البحث عن الشغل والوصول إلى مورد قار للرزق، ليس المعركة الوحيدة في حياة الإنسان، مهما كانت مشاقّه واتسمت طريقه بالوعورة، إذ لا يكفي الحصول على عمل لضمان الاستقرار المادي والمعنوي، بل قد يكون هو نفسه مقدمة لعدد من المشاكل والأنواء، التي قد تعترض سبيل الشخص، سواء على المستوى الجسدي أو النفسي، خاصة إذا كانت ظروف العمل غير لائقة، ويطبعها جو من عدم احترام الحقوق الكاملة للأجير/المستخدم، وتم التطاول على المقتضيات القانونية، والإجهاز على مدونة الشغل، ليصبح الحضور إلى مقر العمل هو بمثابة معركة يومية، جزء منها الهدف منه الارتباط بالعمل حتى لاينعت المعنيون بكونهم يرفضون القيام بالمهام الموكولة إليهم، والجزء الثاني يهمّ النضال من أجل محاولة انتزاع الحقوق المهضومة. ثنائية قد تحضر في بعض أماكن العمل بكافة تفاصيلها، وقد تكون جزئية في أخرى، إذ تختلف النسب من فضاء مهني إلى آخر. هنا نعرض لوجه من أوجه المطالب المهنية، التي يؤكد المهنيون/المتضررون بكونهم يعانون من تبعات «إهمال» تقني، مصحوب بتقاعس عن القيام بتدابير وإجراءات مصاحبة بكلفة مالية تعتبر بخسة مقارنة بالمداخيل وبقيمة العنصر البشري الذي كان من الأجدى أن يتم الاستثمار فيه عوض التضحية به! شباب في مقتبل العمر، هم عينة من فئة وشريحة تعد الرأسمال الغني للمجتمعات، يتوفرون على مستويات معرفية وأكاديمية محترمة، وخبرة ودراية في مجالات مختلفة، طلّقوا مناصب شغلهم السابقة، وقرروا الانخراط في تجربة جديدة، رأوا أنها واعدة، وبأنها ستغير من حياتهم وليس فقط من طبيعة المشهد العام في الدارالبيضاء خاصة، والمغرب عموما، فتسلحوا بما يملكونه من رصيد معرفي كي يشكلوا قيمة مضافة للشركة التي تعاقدوا معها، رغبة منهم في تقديم صورة إيجابية عن طبيعة العنصر البشري المشتغل بها، والذي يمكنه أن يساهم في حصولها على شهادات للجودة، حيث يتكامل التقني باللوجستيكي بالبشري. هكذا كانت أحلام عدد منهم قبل أن تصطدم بصخرة الواقع، ويستفيقوا بما اعتبروه حلما وقد تحول على غير المتوقع، إلى كابوس. ففي ظرف زمني وجيز، وخلافا للمعطيات الرقمية، تبيّن لهم بأن سنواتهم الثلاث، كحدّ أدنى، التي قضوها في العمل، عملت على إطفاء شعلة حماستهم، وعوض أن تكون مقدمة لعطاء أكبر فقد أصابتهم بالوهن، نتيجة لطبيعة عملهم، مما تسبب لهم في أمراض مهنية كلفتها العلاجية باهظة، وبتداعيات نفسية أكبر، خاصة بعد أن صدموا بكونهم يفتقدون لتأمين عن هذا النوع من الأمراض، وتضاعفت محنتهم جراء عدم اعتراف المؤسسة المشغلة بحقيقة هذا الوضع المرضي الذي باتوا يعيشونه، وعوض أن تقدم لهم يد العون، عملت على الضغط عليهم، واختلاق جملة من العراقيل، حتى يغادروا بخفي حنين، وفق تصريحات العديد منهم. الترامواي .. مقدمة للمستقبل مما لاشك فيه أن تداول فكرة إحداث خط للترامواي بالدارالبيضاء عرف تباينا في النقاش بالمجالس الخاصة والعامة، بين من كان يؤمن بالفكرة/المشروع، ويرى فيها قفزة كبرى نحو المستقبل،وبين مشكّك اعتبر أن الخطوة هي بمثابة مساحيق للتجميل التي ستعمل على مزيد من تشويه وجه البيضاء الذي تعتريه العديد من العيوب. نقاشات كانت ترتفع حدتها أحيانا وتخفت أحايين أخرى، مع التقدم في الأشغال، وظهور ملامح مميزة لمسار الخط الذي سيمتد على مسافة 31 كيلومترا، الأكبر في العالم، والذي سيضم فيما بعد 48 محطة، حيث انتقلت الأسئلة والسجالات إلى طبيعة العلاقة التي ستجمع البيضاويين وزوار المدينة بالترامواي، مساحات التنقل، عقلية مستعملي الطريق، سواء منهم أرباب السيارات ومختلف وسائل النقل أو الراجلين، ومدى تأقلم الركاب مع الأجواء «المتمدنة» لوسيلة النقل الجديدة، بعيدا عن عقلية التهافت على الكراسي وغيرها من المسلكيات القبيحة التي ارتبطت على الدوام بحافلات النقل الحضري، وغيرها من التساؤلات التي كانت مشروعة، ومن بينها كذلك توظيف اليد العاملة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي النقطة التي حظيت باهتمام العاطلين وحتى الذين كانوا يمنون النفس بتغيير الوجهة، بحثا عن أفق أرحب وامتيازات أكبر، سيّما وأن مشروع الترامواي كان يحظى بعناية خاصة، شكلت عنصر إغراء وجذب، سرعان ما فقد توهّجه على هذا المستوى؟ بين الحقيقة والمتخيّل من بين المهام التي كانت تنتظر المقبلين على العمل على متن خطوط الترامواي، مهمة قيادة القاطرات، حيث تم التعاقد مع 104 أشخاص/سائقين في البداية، ثم انتقل العدد إلى 145، لكنه عاد وتقلّص إلى 117 سائقا، كلّ واحد منهم تسلح بالصبر والاستمرار في الصمت من أجل غد أفضل وتحقيق الوعود التي ظلت شفاهية دون أي أثر لها على أرض الواقع، خاصة بعدما تبيّن بأنهم أصيبوا بأمراض مهنية نتيجة لطبيعة العمل الذي يؤدونه، والتي تطلبت منهم مصاريف مالية مهمة لم يكن بمقدورهم جميعا تدبّرها، سيّما بعدما تأكدوا بأنهم يفتقدون للتأمين عنها، خلافا لزملائهم في المؤسسة الفرنسية. وزاد الوضع تفاقما عندما تبخرت الأحلام الوردية للإدارة «المغربية» الفائزة بصفقة التدبير المفوض، حسب تعبير من التقتهم «الاتحاد الاشتراكي»، وحلّت محلها كل أشكال المعاناة المادية والنفسية! حقيقة الوضع اليوم وبعد مرور هذه السنوات، وكما ترويها مصادر الجريدة، تبيّن أن السائقين يعانون من عدد من الاختلالات الصحية على مستوى أعصاب المعصم والمرفق والذراع والكتف، نتيجة للاستعمال المتواصل لذراع السرعة، في غياب إجراءات تقنية تقلص من تداعيات هذه الخطوة، التي تم نسبها في لحظة من اللحظات إلى طبيعة جلوس السائق، في تشخيص، يراه المتضررون، جاء بنفس مراوغاتي عوض وضع الأصابع على المكمن الفعلي للخلل. وما زاد من تفاقم حدة المرض، حسب المعنيين ، عدد ساعات العمل التي تفوق ما يشتغله نظراؤهم في فرنسا مثلا، وفي ظل معيقات بشرية متعددة، علما بأن عليهم قطع رحلة جيئة وذهابا حتى يتسنى لهم أخذ قسط من الراحة لدقائق معدودة لاتخول لهم أية متنفس، بل هي عنوان على العودة إلى مراحل جديدة من الإرهاق والتداعيات النفسية. السائقون .. الصورة الأخرى متاعب السائقين المتضررين تتعدد صورها، والجلوس إليهم ، مهما طال زمنه، يتبين بأنه قصير بالنظر إلى حجم الألم الذي يحسه المعنيون بالأمر والضرر الذي يطالبون برفعه، وهم يؤكدون بأن غايتهم ليست الدخول في أي مواجهة عدمية، بل هم يحاولون بكل السبل المتاحة إثارة انتباه المسؤولين المباشرين وغير المباشرين إلى حقيقة الوضع بهدف التدخل لتصحيح الاختلالات، ووضع «الترامواي» والمشتغلين فيه على السكة الصحيحة التي عنوانها التكامل وتقديم الخدمات التي تليق بالدارالبيضاء وسكانها وزوارها على حدّ سواء. إثارة الانتباه تشمل محاور متعددة، من بينها معطى يتعلق بالاشتغال بنظام 6 أيام عمل يعقبها يومان للراحة، مما يؤدي، وفقا لتعبير بعضهم، إلى تجاوز ما هو منصوص عليه في مدونة الشغل بخصوص ساعات العمل، إذ يشتغل السائقون 48 ساعة في الأسبوع على الأقل، مقابل النقطة التي تتعلق بالعقوبات التي تطال فئة السائقين، والتي يصفها المتضررون بكونها جد مرتفعة، إذ أن جلها يبتدئ بعقوبة التوقيف عن العمل وعدم نهج التراتبية في العقوبات التي نص عليها قانون الشغل، مؤكدين أن هذه الخطوة تلتجئ إليها الإدارة باعتبارها الحل الأمثل بالنسبة لها كلما تعذر عليها إيجاد حلول تقنية للمشاكل المطروحة، علما بأنه تم تقديم مشروع سلم عقوبات معمول به في هذا المجال من طرف شركات أجنبية متخصصة في تسيير الترامواي، إلا أنه قوبل بالرفض ولم تتم الاستجابة لضرورة النقاش وإشراك الجميع من أجل إيجاد سلم عقوبات يراعي