حين مر من أمامي بنفس السرعة، وانعطف خلف الزقاق واختفى، تأكدت بأنه لم يكن بالمجنون العاري الذي رأيته منذ شهور خلت. كنت قد تعودت على المشي في كل صباح ، لا أحدد اتجاها معينا، أستيقظ باكرا ، وبعد دورة المياه، أرتدي ملابس رياضية ثم أفتح الباب بهدوء ، لتبدأ الخطوة الأولى نحو الحقول البعيدة . ذات صباح وبدافع غريب ، ترددت ولدقائق قبل أن أضع المفتاح في الثقب الصغير للقفل بل أخذت دون أن أعرف لماذا أمسح ولأول مرة الغبار الذي علق به ، وقد أخذت دقات قلبي ترتفع بشكل تدريجي ، بعدها أدخلت المفتاح في الثقب ثم أخرجته ، وبجانب زوجتي النائمة، جلست على حافة السرير حتى عادت دقات قلبي إلى وضعها الطبيعي ، فاتجهت مرة أخرى نحو الباب، وما أن وضعت المفتاح في الثقب ، حتى ساورني ذلك الإحساس الغامض والمخيف بأن شيئا ما ينتظرني خلف الباب، ولأني كنت أخاف من أحلام الفجر لأنها غالبا ما كانت تتحقق، فإن ما لم أتوقعه هو أن تكون هواجس صباح ذلك اليوم بتلك القسوة ،وأن أرى وكأنني في حلم مجنونان عاريان تماما ، يتكئان على سور المقبرة المقابل لباب منزلي وكأنهما ينتظران خروجي ، وما إن التقت نظراتنا وبذلك الشكل المفزع حتى شعرت بخواء داخلي فأغلقت الباب بسرعة ، وهرعت نحو البيت مرتبكا، فانتبهت زوجتي لذلك فأخبرتها بما رأيت ، لكنها لم تصدق ، وبعد تردد ارتدت روبها الصوفي وفي حذر اقتربت من الباب الذي ما أن فتحته حتى أغلقته في نفس اللحظة ، وعادت وهي تتعود ، لم ننبس ببنت شفة ، بقينا صامتين، وأحيانا نحدق وباستغراب في بعضنا البعض إلى أن طلع النهار. لماذا اختارا الجلوس هناك ؟ هل هي مجرد صدفة ؟. كنت أقطن بحي شعبي، بجانب سلسلة طويلة من المنازل القصيرة والمطلة على الشارع منذ ثلاثة عقود وأنا أجاور صمت الموتى ، لا أشجار على الرصيف ، ولا ضوء، و لا كهرباء، أياما بعد ذلك رأيت أحدهما ، كان المجنون القصير الوسخ ، تعرفت عليه بسرعة لأن ما كان يميزه هو حاجباه الكثان، لم يكن عاريا هذه المرة، كان يطوف بين عربات الخضر والفواكه ، وبين الفينة والأخرى يرمي بفاكهة وسخة، أو بحبة طماطم في فمه ومنذ تلك اللحظة ، راح وجهه يطاردني ، أجده في كل مكان ، ويحدث أحيانا أن يختفي لمدة شهر أو أكثر ، لكن سرعان ما يظهر ، ألتقي به وهو يتسكع وسط الحقول ، أو خلف حنفية الماء القريبة من بيتي، أو واقفا خلفي أمام دكان التبغ، أو فرن الخبز ، أقف قرب باب منزلي في المساء، فيمر من أمامي راكضا وهو يشير بيده يمينا ويسارا ، أذهب إلى حمام الحي فألمحه من بعيد نائما في رأس الزقاق، أخرج بعد ساعة ونصف تقريبا لأجده واقفا أمامي أمنحه سيجارة، أحاول أن أغير من مجرى الطريق ،وما أن أنعطف نحو زقاق آخر، حتى أراه مرة أخرى راكضا بدون اتجاه . كان مجنونا ، وليس مخبرا كما اعتقدت زوجتي، والحقيقة أن تلك الفكرة الملعونة بأن يكون المجنون منشغلا بمراقبتي قد خامرتني مرارا ، خصوصا حين أجده جالسا في نفس المكان قبالة باب منزلي ، لكن وكما عرفت في ما بعد،كانت تلك الصدف مجرد أحداث عادية قد يعيشها أي أحد. وكان قد مضى على اختفائه أكثر من شهر، حين ظهر من جديد، وسط أنقاض منزل قديم لم يتبق منه إلا نصف بيت آيل للسقوط . لا أحد رآه حين جاء لأول مرة، ومتى فتح باب المنزل الخرب ودخل ،وأثناء طريقي إلى العمل كنت لا أتردد في اختلاس النظر إلى ما بداخل المنزل عبر ثقب الباب الكبير ، كنت أعرف أن بداخله شجرة زيتون جافة ،وأكياسا من البلاستيك الخشن مليئة بمواد قديمة للبناء ، وما أن أعود في المساء حتى أصعد إلى السطح لأراه نائما وسط الرواق الصغير الوسخ. ذات مساء، و كان الجو ينبئ بمطر خفيف ، خرجت كعادتي لأتمشى قليلا بجانب شارع طويل ، وبعد ساعة من المسير، جلست لأستريح على كرسي بارد من الإسمنت أمام محطة الحافلات ، وما أن وصلت أول حافلة حتى كان المجنون أول من خرج من بين الركاب واتجه بسرعة نحو هاتف عمومي ،وبعد أن ترك وبحركة مسرحية يده اليسرى على ثقب الآلة ، وكأنه يضع نقودا وضع السماعة على أذنه ، وأخد يتكلم بصوت مرتفع مخاطبا صديقه الوهمي، بعدها وضع السماعة وأخرج أوراقا وسخة من جيبه، اختار واحدة وبدأ يركب الرقم من جديد ، وحين مررت من جانبه سمعته يردد غاضبا . لا تقل هذا .. لا تقل هذا.