من المؤسف جدا أن تكون سنة 2015 سنة الفوضى واللاعقلانية في المجتمع المغربي، سنة تم من خلالها تسليط بعض السهام المسمومة إلى الروح المتسامحة للمجتمع المغربي. لقد نجح رواد وصناع التحريض من تجريب وصفاتهم للتلاعب بالعواطف اللاعقلانية للجمهور في نقط معينة من التراب الوطني. لقد تمكنت هاته الوصفات من خلق انفعالات عنيفة وقاتلة، مصدرها فئة مجتمعية مغربية مسلمة استهدفت أفراد مغاربة مسلمين عزل في الشارع العام بدون مراعاة كون الشعب المغربي يعيش في إطار مملكة عريقة، ودولة للحق والقانون. إنها سنة مقلقة، سنة من سنوات حكم حزب العدالة والتنمية ما بعد دستور 2011، أحداثها المخيفة لا يمكن اعتبارها إلا بمثابة إنذار للدولة، ودافع قوي لتقوية الإرادة السياسية لتعميم الدعوة بكل الوسائل، وفي كل مكان، ولو بمكبرات الصوت (الشارع العام، المساجد، الأسواق ومختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية)، إلى احترام القانون واحترام تاريخ الشعب المغربي المناضل. لقد عشنا سنة مخيفة في وقت نتابع فيه القوى السياسية تتصارع سلميا، وبالوسائل المتاحة، للتقدم في تحقيق المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي يقوده ويرعاه جلالة الملك محمد السادس، مشروع الغاية منه تمكين العهد الجديد من تحقيق الانتقال الديمقراطي والثقافي ببلادنا، ليتاح للدولة والمجتمع معا إمكانية التجنيد السهل لأجيال الحاضر والمستقبل لخوض معركة المنافسة الشرسة من أجل تحقيق التراكم المادي المطلوب والكافي لجعل السياسة تميل إلى العقل على حساب اللاعقل. لقد عشنا هذه الأحداث والمغرب يتوفر على مشاريع ثقافية وفلسفية أنتجها عباقرة الفكر المغربي والعربي أمثال محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، محمد عزيز الحبابي، محمد أركون، حسين مروة، ناصيف نصار، محمد سبيلا، عبد الإله بلقزيز، محمد المصباحي،...إلخ، مشاريع أكدت اليوم بما لا يفيد الشك أن النهضة الحداثية تبقى إلى حد بعيد مرهونة بمدى تحقيق الترابط القوي ما بين التنوير الثقافي والعقل والتاريخ. فالتقدم في تحقيق العقلانية المجتمعية في التحاليل العميقة التي ميزت كتابات المفكرين أعلاه يبقى في واقع الأمر صعب التحقق والمنال ما لم يستند على دراسة وتحليل الأحداث التاريخية واستنباط العبر والدروس منها. لقد عشنا هذه الأحداث المخيفة ونحن في مرحلة سياسية كنا ولا زلنا ننتظر فيها ومنها إعطاء الانطلاقة لتقوية صلات الوصل ما بين المنتوجات الفكرية التنويرية وحياة المجتمع من خلال الدعم المؤسساتي والإعلامي. وهنا عندما يتم الحديث عن كلمة "الدعم" نفصد من وراءها الطابع الاستعجالي للتعبير عن إرادة الدولة للحسم المبدئي والنهائي في المشروع المجتمعي، مشروع لا يمكن أن يكون أساسه إلا العقل والتاريخ، ووقعه المنتظر لا يمكن أن يكون إلا تعميم العقلانية والتاريخانية في تفكير وممارسات الأفراد والجماعات ببلادنا. إنه المشروع الذي ينتظره المغاربة للمرور إلى مرحلة جديدة من تاريخهم، مرحلة تمكن الشعب المغربي برمته من تنمية قدراته على إنتاج التفاعلات الثقافية الإيجابية في إطار تطور الثقافة الكونية بسلبياتها وإيجابياتها في الحاضر وفي المستقبل. لقد عشنا مأساة التحريض المنتج للقتل في مرحلة كان المنتظر منها أن تكون الدولة قد أعطت الانطلاقة لعملية تحويل كل المؤسسات في الدولة والمجتمع إلى نظام سياسي وثقافي وتربوي قوي ومتكامل وناجع، نظام قادر على تجنيد الروح الجماعية للمغاربة لعقلنة فعل وأداء كل مؤسسات التنشئة والثقافة بدءا من الأسرة والكتاب، وروض الأطفال، والمدرسة، والإعدادية، والثانوية، والجامعة، ودور الثقافة، ودور الشباب، ونوادي التسلية، والمؤسسات الإعلامية السمعية والبصرية والورقية والالكترونية، والفضاءات التجارية التقليدية (الأسواق الأسبوعية) والحديثة (فضاءات التوزيع الكبير)، والمسارح، والسينما، والمقاهي الثقافية، والجماعات الترابية،...