طبيعة المهنة ويحفظ مصلحة الشركة والسائقين معا! وبين هذا وذاك يعود النقاش لينصب على النقطة التي تستأثر باهتمام المتضررين، والتي تشكل لهم وجعا كبيرا، والتي تتعلٌّق بالأمراض التي طالتهم ، حيث قدموا لنا وثائق طبية تؤكدها، وأخرى تدعو إلى منحهم مددا معينة للراحة، وهو ما لم تستجب له الإدارة المشغلة، وفقا لتصريحهم، بل عملت على مطالبتهم بأداء مهام أخرى هي ليست من صميم اختصاصاتهم كمرافقة الحراس الليليين لمراقبة مسارات معينة، في غياب أي وثيقة تحمي المعنيين، إلى جانب ممارسات أخرى تحفظ بعضهم عن سردها، مؤكدين بأن هذا الوضع يعاني منه عدد مهم من السائقين، في الوقت الذي قرر ثلاثة سائقين فقط الخروج للعلن، وطرق أبواب مفتش الشغل واعتماد المسطرة القانونية لحماية حقوقهم. نقائص بعيون داخلية إلى جانب ما سبق، لفت المتضررون الانتباه إلى مشكل التسيير باعتباره عنوانا على النجاح من عدمه، مؤكدين أن هناك عددا من الاختلالات المسجّلة في هذا الباب، كما هو الشأن بالنسبة لتسريح وطرد مجموعة من الكفاءات الإدارية من مهندسين وتقنيين، الذين وصفوهم بكونهم كانوا على إلمام جيد بمهامهم ومهنتهم، والذين تلقوا تكوينهم على يد خبراء متخصصين في هذا الميدان، وكانوا من الأوائل الذين شهدوا انطلاق خط الترامواي، مبرزين أنه في الوقت الذي كان يجب الاستفادة منهم، تم تسريحهم لأسباب واهية وتعويضهم بأشخاص لا يمتلكون أدنى خبرة لتسيير هذا القطاع الحساس، وهو ما انعكس على عدة تفاصيل مهنية، من بينها حصر القاطرات في 32 قاطرة عوض 33، والرفع من المدة الفاصلة بين القاطرات من 4.55 إلى ما فوق 5 دقائق، تحت مبرر عدم التوفر على العدد الكافي من القاطرات نتيجة لحوادث السير التي تتعرض لها هذه الأخيرة، علما بأن مؤشر الحوادث لسنة 2016 قد انخفض بالمقارنة مع 2013/2014/2015 ، وهو ما يوضح، وفقا لتعبيرهم، غياب التسيير الجيد والخبرة الكافية، إذ أنهما لو توفرا لما تراجع عدد الرحلات مقارنة مع السنة الفارطة؟ ملاحظات طالت كذلك موضوع الترقيات، التي تساءل السائقون الغاضبون بشأنها عن مدى احترام مبدأ الكفاءة والخبرة، خاصة بعد قرار الإدارة ترقية ثلاثة مستخدمين من فئة رؤساء المحطات إلى منصب أطر السائقين، لافتين الانتباه إلى أن هذا المنصب يتطلب عدة شروط، منها المستوى الدراسي، والحال أن بعضهم لايتجاوز مستواه التعليمي السنة الثالثة من التعليم الإعدادي! إلى جانب تعيين ثلاثة منسقين لخط الترامواي، خلافا للوضع في السابق الذي كان موكولا لشخص واحد، علما بأن شخصين اثنين لا يتوفران على تكوين أو خبرة في المجال، فأحدهما كان يتولى مهمة التسويق والتجارة، والثاني مسؤول عن المراقبين، أخذا بعين الاعتبار أن القانون المنظم للترامواي ROTC ينص على وجوب توفر شروط خاصة في منسق أو مسؤول خط الترامواي، وهي التكوين في السياقة، تجربة لا تقل عن ثلاث سنوات من السياقة في نفس الخط، والتكوين في مركز التحكم والقيادة لخط الترامواي مع التجربة الكافية في هذا المركز؟ حقوق معلّقة وأظرفة منتظرة ملاحظات برزت بشكل صارخ إلى العلن، دون إغفال الاستغناء عن خدمات طبيب الشغل، الذي كان حريصا على التعامل بشكل مهني مع الوقائع التي تعرض عليه، وفقا لتصريحات المتضررين، مع انطلاق أشغال إنجاز الخط الثاني التي تتقدم يوما عن يوم، والتي تسارع الشركة المعنية لوضع يدها على صفقة الاستغلال بناء على عقد يمتد ل 12 سنة انطلاقا من سنة 2017 ، دون أن تباشر ، وبشكل جدي ، النظر في المشاكل المطروحة وتنكب على معالجتها معالجة مهنية، إنسانية واجتماعية، إذ اختارت، وفقا للمتضررين، الهروب إلى الأمام والتملص من المسؤولية، وذلك باعتماد التعتيم على مشكل الأمراض المهنية لربح الوقت المتبقي حتى فتح الأظرفة في دجنبر المقبل!