أتذكر وأنا تلميذ بثانوية ابن خلدون بمدينة الجديدة أنني كنت شغوفا جدا بالرياضة خاصة كرة القدم، وأيضا كنت أشارك وأفوز في المسابقات الثقافية التي كانت تنظمها المؤسسة كل سنة في الشعر والقصة والمسرح. ولم أكن كثير الاهتمام بالقضايا السياسية أو المواضيع التي تدور في فلك السياسة. إلا أن حادثا معينا جعلني أولي اهتماما خاصا لبعض القضايا السياسية ومنها قضية اختطاف واغتيال المناضل الشريف المهدي بنبركة. ففي حادث ما سيتم طرد تلميذ زميل لنا في القسم من المؤسسة بدون وجه حق. فاتفقنا على عقد اجتماع أولي ضم 10 تلاميذ وكنت أنا أصغرهم وقررنا بدأ عملية التعبئة لدى أكبر عدد من التلاميذ تعاطفا وتضامنا مع زميلنا. قررنا تنفيذ اعتصام بالمؤسسة لمدة أسبوع. ومن ضمن الشعارات التي كنت أسمعها وأصبحت أرددها أنا أيضا: «المهدي يارفيق لا زلنا على الطريق»، ولكنني وللأمانة لم أكن أعرف مغزاها. فبدأت النبش في سيرة المهدي بنبركة. سألت زميلا لي في القسم وكان هو أول من اقترح فكرة الاعتصام. و عرفت في ما بعد أنه ينتمي إلى شبيبة أحد الأحزاب اليسارية. تكلم لي بعجالة عن الشهيد المهدي ثم مدني بعدها بورقة عن تاريخه النضالي المشرق. وعرفت كم كان هذا الرجل عظيما بفكره ونضاله إلى جانب الجماهير الشعبية المقهورة. وتألمت كثيرا لما عرفت حكاية اختطافه واغتياله يوم 29 أكتوبر 1965 وهو لا يزال في قمة العطاء حيث لم يتجاوز عمره 45 سنة. أصبحت أسمع هذا الشعار في احتفالات فاتح ماي إذ كنت، وأنا لا زلت تلميذا، أقف لأراقب مسيرة الطبقة العاملة الضخمة وهي تمر بأهم شوارع مدينة الجديدة ومنها شارع الحسن الثاني. تزايد إذن اهتمامي ببعض التفاصيل التي لا يسلط الإعلام الرسمي الضوء عليها كثيرا فبدأت البحث في حيثيات اغتيال بعض الرموز التقدمية المميزة في تاريخ النضال السياسي المغربي ضد كل أشكال القمع والاستغلال والظلم. تعرفت على قصة المهدي أيضا من خلال شريط سينمائي. هذا الفيلم قارب إلى حد ما قصة اختطاف واغتيال هذه الشخصية الفذة والتي تجاوزت قصتها الحدود الجغرافية للمغرب، وما زالت لم تعرف نهايتها ما دامت لم تتم محاسبة مرتكبي هذا الفعل الشنيع وهذه الجريمة النكراء. شاهدت أيضا برنامجين وثائقيين عن هذه الشخصية الفذة وعن الأخطار التي كانت محيطة به بسبب أفكاره النيرة وطموحاته من أجل نشر قيم اليسار النبيلة والدفاع المستميت عن قضايا العالم الثالث. البرنامج الأول تحت عنوان : L›équation Marocaine والبرنامج الثاني تحت عنوان: Ben Barka mort ou vif . فتزايد إعجابي بهذا الكبير بفكره ومواقفه النبيلة نصرة للجماهير الشعبية وكل شعوب العالم الثالث التواقة للانعتاق والتحرر والعيش الكريم. بطبيعة الحال لابد لمبدع يحمل قيما تقدمية نبيلة أن يتأثر بمثل هذه الأحداث المؤلمة والتي أضاعت على المغرب فرصا كثيرة في التقدم وإيقاظ الوعي والتنمية. وبالتالي، فلا بد لهذه الأحداث أن تنعكس بشكل مباشر على كتاباته وعلى مشروعه الفكري والإبداعي بشكل من الأشكال. فمصادرة الرأي والفكر وعدم احترام الحق في الاختلاف وتزييف الحقائق والقمع وغيرها كلها مفاهيم أيقظت في ولا تزال شعلة الكتابة من أجل مقاومة كل أشكال التضييق والتحرر من كل أشكال العبودية الظاهرة منها أو الخفية. قضية المهدي وغيرها جعلتني أغير مقولاتي عن ماهية الكتابة إذا لم تكن في الحقيقة نقدا لاذعا للمتناقضات وتفكيكا لكل المظاهر التي تخفي غابة من الأوهام والأساطير، وكل أشكال التزييف والقوة والتي تتمسك بها جهة معينة لإحكام السيطرة وإثبات الوجود على حساب قيم العدالة والحرية والمساواة. قضية المهدي بنبركة ليست قضية انتهت في زمانها بل ينبغي أن تظل شعلة تحرق كل من ساهم في نسج خيوطها ولا يزال يوصلها إلى الأفق المسدود. قضية المهدي بن بركة ينبغي أن تكون قضية كل الأحرار خاصة الأجيال القديمة فالمهدي ذاكرة لا ينبغي نسيانها أو تجاهلها. وربما قضيته وهي قضيتنا تحتاج إلى مزيد من الحفر على مستوى الكتابة الإبداعية والفكرية من خلال رصد لمرحلة كان من الممكن أن ينتقل بدرجات متقدمة إلى الأمام اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. المهدي بنبركة هو بهذا المعنى «ذاكرة مستقبلية» بتعبير الفيلسوف جورج غادامير والمستقبل مفتوح جدا من أجل إعادة كتابة هذا الرمز الاستثنائي أو إعادة اكتشافه من جديد من طرف الأجيال القادمة.