في الكثير من الأحيان تجد المدرسة نفسها متخلفة وغير مواكبة للمستجدات المحيطية ,بل إيقاعات تحركاتها لا تساير أفراد مجتمعها هؤلاء الأفراد أضحوا منفتحين أكثر على فضاءات تواصلية وافتراضية تشبع رغباتهم وتحقق طموحاتهم الوجدانية والمعرفية والروحية ومن ثم كان الالتفاف أكثر حول هذه القنوات لفعاليتها ولإجرائيتها لما لها من قدرة على تعبئة الجماهير وتحديد المقاصد, بل تغيير الأنظمة ذلك ما أخبرتنا به الثورة الشبابية «الفيسبوكية» في العديد من الدول العربية أليست المجتمعات أكثر حداثة من المدرسة؟ قد يوحى للبعض،بل للعديد من المتتبعين للشأن التربوي والتعليمي التعلمي أن الحراك والدينامية التي تعرفها المدرسة اليوم جراء الانتقادات التي وجهت لمدرسة الأمس باعتبارها حاملة لأزمة بنيوية متوارثة من جهة والجهود المبذولة كل من جهته أن تأليفا أو تأطيرا أو احتضانا لبيداغوجيات شهد لها بجدواها داخل قطاعات مهنية أخرى من جهة ثانية . قد يوحي هذا التحول والنقلة على أن المدرسة ستكون حداثية دونما منازع وتجديدية دونما شك, والحال أن التغييرات التي تعرفها المدرسة الآن تغييرات مرتبطة أيما ارتباط بأساليب التحديث ولا تجانب الحداثة وإذا لتحديث التربوي يمكن أن يتم لأنه لا يراهن إلا على تغيير صوري وتقني ولما كان كذلك فهو مطلوب لأن نفعه وجدواه لا يتعارضان مع البنية التقليدية والتفكير الماضوي ، وإنما يتعايشان ويستدمجان بعضهما البعض, إلا أن الحداثة حركة انفصال أنها تقطع مع التراث والماضي ولكن لا لنبذه وإنما لاحتوائه وتلوينه وإدماجه في مخاضها المتجدد ومن ثمة فهي اتصال وانفصال استمرار وقطيعة استمرار تحويلي لمعطيات الماضي وقطيعة استدماجية له. تكون الحداثة التربوية بهذا المعنى، استئصالا وقلبا لكل مكونات الشأن التعليمي وقتلا لكل رموزه وزعاماته، وإعلاء للهامش والمهمش فيه، وإفراغا لنواته الميتافزيقية والأسطورية والسحرية، و لشحناته الغائية والمحافظة ، ونزعا للطابع المقدس فيه،وتجاوزا لتقديس الجهل بلغة «أركون»، وتبجيل المربي والاحتفال بالقدوة و المثال،وفصلا مابين الذات العارفة وموضوع المعرفة، وزعزعة لكل أشكال القمع والرتابة،وقضاء على المطلقيات والدوكسا وعقلية القطيع . وبالمقابل إرساء لدعامات النقد والفحص والتحليل.وإنعاشا للنسبية والتفكيك,واحتفالا بالذات المبدعة والخلاقة والواعية بما هي ذات موجودة في العالم حرة ومسؤولة لها كرامة وذات أبعاد أخلاقية وقيمية. وإعلاء من شأن التخييل والإبداع والتجديد، وتعزيزا للتعدد والتنوع والاختلاف، فهل الأمر كاف لتحقيق حداثة تربوية داخل المدرسة بمجرد تبييئة بيداغوجيات،وإدماج تقنيات تواصلية حديثة،وسبورات إلكترونية ورقمية، ومد المدارس بشبكات عنكبوتية،والحرص على التدريس بجذاذات إلكترونية،وتحويل جدارات القسم إلى جدارات ممغنطة ومكهربة،وتتبع الطاقم التربوي والتفتيشي للشأن التعليمي عن بعد.وتقييمات استعجالية لتجارب لما تستقر بعد...، هل هذه المداخل كافية لتثبيت الحداثة التربوية؟ لا نعتقد، لأنها ببساطة أدوات وآليات ترتبط بالتحديث وأبعد أن تكون مرتبطة برهان الحداثة. صحيح،هي مداخل أساسية للحداثة، ولكن ليست كافية لوحدها ما لم تكن ثمة نية استثباب الحداثة في شموليتها بما هي رؤية للكائن وللعالم. ألم نعش زمنا أطول على التحديث ومكتسباته، من منا ينكر ذلك البرلمان والمؤسسات البنكية، والسكك الحديدية والآن «ترمواي» والهواتف النقالة والحواسيب والسبورات التفاعلية والشبكات الإعلامية وقس على ذلك المنوال أليس هذا تحديثا تقنيا؟ في شك أننا متقدمون تحديثا ومتأخرين حداثة أو بالأحرى بلغة العروي عشنا حداثة مادية ولم نعشها فكرية. يكون المطلب والحالة هذه أن لا يتم التعامل مع الحداثة التربوية تعاملا انتقائيا وتجزيئيا وبراغماتيا كذلك كما هو الشأن لباقي أصناف الحداثات سياسية كانت أم اجتماعية أم دينية لكي لا تكون النتيجة عكسية أي تكريس التقليدي والماضوي بشكل تحديثي وفي لبوس حداثي . ألم يحن الوقت لقتل الأب بدل تقديم الابن_الكبش فدية ؟ فالمطلب الملحاح من تعليمنا ، ألا يكرس ما هو موجود ويحافظ على ما هو قائم وإنما أن يغير ويخلخل بل أن يساير ويواكب الحراك الاجتماعي والتحولات السوسيو ثقافية التي تعرفها المجتمعات الإنسانية دونما استثناء. تكون المدرسة بهذا المعنى معنية في أن تراجع وظائفها الاجتماعية والتربوية التي سطرت لها ردحا من الزمان لترسم لها مسارات جديدة ومسالك غير مطروقة وأن لا تكون المسؤولة الأولى والأخيرة عن تمدرس المجتمع كما يقول «ديبي» إذ ينبغي أن تتقاسم هذه الوظيفة مع قنوات اجتماعية أخرى . كيف لا وفي العديد من الأحيان تجد المدرسة نفسها متخلفة وغير مواكبة للمستجدات المحيطية بل إيقاعات تحركاتها لا تساير أفراد مجتمعها هؤلاء الأفراد أضحوا منفتحين أكثر على فضاءات تواصلية وافتراضية تشبع رغباتهم وتحقق طموحاتهم الوجدانية والمعرفية والروحية ومن ثم كان الالتفاف أكثر حول هذه القنوات لفعاليتها ولإجرائيتها لما لها من قدرة على تعبئة الجماهير وتحديد المقاصد بل تغيير الأنظمة ذلك ما أخبرتنا به الثورة الشبابية «الفيسبوكية» في العديد من الدول العربية أليست المجتمعات أكثر حداثة من المدرسة؟ أليست المدرسة محافظة في طرقها لموضوعات تخص الشباب والمراهقين هؤلاء أضحوا افتراضيين ومنخرطين في صناعة القرار والاختيار الحداثي باعتبارهم أجيال أزرار وأجيال البث الحي والمشاهدة الحية سئموا الخطابات الجامدة والمحنطة؟ أليست المدرسة اليوم مدعوة أكثر من أي وقت مضى تغيير نظرتها لمراهقيها وإدماجهم ضمن برامجها ومناهجها والتخلي عن المحافظة والوصاية والتقليد؟ كيف لا ، وقد يجد المدرس أو المدرسة حرجا في طرق موضوعات تخص المراهق والمراهقة وتربيتهما الجنسية داخل الدرس إن سلمنا بوجود تربية داخل البرامج فما يكون للمراهق والمراهقة إلا ارتياد الأندية الخلوية وسد ثغرات ما ينقصهما والإطلاع على ما عجز الدرس عن إيضاحه أو تحاشى ذلك بشكل مباشر وتطبيقي. أليس من باب المفارقات أيضا أن نجد تدريس الفن والتشكيل والموسيقى غالبا ما يتم بأغلفة كهنوتية وغائية وإقصائية لكل ذوق فني وجمالي؟بله أحيانا تجد مدرس الموسيقى له مواقف جاهزة وعدائية للموسيقى فضلا عن جهله للأوبيرات والمدارس الفنية والإبداعية . لا نستبعد أن تنمية الميولات الإبداعية والفنية لدى الناشئة مسؤولة عنها المدرسة عبر منهاجها وبرامجها ولكن واقع الحال يعكس تنمية التخلف وتعشيش التقليد فكيف يستساغ تخصيص درس في العبادات يستهدف نواقض الوضوء أو كيفيات الغسل لطفل بالابتدائي لما يحتلم بعد ناهيك عن أهوال القبور ويوم النشور وما شابه ذلك . أليس كان حريا بالمدرسة أن تتوجه في سن مبكرة إلى التخيل و الإبداع والفن والجمال وان تستهدف الجانب الحي في التلميذ والجانب النافع أيضا؟ وان تنمي ملكات النقد والتمحيص والشك والتساؤل والاختيار والاستقلالية والإرادة والذوق والمهارة والقضاء على الحفظ والاستظهار. أليست مداخل الحداثة التربوية متعددة لكنها تلتقي عند مصب واحد يفرض قطع الصلة بشكل جرئ مع كل ما من شانه أن يكرس التقليد ويورث الجمود والسكون وبالتالي فتح كل الآفاق المستقبلية للناشئة؟. *مبرز في الفلسفة