مساء السبت 10 دجنبر الجاري، ترك الحضور النوعي الذي وفد لمتابعة فعاليات حفل تقديم وتوقيع رواية «جراء» للكاتب والتشكيلي المصطفى غزلاني ببن سليمان، برودة الطقس المهيمنة على المدينة، لاجئا إلى دفء مقر جمعية بنسليمان الزيايدة الذي احتضن اللقاء الثقافي المذكور؛ لقاء أداره عبد الإله الرابحي بمهارة العارف بخبايا النص المقارب ومعماره وتجريبيته الحيلة على سؤال: «هل القارئ العربي عامة والمغربي خاصة قابل لاستقبال منجز سردي من صنف الرواية الجديدة؟»، واختتم بشهادة لصاحب العمل تسائل فعل الكتابة وتقنياتها والوضع الاعتباري داخل النصوص لكل من الكاتب والسارد والشخوص والفضاء. في مداخلته حول رواية «جراء»، قارب الباحث والأستاذ الجامعي عبد الله المعقول في البدء عتبة العنوان تركيبيا ودلاليا، ثم بين كون الرواية تنهض عبر لعبة مركبة يمكن تكثيفها في مقولة «مرآة بالألوان». ومن تجليات ذلك، يوضح صاحب كتاب «طوق الكتابة»، مرآة الكتابة حيث التفكير في الكتابة بالكتابة (الكتابة صيرورة الكتابة تأويل الكتابة ارتماء في العوالم الممكنة...)، مرآة الفضاء (فضاء القرية وصور التجاور والحسية والرؤيا «الطفولية»/ فضاء المدينة وصور التحرر وإشباع الرغبة..)، بالإضافة إلى مرآة الواقع الذي لا يخلو من أعطاب عمل الحكي على فضحها بطريقة فنية مكثفة أساسها الهجاء الساخر... «الميتا- سرد بين سؤال الكتابة والبطل الإشكالي»، هو ذا العنوان الذي انتقاه الشاعر والناقد والباحث عمر العسري لقراءته في «جراء» ولها. قراءة مؤلف «الفرشاة والتنين: مصاحبات نقدية في الشعر المغربي المعاصر» استدعت، في البداية، بعض التجارب الروائية العربية التي عمدت إلى توظيف آلية الكتابة بالكتابة داخل الرواية، موضحا أنه يقصد بهذا «مدى قدرة النص السردي على سرد سيرة كتابة رواية متفرعة من النص الأصلي. وبالرؤية ذاتها تمثل الكاتب والتشكيلي المصطفى غزلاني هذا البعد التجريبي في كتابة روايته الجديدة «. لقد حاول الكاتب، يستطرد عمر العسري، من خلال «جراء» كتابة رواية معاصرة أكثر من ميله إلى كتابة رواية تقليدية. فالرواية من خلال بطلها الإشكالي «يوسف» تسائل الكتابة بشكل خاص، وتعيدها إلى تقنيتها، وهي تميز بالإدراك الذاتي للكاتب/ السارد/ البطل الشكل البنيوي لكتابة قصة حب فتاة تدعى جراء. ووفق موقع ديواني «عندما يتخطاك الضوء» و»يد لا ترسم الضباب»، فالرواية تضعنا بدءا من النص المفتتح إلى آخر مقطع سردي منها، أمام خطاطة لا تكتمل مفاصلها لأنها بكل بساطة تعلن انفصالها عن الكتابة المباشرة. إنها تعيد إلى أذهاننا صوت الكاتب، وأهمية التفكير بصوت عال داخل الحالات السردية القصيرة والأشبه إلى مشاهد بصرية، وأيضا تفسح لنا المجال للتمتع أكثر بلغة بسيطة وإيحائية. ف «جراء» تحاكي ذهنية كاتبها المتمرس في التشكيل والشعر، هو الذي غامر بسارده حتى يسرد حكاية تفكير داخل ذهنية روائي ننفذ من خلاله إلى أعماق الكتابة وأسئلتها. واعتبر عمر العسري أن هذا الوعي المنشغل برسم الكتابة وإعادة الكتابة يعود إلى حقيقة أن شخصيات «قصة الحب»، التي هي «جراء»، ينوون التمرد على من فكر فيهم، فالقارئ مدعو أن يحتاط من لعبة الكتابة وتبادل الأدوار وكثرة الفجوات التي تخلقها الرواية أثناء الحوار. إن «جراء»، وفق الناقد والباحث المتدخل، رواية مفتوحة على كل التأويلات لأنها تستحضر قصة حب غير متحققة لنفسها إلا إذا بقيت قصة مستترة، قريبة من عالم الأحلام، حيث التفكير في الكتابة والدفاع عنها يشكل رغبة في الدفاع عن العالم. وفي شهادته الموسومة ب «الكتابة المفخخة»، تساءل الشاعر والقاص عبد الهادي الفحيلي: هل جراء فعلا من كائنات الكاتب الخاصة؟ هل هي فعلا أم إن الاسم فقط هو ما يملكه منها؟ في سياق مقاربته للجواب على علامات الاستفهام هذه، يقول المتدخل: «يعلن يوسف منذ البداية -في الرواية- أنه لا يريد منها سوى أن تكون صادقة وجامحة في حبها تماما كما هي حال فايدة. لكن هي ترفض أن تكون كما شاء لها. تتمرد منذ البداية. بل تجره من قفاه وتلوي عنق أشيائه وترسم له مصيرا آخر وهو الذي كان يتوهم أنه يصنع مصيرها ومصير صؤاب». ثم يضيف صاحب « شجرة الحكاية» و»مثل تفاحة مقضومة»: «يوسف أيها الصديق أعرض عن هذا. هكذا كانت تصرخ فيه. يجلس على كرسي معمر بين الحائط والشجرة ويتأمل، وهو يخلل لحيته السوداء الطويلة الخفيفة. كأنه في جب الحكمة إلا أن الحقيقة تنقشع أمامه عكس ما تنقشع عليه خارج الجب. هل يعيش وهم الحقيقة؟ جراء تعرف أكثر مما يعرف. هو يدعي المعرفة والحكمة بل النبوة. لكن هي لا تدعي شيئا. تعرف ولا تدعي. تعرف الأشياء كما تبدو وليس كما ينبغي أن تكون. يبدو يوسف في الرواية جاهلا وهي تقوده في دهاليز معتمة، تنز بمعرفة وحقيقة مغايرة، لم يكن يعرف لها عنوانا. معرفته متعالية ومعرفتها أرضية حقيقية، مترعة بالضوء وبالظلام الطبيعيين. «ألا تريد، جراء، أن تقول لنا: اجمعوا أسماءكم وأقلامكم أيها الكتاب وانصرفوا؟ لا وقت الآن ليوسف، هذا وقت جراء. خلقت شخصيةَ «ظافر» دون علم الكاتب. توزع بينه وبين صؤاب حبها بديموقراطية. قالت لهما: «اعتبراني عالما أو نهرا أو جبلا». لكنها في الأخير امرأة وكفى، والمرأة كل ذلك بل إلهة.» وفي تركيب مكثف ل «جراء» وعوالمها ومعمارها، يؤكد الفحيلي أن الرواية هذه « اختزال لقلق الكتابة، تلك الرحلة في المتناقض والمختلف المتآلف. رحلة نحو المجهول الذي يعِنّ لغرور الكاتب أن يكون معلوما. هكذا أراد الغزلاني أن تكون الكتابة، سفر نحو اللاكتابة، نحو اللا انتظار.»