأستاذ حسن أوريد (محمد أتركين، الاحتجاج الأمازيغي...وجهة نظر العدد19/20،ربيع/صيف2003، ص22). وبالجملة، وبعبارة المفكر السوسيولوجي المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، فإن «الإنسان المغربي يحمل في أعماقه كل ماضيه ما قبل الإسلامي، والإسلامي، والبربري، والعربي، والغربي. وإن أهم شيء هو أن لا نغفل هذه الهوية المتعددة التي تكون هذا الكائن.»( عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، ترجمة: محمد برادة، دار العودة، بيروت،ص.32) . وبهذا المعنى لا يكون التحديث السياسي بالدعاوي المغرضة لإحداث الطفرات أو القطائع النهائية، والقفز على واقعنا المجتمعي المعقد وهويتنا الثقافية والحضارية المركبة؛ بقدر ما هو تلك الديناميكية الإيجابية التي تساعد الحقل السياسي الوطني على الخلخلة والتطور، وتساعد الفاعلين السياسيين بالبلاد على اكتساب واستدماج واستيعاب ثقافة سياسية جديدة، بدون أن ننحشر كليا واستعجاليا في قالب أو إطار سياسي تنظيمي، قد يعتبره البعض تحديثيا، وهو لن يكون في الواقع، نظرا لخصوصية مجتمعنا المغربي المركب، إلا إطارا تقليديا محنطا جامدا، يعكس فقط قوة المصالح الفئوية، أكثر ما يساعد على تذويب هذه المصالح وتوسيع قنوات التماسك والاندماج المجتمعي العام. فضمانا لوحدة الصف الوطني، وللانصهار التاريخي الخلاق والمحفز، بين الملكية والقوى السياسية والاجتماعية، والحقوقية والاقتصادية والثقافية بالبلاد، وسعيا إلى إضفاء المزيد من الواقعية والعقلانية على الحقل السياسي المغربي، بتوضيح صلاحيات واختصاصات وحدود لعب، كل الأطراف والأطياف أو الشركاء داخل مجتمع متعدد، ولكن ما زالت تطبع بنياته السوسيوأنثروبولوجية عناصر الفئوية؛ يبدو أنه من المعقول التريث في استباق التاريخ أو القفز عليه، والتوقف مليا للتمعن في أطروحات المخاطرة من أجل إحداث ثورة ثقافية أو دينية سياسية ذات قطيعة نهائية مع الماضي؛ ذلك أن العجين التاريخي للمجتمع المغربي ليس لينا جدا، وإدراكنا للواقع هو الذي يبعدنا عن كل الحساسيات الراديكالية المتطرفة، سواء منها أصولية الأمام اليسار المتطرف أو أصولية الخلف اليمين الأصولي المتطرف ؛ وبالتالي فإن الرهان الآن ينبغي أن ينصب، أكثر من أي وقت مضى، على أن يتسع الحقل السياسي المغربي، ليصبح ذاك الإطار المستقبل لكل العطاءات والمساهمات والمبادرات، التي تصب في اتجاه إغناء أرضيتنا السياسية والسوسيولوجية المركبة والديناميكية، المكونة من الشرعية الدينية والشرعية التاريخية والشرعية الديمقراطية ‘'الضامن القوي والأساس المتين لتوافق تاريخي يشكل ميثاقا جديدا بين العرش والشعب'' كما جاء في ثنايا الخطاب الملكي التاريخي ليوم 9 مارس 2011. وبعبارة أخرى، فإن استيعاب تجربة الحداثة، لا يمكن أن يكون دون إدراك سيرورة العقل الغربي الذي أنتجها، ذلك أن القطيعة أو الانفصال عن التراث ليس عملية تلقائية فجائية ، كما أنه ليس خصاما وإنما تملكا وإحياء، كما يقول عبد الله العروي في مفهوم العقل. وهو أداة ومجال الحداثة الذي ينبغي أن ينتقل عندنا من ما أسماه بالعقل الإسم، وهو العقل الذي يهمه الفكر وحده، مهما كانت المادة المعقولة، إلى عقل الفعل الذي يهمه السلوك أو الفكرة المجسدة في فعل، هدفه النظر في ظروف مطابقة الوسائل للأهداف المرسومة أيا كانت( عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، الطبعة الثالثة،2001 ص.358 ص.359). إن إمكانية الحداثة تستلزم، في نظر العروي، القطع مع منطق الإسم، الذي يحد من قدرة وفعالية ومسؤولية الإنسان في عالمه الدنيوي، ذلك أن سبب تعثر المحاولات الإصلاحية الوثابة يرجع إلى افتقاد الجرأة على الحسم مع منطق الإسم/ منطق التراث، وبالتالي