حينما شاهدتُ فيلم عاطف الطيب عن ناجي العلي لم أفكر فيه كفيلم، لم يهمّني ما فيه من سينما ومن فن. بحثت فيه عن ناجي الذي أعرفه، والذي كان بالنسبة لي رفيقاً صحبته وصادقته وخاصة بعد الاحتلال الإسرائيلي. كان بالنسبة لي إنساناً أكثر منه بطلاً، بينما السينما تصنع الأبطال. بطل عاطف الطيب كان من النمط الشعبي وناجي العلي الذي خرج من المخيم ومن محيط شعبي كان أيضاً فناناً مرموقاً ويمدّ بصوره أكثر من صحيفة. لا أدري إذا كان المخرج المصري يعرف أن ناجي العلي كان يملك مرسيدس جميلة وأنه كان أنيقاً مشغولاً بأناقته وقد تعلّمنا منه الكثير في هذا المجال، ثم انه كان يحب اللعب. ظل نور الشريف، الذي لعب دور ناجي، ابن المخيم حتى حين ابتعد عنه. ظل ابن الشعب، فيما كان ناجي الحقيقي يلعب هذا الدور على طريقته، وبحسب فهمه على صفحات الجرائد. لاأعرف ناجي المخيم، لكني سمعت عنه. كثيرون عرفوه في هذه الحقبة، لم يبقَ ناجي رهين المخيم، كانت المدينة تعج بالأحزاب التي تتبنى القضية الفلسطينية، بينها حركة القوميين العرب التي صار قريباً منها. الذين عرفوه حينها يصفونه بأنه دائماً عند رأيه ورأيه واحد، يقوله بل ويمارسه بلا هوادة. كان من أول طلعته صاحب موقف لا ينزل عنه ويلزمه إلى النهاية. هذه يومذاك صفة أخلاقية بقدر ما هي سياسية، إنها الأمانة والالتزام والثبات على المبدأ. يومها لم تكن الخيارات كثيرة، كان الخيار غالباً بين اثنين: التسليم أو الاعتراض. الرضوخ أو الرفض. ناجي صاحب مبدأ وصاحب المبدأ يومذاك لا يصافح ولا يعترف ولا يساوم، يروون عن ناجي الصلب المبدئي قصصاً، في بعضها يبدو مبالغاً بصلابته عنيداً فوق ما يجب. بعض ممارساته يحمل على الابتسام، للتشدّد دائماً وجهه الباعث على الضحك، واستقامة ناجي كان فيها ما يثير العجب. أنا عرفته، أول ما عرفته، فناناً. لم يكن هناك شك، أي شك، في هذا، كان له في باحة المدرسة التي يعلّم فيها الرسم لوح يعلق عليه لوحاته، يومها لم يكن اهتدى إلى الكاريكاتور. كان يرسم نفسه على النحو الذي صار فيه حنظلة في كاريكاتوراته، يرسم آخرين، شباناً وفتيات بريشة معبرة ورقيقة. حتى هنا كان الرسام هو الغالب، لم يكن في رسومه أي ملمح ساخر أو مبالغ أو كاريكاتوري، كان فيها الرسام الذي ظل، في ما بعد، يتحسّر عليه ويتمنى الرجوع إليه، بعد أن غرق في الكاريكاتور. كنت وناجي نعمل في الجريدة نفسها «السفير»، لكننا لم نتلازم ولم نصِر أصدقاء إلا وقت الاحتلال الإسرائيلي. لا أذكر كيف بدأ ذلك. أذكر انه عرف الطريق إلى بيتي وعرفت الطريق إلى بيته، لم تكن علاقة ثنائية فحسب، كانت علاقة مجموعة دخل بيننا ودخلنا إلى وسطه. أظن أنه تعمّد ذلك، الاحتلال الإسرائيلي جعله يشعر بمسؤولية فلسطينية تحملها ضميرياً وأحس أن عليه واجب الاعتذار، كان بطريقة أو بأخرى يعتذر. أراد أن يصالح بين الشعبين. عندما كنت أعود معه ليلاً إلى صيدا حيث نسكن. كان يتوقف لأي واحد يستوقفه على الطريق، يتأمل أن يكون لبنانياً ويروح يتحدث إليه بلهجة المخيم التي كانت لهجته، متأملاً هكذا أن ينقل صورة زاهية عن الفلسطيني إليه. على طريق هذه المصالحة، التي صارت بالنسبة له غرضاً يسعى إليه، دعانا إلى بيته في صيدا، جوزف سماحة وحسن داوود ومحمد عبدالله وحمزة عبود وأنا، كان واضحاً أننا بالنسبة له فريق لبناني. صعدنا إلى بيته في صيدا الذي صادف أنه بُني جنب بناية طبق الأصل عنه وسمعت أن ناجي الساهي كان أحياناً يخطئ بينهما، فيصعد إلى البناية الأخرى لتفتح له عروس جديدة في الشقة، وانا أيضاً ضعت مثله بين البنايتين، إذ لم أكن اقل منه سهواً. صعدنا إلى بيته فوجدنا في انتظارنا هناك، فضلاً عن ناجي وعائلته، فرقة فلسطينية من المخيم تعزف وتغني أغنيات الثورة الفلسطينية. جلسنا نحن إلى طاولة العشاء وأخذت الفرقة في الجانب الآخر في العزف والغناء. شعرنا بالخجل فتعجّلنا الأكل وتركنا الطاولة وجلسنا إلى الفنانين. لا أعرف ماذا كانت فكرة ناجي عن هذا اللقاء لكننا، نحن لبنانيي اللقاء، لم نكن من محبي هذا الغناء الثوري وطالما كنا ننتقده، وأحياناً بشكل لاذع. حينما صادف أن رأيت رسماً لناجي ضمّ أسماءنا في «السفير» يومها واحداً واحداً، شعرت أن ثمة صفحة مطوية من حياتي تعود إليّ وسمعت صوت ناجي بلهجة المخيم. لو كنت رساماً لرسمت ناجي بأسلوبه، ولكتبت تحت الرسم «الفلسطيني». الفلسطيني فحسب. ناجي بلهجته وتصرفاته ورسومه هو هذا الفلسطيني الذي أحببناه في الأشعار والأغاني وحتى في أغاني الفرقة التي لم تستهونا. عن السفير