إلخ. إن الدعوة إلى التعجيل بإعطاء الانطلاقة الفعلية لمشروع النهضة الثقافية ببلادنا هي في عمقها دعوة إلى الانخراط في أحداث تاريخ تطور الثقافات الكونية. لقد أكد هذا التاريخ، والمشرق العربي يعيش اليوم ويلات الفوضى الهدامة، أن التمادي في تكريس الربط "الاصطناعي" ما بين النزعات المجتمعية للاعتزاز بالذات من خلال ملء كل الفضاءات بضوضاء دعوات الرجوع إلى الماضي ونكران عامل الزمن، هو في واقع الأمر عمل شيطاني هدام. إنه عمل مفبرك ومدروس، لا يتعب ولا يكل رواده من الدعوة إلى الرجوع إلى نقطة الصفر المآزرة بخطابات تستند إلى تأويلات نقلية متعددة للنصوص العقائدية الأصلية. غايتهم في ذلك هو الوصول إلى خلق نوع من الانطباع النفسي لدى المواطن يجعل مخيلته تتجاهل التاريخ، وبالتالي النجاح في تسريب جرعات متدرجة من السم القاتل في جسم الأمة العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة. والمغاربة يعيشون الأحداث السالفة الذكر المتفرقة جغرافيا، والتي لم ترق بعد إلى تهديدات حقيقية للمكتسبات والتراكمات المجتمعية، لا يمكنهم، من باب اعتزازهم بتاريخ بلادهم السياسي، إلا التعبير عن الاستعداد الدائم للاصطفاف وراء ملك البلاد لحماية رأسمال بلادهم اللامادي، ومواجهة كل محاولات المس بالخصوصية السياسية والفكرية المغربية. فإذا ما افترضنا نجاح رواد العنف العقائدي في المشرق العربي في ترويج صورة سيئة على الحضارة العربية الإسلامية على المستوى الكوني، والنجاح نسبيا في خلق نوع من الانطباع السلبي عند شعوب دول الشمال اتجاه طبيعة شعوب العالم المشرقي، وبالتالي السعي إلى تحويل دول المنطقة إلى كيانات ضعيفة يسهل التدخل في شؤونها واستغلال خيراتها (الفعل التاريخي الهدام)، فإن الخصوصية المغربية تحتاج اليوم إلى الدعم المؤسساتي القوي والحاسم ليتم الاعتراف بها بشكل نهائي كمشروع بديل للنهضة التحديثية بشقيها السياسي والثقافي بالمنطقة (الفعل التاريخي الخلاق). فإلى جانب النجاح في تحويل التراث الثقافي للقبائل المغربية إلى ثروة وطنية (التعدد والتنوع)، يحتاج المغرب إلى إستراتيجية ثقافية تنويرية لا تترك مجالا للمناورة في الشؤون الدينية. وعندما يتم الحديث عن الحاجة إلى هاته الإستراتيجية أقصد بذلك المأسسة القوية والدائمة للواجهة الشعبية بالشكل الذي يسهل تعبئة الجمهور لمناهضة العقل التراثي الهدام، والتقدم السريع في بناء صرح ثقافي يحصن حق الشعب المغربي في الحرية والديمقراطية والإبداع والفن، ويفند الخطط الرامية إلى تكريس الوصاية ذات الأبعاد المذهبية والقبلية والعشائرية والعقائدية....، وبالتالي يقوي الاستعداد الآني للتفاعل النقدي الإيجابي مع تطورات مآل العقل الحداثي وما بعد الحداثي الكوني (التكنولوجيا والرأسمال لا يمكن لهما أن ينجحا في قتل الإنسان وطبيعته). في الأخير نقول بثقة كبيرة، أن ما يميز الخصوصية المغربية هو أولا دور مؤسسة إمارة المؤمنين في تقوية الوحدة الترابية والدينية، وثانيا نجاح تطور المؤسسات المختلفة في المجال السياسي وتجاوز العقبات، وثالثا توفر البلاد على مشاريع فكرية ذات قيمة خاصة في المنطقة. هذا التميز وتفاعلاته خلق نوع من التكامل غير المباشر ما بين الفعل السياسي والدور الثقافي للمؤسسات ودور القوى السياسية في المجتمع. كما خلق كذلك تكاملا غير مباشر ما بين مشروع محمد عابد الجابري الرامي إلى ترميم مظاهر التنوير التراثي من خلال إعادة قراءة التراث لتأهيله وتقوية قدرته على الانفتاح على العقل الحداثي الكوني (العقلانية المحلية القابلة للتنقيح الدائم والتطور، وأصل الحداثة شرقي تم نقل مقوماتها إلى الحضارة اليونانية)، ومشروع عبد الله العروي الداعي إلى القطيعة مع العقل التراثي والتجند بكل الوسائل للانخراط مباشرة في تحديات العقل الحداثي الكوني (العقلانية الكونية والحداثة أصلها غربي مقوماتها الأولى الملموسة يونانية ورومانية). لقد كتب الجابري "نحن والتراث" و"بنية العقل العربي"،.... بينما كتب العروي "الأدلوجة العربية" و"مفهوم الحرية"،.... وفي كتب المفكرين كل ما من شأنه أن يحقق الترابط القوي ما بين التحديث الديني والثقافي وتطوير الديمقراطية وتقوية المؤسسات ببلادنا. كما يجب إطلاع القارئ في فقرة أخيرة أن إثارتنا أعلاه للدور الحاسم للدولة في هذا المجال، هو نابع من اعتقادنا الراسخ كونها هي الكيان المؤهل لقياس جرعات التقدم في التحديث على أساس مستوى التقدم في خلق التراكم في الرأسمال المادي وفي تحقيق العدالة الاجتماعية في البلاد . لكن في نفس السياق، لا يجب أن ننسى أن التحديث في طبيعته هو خلاق للثروة المادية واللامادية، وأن ما يقع اليوم من أحداث في المحيط الإقليمي والوطني لا يمكن القبول باعتباره سببا يدعو إلى الخوف لتبرير فكرة المس بالمكتسبات أو السماح بنوع من التراجع إلى الوراء.