أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. ومن مفارقات السياسة أن مركز رياض الفتح، الذي توجد فيه مجموعة من المقاهي والمطاعم والدكاكين والمراقص، وأماكن التسلية والترفيه عن النفس، أنشأته الدولة الجزائرية ليكون متنفسا لشبيبتها، ظهر في الأحداث الأخيرة، وكأنه رمز لكل ما تريده هذه الشبيبة أن يُدَمَّر، لقد تحول المركز في النهاية إلى ملتقى لأبناء الطبقة الجديدة، وأجج مشاعر الحرمان وأحاسيس الغبن والضيم عند الذين لا يستطيعون الإستفاذة من برامجه. ولعل الشيء الآخر الذي أثار النقمة وثبتها بالمعنى النفسي، حول هذا الرمز الاستفزازي لحضارة الاستهلاك، هو أنه شيد بجوار مقام الشهيد (أي قبر الجندي المجهول)، الذي أطلق عليه الإسلاميون اسم «هُبل». وهبل واحد من أصنام العرب المكيين في العصر السابق للإسلام، وقد أصبح الشعب الجزائري يطلق اسمه على ذلك الأثر الذي يرمز إلى أغلى شيء في تاريخ الثورة الجزائرية. إن انتصار «هُبل»على «مقام الشهيد» في المأثور الشعبي اليومي المتداول، مؤشر آخر على أهمية «الرمزي» في السياسة العملية. لقد أنفقت الدولة الجزائرية مبالغ مالية هائلة لإنجاز ذلك الأثر المعماري الهائل، وكلفت شركات أجنبية بتنفيذه لمناسبة الذكرى الثلاثين لاندلاع الثورة (1984)، ولكن مردوده التاريخي والنفسي، كان سلبيا للغاية. وأثناء المظاهرات الأخيرة كان مركز رياض الفتح من المواقع الرمزية التي حاول المتظاهرون اقتحامها، ولكنهم وجدوا سدودا منيعة حوله من قوات الشرطة و الدرك والجيش. الخيال الشعبي الخصب، أضاف إلى حقيقة هذا المشروع، أشياء كثيرة، غذت أحقاد الناس ضد المبذرين والمحظوظين والمستفيدين والمحتكرين. ورغم أن مدير المركز، العقيد حسين السنوسي، لم يُعتقل، وأن أصدقاءه الجزائريين والفرنسيين قابلوه أكثر من مرة في العاصمة، أثناء الإضطرابات الأخيرة، فقد كانت إذاعة الرصيف Radio Trottoir، تؤكد أنه سجين، وكان بعض هذه الإذاعات الرصيفية يقول إن الشاذلي بنجديد ضالع معه في الحكاية ذاتها. وإذاعة الرصيف هي التي روجت شائعة أخرى مفادها أن العميد محمد عطايلية، قائد الناحية العسكرية الأولى، حقق مع ابن الشاذلي بنجديد في هذه المسألة وفي غيرها، وهي التي تقول إن أقرباء الرئيس استولوا في نطاق تفويت القطاع الزراعي الإشتراكي إلى الخواص، على مزارع «بورجو» الشهيرة، في الضاحية الغربية للعاصمة. وتضيف إذاعة الرصيف : أن الرئيس الشاذلي بنجديد، طلب من العميد عطايلية أن يتقاعد أو يختار أي منصب آخر غير قيادة المنطقة العسكرية الأولى، وأن هذا الأخير أجابه بالحرف : «جئنا معا، فإما أن نبقى معا، كل في مكانه أو نذهب معا». وما يمنح لأقوال إذاعة الرصيف في الجزائر، أهميتها، حول علاقة الشاذلي بنجديد بالعميد محمد عطايلية هو أن هذا الأخير، المشهور شعبيا داخل الجيش باسم «الروج» بسبب بشرته الشقراء، قريب بالمصاهرة وبالوشائج العائلية من الرئيس الراحل هواري بومدين، ويعتبر نفسه، ويعتبره أصدقاء بومدين، من حماة التراث البومديني. أما الشائعة الأكثر غرابة وطرافة وأعمق دلالة سياسية، على المناخ النفسي الذي ساد العاصمة الجزائرية، قبل انفجار الأحداث الأخيرة، فهي تلك التي تزعم بأن السيدة حليمة بوركبة، زوجة الرئيس الشاذلي بنجديد، كانت من الأسماء الموقعة على لائحة تقترح تقديم العقيد صالح بوبنيدر (صوت العرب) مرشحا لرئاسة الجمهورية بدلا من زوجها. وأخبار إذاعة الرصيف، هي شائعات تتدفق من نفس النبع، أي من انعدام الأنباء الصحيحة ومن استهانة المسؤولين بالمواطنين وبالرأي العام، ومن عدم اكتراثهم بأهمية التربية السياسية. والشائعات الجزائرية تتدفق في المجتمع وفي الدولة، تدفق الأودية في الجبال. وربما يكون للتكوين الطوبوغرافي في العاصمة أثره في تشكيل الطابع الإجتياحي للشائعات. مراكز السلطة الوطنية كلها بالعاصمة موجودة في الأقسام العليا من المدينة : الحزب ووزارة الدفاع في مرتفعات التلملي المطلة على القصبة، والأمن العسكري والرئاسة في مرتفعات الأبيار المطلة على كل المدينة، والأجهزة الأخرى متناثرة هنا وهناك. والشائعات تأتي في أغلب الأحيان من هذه المصادر العليا، وتضخم سمومها في جسد الدولة والمجتمع المدني، جارفة في طريقها نحو الفراغ كل الثقة والمصداقية. والشائعات التي وجدها الشاذلي بنجديد، لدى عودته من إجازته الصيفية، كانت منهجية وشاملة، وكان من الواضح أنها ليست عفوية، لقد كانت تهدف إلى زعزعته. طبيعة نظام الحزب الواحد، والتداخل بين الجيش والدولة والحزب، لا تسمح في الوقت الراهن، ورغم مرور شهر تقريبا على بداية خريف الغضب الجزائري، بمعرفة دقيقة لمحركي الإضطرابات ومثيري أعمال الشغب الأخيرة. وهذه الوضعية ليست جديدة تماما في الجزائر. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فقد تمت تصفية الزعيم عبان رمضان (وهو أبو جهاد الثورة الجزائرية) على يد كل من زميله عبد الحفيظ بوصوف والأخضر بن طوبال في مدينة تطوان المغربية (في بداية عام 1957) وصدرت جريدة المجاهد الناطقة باسم جبهة التحرير الوطني وعلى غلافها صورة له مجللة بالسواد، تقول إنه سقط في ميدان الشرف. ولم تُعرف حقيقة اغتيال عبان رمضان وأسبابها إلا بعد الإستقلال. كذلك لم تُعرف قصة اغتيال محمد خيضر، الأمين العام لجبهة التحرير، في مدريد، ولا قصة اغتيال كريم بلقاسم وزير الحربية السابق بفرانكفورت في ألمانيا الغربية، إلا بالتكهنات والتخمينات. وقد تمت القصتان في عهد الهواري بومدين. وحتى الآن لا نعرف الجهة التي اغتالت المحامي الجزائري علي المسيلي في باريس، ولا ندرك أسباب الوفاة المفاجئة «بسكتة قلبية» للثري الجزائري رشيد زكار. كما لا نعرف أسرار حوادث السيارات والطائرات التي توفي فيها العقيد عباس مدير المدرسة العسكرية بشرشال، والعقيد سعيد عبيد قائد المنطقة العسكرية الأولى، والعقيد عبد القادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني، ولا أسباب «انتحار» أحمد المدغري وزير الداخلية، في عهد بومدين. نشير إلى هذه الحالات البارزة، المعروفة، وهي غيض من فيض في تاريخ الثورة الجزائرية، لنذكر بأن الغموض الذي يسود الوضع الراهن له سوابقه في التاريخ. والسؤال المطروح الآن هو : من يعمل ضد من؟ ومن يعمل مع من؟ ولدينا الآن سلسلة من الوقائع البديهية، التي قد لا تسمح الآن بإعطاء جواب مقنع أو شامل، لكنها تتيح لنا أن نتبين بعض معالم الصراع، ونتبين معها أبعاد الأسئلة التي يطرحها. وقد أشرنا في مراسلات سابقة إلى بعض التفاصيل، ونستطيع الآن أن نضيف إضاءات جديدة إليها. لقد بدأت الإضطرابات، في مصانع الرويبة الرغاية لتركيب السيارات بإضراب قاده مسؤولون نقابيون ومناضلون في حزب الطليعة الإشتراكي (الحزب الشيوعي الجزائري العامل في السرية). لم يصدر لا قبل الإنفجار ولا بعده، أي نشاط عن حزب جبهة التحرير الوطني يترجم موقفا واضحا من الأحداث. حقا إن المكتب السياسي اجتمع وأصدر بيانا نشرته الصحافة في حينه، ولم يُظهر أي وجود للحزب بعد ذلك. الإتحاد العام للعمال الجزائريين، وهو المنظمة الجماهيرية الوحيدة التابعة للجبهة أيد المضربين. ولما كان النفوذ داخل هذه المنظمة، تَقاسَما بين يسار الجبهة وحزب الطليعة الإشتراكي، فليس من السهل حاليا أن ننسب الموقف الذي اتخذته القيادة النقابية، لهذا الطرف أو ذاك. هل حصل تحالف ظرفي في هذه المناسبة بين «الإشتراكيين الطليعيين» أي الشيوعيين، والعناصر الراديكالية في حزب الجبهة؟ هل جر الفريق الأول الفريق الثاني إلى موقعه؟ ومن الذي أطلق شعار الإضراب العام، بعد الصدامات الأولى في الخامس من أكتوبر، ثم تراجع عنه؟ ومن هم الذين طلبوا من التجار إغلاق دكاكينهم يوم الثلاثاء، أي قبل يوم واحد من المظاهرات العنيفة؟ ومن الذي نزع السلاح من مراكز الشرطة بالعاصمة، وأصدر الأوامر إلى فرق الأمن الجمهوري الوطني، والدرك، بعدم التدخل في وقت كانت فيه الجزائر العاصمة تحترق؟ ومن الذي أخرج تلامذة المدارس الثانوية في أحياء باب الواد وبلكور والقبة وحسين داي من مدارسهم؟ ومن الذي نبههم بشكل منهجي إلى كل ما يرمز للدولة والحزب؟ ومن الذي جعلهم يهاجمون منزل السيد محمد الشريف مساعدية، مسؤول الحزب؟ ومن الذي جعل الألسنة تنطلق من جديد متحدثة عن حفلة الزواج التي نظمها لابنه عز الدين؟