التيه في متاهات التوفيق والتلفيق. وهو ما يستدعي منا في المرحلة الراهنة، نقد العقل السياسي المطلق أو الخالص (العقل المنغلق/المتطرف/ المنتج لخطاب القطع واليقين في السياسة كما في الأخلاق)، من خلال إخراجه من قوقعته ودوغمائيته وطهرانيته، وطرحه للجدال والسجال في المجال العام المفتوح على كل الرهانات.. وهنا الدور الكبير لوسائل الإعلام المكتوب والسمعي البصري بالأساس التي ينبغي عليها أن تواكب الظرفية الحالية، وتنفتح على كل المكونات السياسية والفكرية للانتقال به (العقل المتطرف) من الديماغوجيا إلى البيداغوجيا، وتدريبه على السجال السياسي وعلى النقاش العمومي، بمعنى آخر إدخاله إلى ساحة التمرين الديمقراطي المحلي، الجهوي، والوطني،أو ليست الديمقراطية المحلية ورشا مهما، يجعلنا نتعلم كيف نفكر شموليا وندبر محليا؟/Penser global et Gérer local. من هذا المنظور، ينبغي لنا أن نفهم ونستوعب درس الجهوية المتقدمة الذي تصدر الخطاب الملكي المشار إليه أعلاه، والتي ما فتئ ملك المغرب الجديد يشدد على ضرورة الانخراط والمشاركة في إنجاح ورشها'' بما تنطوي عليه من تطوير لنموذجنا الديمقراطي التنموي المتميز''، مقررا تكريسها دستوريا بناء على توجهات أساسية متضمنة بتفصيل في خطاب 9 مارس التاريخي؛ وداعيا جميع الشركاء، من المنظمات الحزبية والنقابية و الفعاليات الشبابية والجمعوية والفكرية والعلمية المؤهلة، إلى المساهمة في النقاش العمومي حول الإصلاح المؤسسي والدستوري بالبلاد. إن المغالاة في المناداة بالحداثة أو لنقل التحديث الذي ما هو إلا الوجه التقني المظهري للحداثة تكاد تكون أحيانا مجرد ردود أفعال ودعاوى مغرضة و أحلام مغرقة في الطوباوية، عندما تدعو إلى القفز على الماضي والحاضر، بشوق رومانسي مفتون بالمستقبل المجهول، وهو ما يعني هجران ونفي أسئلة الواقع المعطى والمعقد، والحلم بواقع قد لا يتحقق إلا في الوهم. وهي دعاوى مفرطة في المثالية والعدمية السياسية، سرعان ما تجد نفسها فاقدة للمعنى التاريخي وللقوة الفعلية المتجسدة على أرض الواقع، لأنها بكل بساطة فاقدة للوعي الذي لن يجد ما يلتهمه، لأن أسنانه تكون قد تساقطت على حد تعبير الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه. والحال أن التحليل الملموس للواقع الملموس، الذي يحتكم إلى الواقعية السياسية ومنهج التدرج في التغيير الهادئ والبناء، يرى أن الحداثة مشروع ثقافي نقدي يستمر في مساءلة وخلخلة الواقع المعطى، دون الهروب منه أو هجره نهائيا، وهو المشروع العقلاني الواقعي الذي يشق ثورته الهادئة بإصرار، وبدون مزايدات أو تجميد للذات، وبعيدا عن الأطاريح الراديكالية المجتثة الجذور، ذات الشعارات البراقة، التي توهم الجماهير بأن الخلاص في قلب أو مسح الطاولة نهائيا للبداية من الصفر، بينما هي غارقة حتى النخاع في أقصى درجات المحافظة والأصولية والتقليد الجامد المستكين إلى خطاب رفض كل شيء ولا شيء يذكر... إن دروس سوسيولوجيا الواقع الملموس، تعلمنا بأن الشعب أو المجتمع يخدع نفسه في الكثير من الأحيان، كما قال المفكر السوسيولوجي الفرنسي مارسيل موس، وذلك عندما يفرز، في ظروف الأزمة والاحتقان، جماعات ذات نزوعات شعبوية أو نخبوية، تحاول أن تضفي على نفسها صفة القداسة والطهرانية في ممارسة السياسة، والحال كما يقول بيير بورديو السوسيولوجي الفرنسي المعاصر أن الكثير من'' أولئك الذين يدفعهم التطاول إلى أن يشعروا بأن من حقهم أو من واجبهم أن يتكلموا دفاعا عن الشعب، أي لصالحه، ولكن أيضا في محله وباسمه...، إنما يتكلمون في الواقع، دفاعا عن أنفسهم، أو على الأقل فهم يتكلمون عن أنفسهم، ساعين في أحسن الظروف... إلى التخفيف من حدة الألم الذي تولده القطيعة الاجتماعية، بأن يجعلوا من أنفسهم شعبا على مستوى الخيال''.