في سينما الأطلس بوسط الجزائر، كنا مدعوين إلى لقاء التاريخ، وبعده الراهن الجزائري. فهنا في هذه القاعة يقول أنصار أيت أحمد، أو دا الحسين، تمت سرقة أفكار الثورة الجزائرية. ففي الوقت الذي كان قادة الثورة ينتظرون اجتماعا في مكان قريب منها لوضع الدستور،اجتمع بن بلة، والعهدة عليهم، مع أنصاره وصنعوا الدستور وفرضوه على الجمعية التأسيسية. فكانت استقالة أيت أحمد وآخرين وبدأت الخلافات مع بن بلة وبعده مع بومدين، وبدأت السيرة المرة لزعيم الفافاس، أو جبهة القوى الاشتراكية الجزائرية. قبل الوصول إلى القاعة شاهدنا حضورا أمنيا كثيفا للغاية، وسيارات الشرطة «خيط من السما» والبوليس أيضا لا يعد، والهيليكوبتر تحلق فوق القاعة. كانت الجزائر تشد أنفاسها وهي تراقب هذا التجمع، الأول من نوعه بالنسبة للفافاس منذ 2001، والأول بالنسبة للجزائر العاصمة منذ 2004 . كان حدثا استثنائيا بامتياز. لهذا، كان الحضور الأمني شديدا. دخلنا البهو الذي أعده لنا مضيفونا الجزائريون، هناك التقينا مع سيدة ملتفة في جلبابها، وتحمل صورة شاب في مقتبل العمر. لم نكن في حاجة إلى تعليق وإلى توضيح، لقد رأينا نفس الأم التي كانت تقف في شوارع الرباط والدار البيضاء وهي تحمل صور ابنها المخطوف. إنهن نفس الأمهات يرثن الغياب عن لحظات الدم القاسية. كانت الأم محتشمة، وسرعان ما انطلقت بقوة عندما صافحتنا وبدأت تتحدث عن ابنها وأبناء الأخريات وأزواجهن وبنات الجزائر اللواتي اغتصبن في المخافر والمعتقلات السرية. كما تحدثت بعربية فرنسية مزدوجة. سنجد السيدة في القاعة مرة أخرى. دخلنا بالدهشة، ومكثنا فيها داخل القاعة. أزيد من 5 آلاف جزائري أغلبهم من الشباب يرددون الشعارات الملتهبة. القاعة من طابقين، طاقتها الاستعابية هي ثلاثة آلاف وخمسمائة مقعد، لكن العدد الذي كان في جنبات القاعة وفي زحام الممرات وبين الكراسي نفسها كان كثيرا للغاية. ردد الشباب شعار العالم هذه الأيام «الشعب يريد إسقاط النظام» رددوا السلطة القتلة، والخيانة كاينة، رددوا، أيضا، السلطة جهوية والفافاس وطنية.. شيء واحد لن أنساه، ولن ينمحي، عندما وقف الجمهور كله، صامتا خاشعا، يد على القلب وشارة النصر مرفوعة في صمت روحي عميق، يهز الكيان يتابع النشيد الوطني المغربي، إلى جانب النشيد الوطني الجزائريوالتونسي. اهتز كياني اهتزازا كبيرا، لتلك الروحانية ولذلك الإجلال، وقلت إنني جئت برسالة إلى مناضلي الجبهة والشعب الجزائري، ولكنهم سبقوني إلى رسالتهم إلينا، أننا نحبكم ونحب نشيدكم كما نحب تونسوالجزائر. وقفت القاعة مرار عندما تحدثنا عن الشعوب المغاربية، تردد شعارات المجد والحرية، وقفت تصفق عندما حدثناها عن شهدائنا وعن شهداء الجزائر في الثورة الأولى التي علمت العالم كيف يموت من أجل الاستقلال وثورة تونس التي تقود الكثير من الشعوب اليوم إلى الحرية، كما في لوحة دولا كروا..أينك أيها العزيز تعالى وانظر هنا في قاعة الأطلس هؤلاء الشباب يقودوننا إلى هذا المغرب الكبير الموحد، بعيدا عن الحسابات الضيقة ورهاب الاعتزال والخنادق الوهمية في الرأس والخيال. لم نستفق من الدهشة طيلة ساعتين أو يزيد في قاعة الأطلس، ولم نستفق منها إلى حد الآن، نحن الذين رأينا ذلك الشعب الجميل يحتفل بإخوانه في تونس والمغرب. في الحديث الذي قاله الأمين العام للجبهة كريم طابو، كل عصارة الألم وأيضا كل فواكه التجربة، ترى أيت أحمد دون أن يحضر، وهو يلقن التاريخ المر لأبنائه الشباب الذي يقود تجربة جد غنية في جزائر اليوم. يجمع كريم بين بلاغة الكلمات وبين المغزى السياسي. استطاع أن يقنع القاعة بأن تنصت إليه وهو يتحدث عن طريق النضال السلمي الطويل والشاق، وأن يقنعها بأن «هم» في ساحة العنف هم الأكثر ضراوة وتميزا، لأنهم استطاعوا أن يبنوا لهم «جيشا وصحافة وأبواقا وإسلاميين حتى». كانت عبارته عاصفية، وهو يردد، لقد قالوا إن «هناك «إسلاميون مسلحون» ونحن نقول نعم، ولكن هناك «إسلاميون من مؤسسة السلاح». il disent qu il ya des islamistes armés et nous disons qu il ya aussi des islamistes de l'armée وكانت الجملة كافية لكي تشتعل القاعة. ولما أضاف أنه «في ليبيا هناك قذافي واحد، لكن كم من قذافي في قصر المرادية»؟ اشتعلت من جديد. لكي يتفرغ من بعد إلى درس طويل في الحكمة وعدم الخضوع إلى الاستفزاز. في القاعة، أيضا وقف الجميع، للتصفيق عندما تقدمت أم المختطفين تتحدث وقالت للرئيس «يا رايس فين وليداتنا، اعطيونا ندفنوهم ونحزنوا عليهم». وقفت القاعة بكل حضورها إجلالا للأمهات المتلفعات في جلابيب الحزن والأباء السادرين في الحنين الممض للفقدان. همس الرفيق الزاوية، من منتدى الحريات في تونس، في أذني «أنتم في المغرب تشعرون بتعاطف خاص معهم» قلت له «لا شك أنها أمي وأنا لا أعرفها بعد»!! لم يعد المغرب الكبير جملا متراصة في خطاب ولا عناوين مقالة تستنجد بالبلاغة لكي تقنع بجدواه، بل كان حرارة وعرقا وأصواتا وروحا ودما وسواعد ومسؤولية كبيرة بالإحساس بالوقت الضائع. كان الجميع يريد أن نصل، حالا إلى المغرب الكبير الديموقراطي والحر والمتجه نحو المستقبل. وراءنا اليوم جزائر العاصمة الباردة، والبيضاء، وراءنا الحواجز الأمنية والكآبة المتراصة على الجباه، وراءنا شعب يحدوه الأمل في تغيير سلمي وعميق، لأجل المغرب الكبير. أمامنا ... الأبدية لكي نخلد ذلك اليوم، ونخلد القواسم المشتركة كلها، أي نحن شعوب المنطقة، قواسم أنفسنا المشتركة. (انتهى)