ثم ترك السماعة معلقة في الهواء ، ومر من أمامي مسرعا ، وكلما ابتعد أكثر إلا وتابع طريقه إلى آخر الشارع ، أحيانا يتوقف في ركن ما ، أو يغير من مجرى الطريق ،وكانت مطاردته من باب المستحيل ،رغم أنه كان يتوقف، ويقوم بحركات بهلوانية ، أو يجلس تحت اللوحات الإشهارية الكبيرة ويطلق ضحكة هستيرية ، أو يعطي ظهره لصورة قديمة للملك الحسن الثاني، كانت معلقة في مفترق الطرق قبل أن يجهش بالبكاء . أسندت ظهري إلى شجرة صنوبر و أنا أراقبه إلى أن اختفى ، و منذ تلك اللحظة لم يعد إلى المنزل الخرب ، لكن لا يمر أسبوع واحد دون أن أراه ، و كلما التقت نظراتنا كان يغمض عينيه اليمنى و يرفع حاجب العين اليسرى ، ومع مرور الزمن أصبح وجهه أليفا وفي المقهى تعودت على حركات يده اليمنى وهو يلتقط السكر، أو يقذف في جوفه كأسا من الماء أو الشاي . كان زبناء المقهى تروقهم طريقته في التحايل على قطع السكر ، حين يقف أمام أي مائدة ويتظاهر بالتفكير، وبسرعة يلتقط قطع السكر، ويمضي في اتجاه زبون آخر . وحدث ذات مرة و قد كدت أنساه، أن سمعت صوت سقوط كتل ثقيلة على الأرض وبشكل متتابع، ومن السطح رأيت المجنون، يقف وسط الرواق المترب، ويرمي بالأكياس الواحد تلو الآخر نحو الشارع ، وتوقف الناس عن السير، حتى انقطع المجنون عن قذف الأكياس، وفيما كنت أنتظر أن تسقط أكياس أخرى، ساد الصمت لدقائق فقط ، بعدها خرج إلى الشارع وأخذ يطوف حول الأكياس، قبل أن يرمي بها من جديد وبسرعة لافتة نحو البيت ، و بعد أن اطمئن إلى وضعها ، جلس قبالتها و راح يشير بأصبعه إلى الكيس الأول ثم الثاني والثالث ، ثم استدار جانبا، و أشار إلى الشخص الوهمي الذي خيل إليه بأنه كان يستمع إليه بأن يسكت ، لاحظت ذلك حينما وضع يده على فمه، بل اقترب منه وبدأ يحاوره بكلمات تناهى إلي القليل منها، لكني لم أستطع فهمها ، و في لحظة غضب بدأ يصرخ ويقذف بالأكياس مرة أخرى نحو الشارع. « يا إلهي». صرخت بقوة. إذ أن آخر شيء كنت أتصوره هو أن يقذف بالأكياس مرة أخرى نحو الشارع. بعد أن استرجع أنفاسه، اتكأ على الباب وأطلق ضحكة مدوية ، وهو يدعو شخصا ما إلى الدخول،لا شك أنها كانت امرأة ، إذ تراجع بهدوء إلى الوراء إلى أن ارتطم ظهره بالجدار ثم هرع بسرعة نحو الباب وأغلقه وأخذ بيدها، و بعد خطوتين طلب منها الوقوف ، كان في البيت الآيل للسقوط كيس كبير، وضع فيه المجنون كل ملابسه، و أمام قدميها أفرغه عن آخره . قميص ممزق الأطراف، سروال وسخ ، معطف طويل أسود ، طاقية بنية اللون وملابس أخرى مختلفة الحجم ،أدخل يده داخل الكيس، لم يجد شيئا، طواه ثم طوح به إلى الشارع، فتش بين الملابس ، اختار ثوبا ذا لون أحمر، تقدم من السيدة ثم عاد وتراجع إلى الخلف، ذلك أن الثوب لم يعجبه ، وضع يده على دماغه و أخذ يطوف حول الملابس،أخيرا اختار المعطف الأسود الطويل ، حمله وتقدم من السيدة ووضعه على ظهرها و أخذ بيدها إلى البيت. كان معدما كأي مجنون، ولكنه بدا سعيدا وهو يضع أمام عشيقته وعلى الأرض إبريقا وفنجانين وهميين ، وبعد أن شرب كأسه جلس على جانبه الأيمن و بدأ يداعبها ، و فجأة لفتت انتباهي تلك الحركات الجنسية المقززة وهو يخلع عنها ملابسها ويدعوها إلى الجلوس . كانت عشيقته لاتزال تحمل الكأس ، فأخذه منها ووضعه جانبا، ثم جثا أمامها على ركبتيه و أخذ يتحسس ساقيها، و كان واضحا بالنسبة إليه، أنها كانت أكثر رغبة منه، فباعد بين ساعديه وضمها إليه بعنف ، بل حملها وراح يطوف وسط الرواق إلى أن شعر بالتعب فوضعها أرضا، واسترخى بجانبها على بطنه، وبعد حركات سريعة تقلصت شبكة أعصابه، وأطلق صرخة متقطعة أشبه بحشرجة العذاب .