( بيير بورديو، الرمز والسلطة، تعريب عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، الدارالبيضاء، 1990،ص،18). بكل واقعية وموضوعية، وبعيدا عن أي نزعة محافظة أو شعبوية، نقول إن الحداثة السياسية لا تتحقق بمجرد خطابات فضفاضة، سياسوية و شعبوية، أو قرارات نخبوية فوقية تتوخى التحديث والدمقرطة، بتحنيط أو تجميد المؤسسات والممارسات؛ بل إنها (أي الحداثة)، مثلها مثل رديفتها الديمقراطية، ليست مجرد وصفات جاهزة وصيغا نهائية، بقدر ما هي سيرورة مجتمعية مستمرة، تتحقق على ((المدى الطويل)) بتعبير مؤرخ الحوليات الفرنسي فردناند بروديل، بناء على تراكمات ثقافية ومؤسسية تسمح، أكثر فأكثر، بتشكيل ذهنيات وقناعات سياسية ، بالمعنى الأنثروبولوجي العام، داعمة للتحول، من خلال قدرتها على استيعاب التراث وفهم الماضي بشكل تنويري، والانغراس في الحاضر بشكل علمي عملي وميداني، والانفتاح على المستقبل بشكل استشرافي وعقلاني؛ وبتعبير الباحث/المفكر السوسيولوجي المعاصر جاك بيرك، فالحداثة (السياسية) هي تلك الحركية الدينامية الخلاقة التي لا تجعل من المطالبة بالتحديث رفضا قاطعا للتقليد.. فلأن التاريخ الاجتماعي يؤكد بأن كل عملية تجاوز لا تتم خارج جدلية الاستمرارية والقطيعة، وأن كل تغيير لا يجوز بدون رواسب، وأن كل ثبوتية تستحيل دون تعديل(G.Balandier ; Sens et Puissance, PUF,Paris ,1971,P.99)؛ فإن التغيير السوسيو السياسي ليس بالعملية السهلة، لأنه لا يرتهن فقط بتعديل موازين القوى على المستوى السياسي الأفقي، والانتخابي، بل يتطلب إلى جانب ذلك، وفي الوقت ذاته، تفجير نمط الحياة والقيم والمعتقدات و السلوكات...التي ما زالت ترتد في معظمها إلى رواسب فكر عتيق يهدد كل طموح نحو التطور والتحديث. وما دام كل تغيير، سواء كان يرمي إلى تبديلات عميقة وجذرية، أو كان يهدف إلى الترميم والإصلاح، قد لزم أن يبتدئ من هذه القاعدة الاجتماعية التي ليست الدولة، وفق هذا التصور، إلا وسيلة لتكريسه، فإن الإشكال المطروح يصبح مزدوج الأبعاد، بحيث يصعب معها تحميل عبء كل المسؤوليات للدولة.''(محمد كلاوي، المجتمع والسلطة، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء،1999، ص155). ونستطيع أن نقول، إن منظور محمد السادس للتحديث السياسي ولا ننسى أنه ملك مثقف عارف، حاصل على دكتوراه دولة في القانون العام في مجال علاقات التعاون الأوروبية/المغاربية يمتح من تلك النظرية الأنثروبولوجية السياسية الدينامية والتفاعلية للتحديث، كما صاغها الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي المعاصر جورج بالاندييه، متحدثا عن (دينامية الداخل والخارج) التي تطبع تاريخ التحولات السياسية في المجتمعات الإفريقية، وهي الدينامية التي تميز مختلف مؤسسات المجتمع السياسي، بما فيها الأحزاب السياسية الجادة. وبعبارة أخرى إن العبقرية المغربية تكمن في تلك الدينامية المتجددة بين الملك والشعب، وفي ذلك الاختلاف المولد للائتلاف بين مكونات الأمة المغربية، وفي التعددية المجالية، والسياسية والثقافية، المولدة للوحدة الوطنية؛ ذاك هو قانون سيرورة الدولة/الأمة ببلادنا الذي ينتجه ويجدده دوما واقعنا السوسيولوجي المتعدد والمتغير باستمرار.. فتحية جماهيرية شعبية موحدة، إلى هذه الملكية الدستورية الديمقراطية، الديناميكية والمتجددة باستمرارية خلاقة ومرونة خارقة، وفق متطلبات الدولة أو الأمة المغربية ذات الهوية التاريخية الراسخة والمنفتحة على مستجدات ورهانات وتحديات العولمة الكونية ، المطروحة على سلم أجندات المجتمعات والأمم المعاصرة، الوطنية منها، والإقليمية والدولية. (*) إعلامي، وباحث سوسيولوجي