أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. والرجم بالحجارة ظاهرة جديدة في خريف الغضب الجزائري تترجم عدوى الإنتفاضة الفلسطينية وسريانها في صفوف شباب المغرب العربي، وسوف نجد صورا منها لاحقا حين نستعرض بعض فصول المأساة الراهنة. الصديق الجزائري الذي روى لنا هذه الحادثة كشاهد عيان أكد لنا أنها حصلت بعدة مدن جزائرية في فترات متقطعة من هذه السنة، وحصر أسبابها الموضوعية في ثلاث اعتبارات : الاعتبار الأول سياسي عام : الجيش الجزائري لم يعد منذ منتصف العام الجاري يفرض الخدمة العسكرية الإجبارية بسبب الانفراج الحاصل في العلاقات مع بعض الجيران (المغرب في الغرب وليبيا في الشرق). الاعتبار الثاني مالي : ينبع من انخفاض الموازنة العسكرية وضغط النفقات والمصروفات العامة بسبب تدهور أسعار المحروقات وكسادها في الأسواق العالمية (النفط والغاز هما مصدر 90 في المئة من العملات الأجنبية بالنسبة للجزائر...). الاعتبار الثالث وهو ثمرة للعاملين السابقين، يتمثل في انعدام التجهيزات والمواد الضرورية لإجراء الفحوص الطبية. الغضبة المضرية الرئاسية وغضبة المجندين في عنابة لم تشر إليهما بالطبع الصحافة الجزائرية ولم تنتبه إليهما الصحافة العربية ولا الأجنبية. أول تظاهرة في خريف الغضب وصلت أصداؤها إلى الخارج هي إضراب عمال مجمع صناعات تركيب السيارات في مدينة الرويبة على مسافة ثلاثين كيلومترا شرقي العاصمة. وقد انفجر هذا الإضراب بعد أسبوع واحد من إلقاء الشاذلي بنجديد لخطابه، وجاء وكأنه رد من الطبقة العاملة على المخاطر التي تهددها نتيجة لسياسة التقشف. أضرب عمال هذه المصانع التي تعد من القطاعات الإستراتيجية في الإقتصاد الجزائري مطالبين برفع رواتبهم، وسرت شائعات عن وجود فكرة إضراب عام يشمل البلاد كلها. وكان معنى هذا التسخين المفاجئ للجبهة الإجتماعية أن التعبير العلني عن خريف الغضب الجزائري، بعد أن كان محصورا في القمة وفي الأطراف، انتقل الآن إلى قلب الجسد الإجتماعي، وقطع شوطا كبيرا على طريق الاجتياح الكامل لمجمل التشكيلة المجتمعية. وهكذا أضرب عمال ومستخدمو البريد المركزي، وهدد عمال السكك الحديدية، والطيران والنقل بالتوقف عن العمل. ومن دون العودة إلى التفاصيل التي أوردتها الصحافة في حينها لابد أن تؤشر على هذه القفزة الجديدة للغضب، الذي بدأ يسري في جسم المجتمع الجزائري سريان النار في الهشيم تمهيدا للحريق الهائل الذي ما تزال أدخنته تزكم الأنوف. لابد أن نذكر بأن حركة الإضراب انطلقت من القاعدة وتحديدا من قطاعين رياديين في اقتصاد الدولة، هما مصانع السيارات ومراكز البريد الوطني. لقد كان إضراب مصانع الرويبة وإضراب البريد المركزي بمثابة إنذار للمسؤولين السياسيين، كما ذكر لنا ذلك مسؤول نقابي جزائري مقيم بالعاصمة الفرنسية. وحقق الإضراب نجاحا مذهلا، فاجأ الكوادر النقابية المحلية التي اتخذت المبادرة. أما الأمر الذي لا شك أنه أخاف المسؤولين المركزيين، فهو بلا شك انخراط المناضلين المنضوين تحت لواء المركزية النقابية، أي الإتحاد العام للعمال الجزائريين، في حركة السخط العام، مع ظهور عناصر فتية لا تنتمي إلى الحزب الحاكم ولا إلى النقابة التابعة له. وكان هذا النجاح هو السبب في اضطرار الأمين العام للإتحاد العام للعمال الجزائريين إلى اتخاذ موقف يدعو فيه الحكومة إلى ضرورة تلبية مطالب المضربين. وقد بادرت الحكومة بفتح المفاوضات تلافيا لاتساع حركة الإضراب وأعلنت أنها وصلت إلى اتفاق يرضي كافة الأطراف. غير أن الأحداث تطورت بسرعة. وقبل أن يجف حبر الإتفاق الذي قالت السلطات أنها توصلت إليه مع عمال مصانع السيارات وموظفي البريد تحولت شوارع العاصمة وساحاتها إلى ميدان قتال حقيقي بين جماهير الشباب الغاضبين وقوات الجيش والدرك والشرطة. والذين أتيحت لهم معرفة طوبوغرافية الجزائر العاصمة وشوارع مناطقها السكنية الفاخرة ودروب أحيائها الشعبية العتيقة والفقيرة، يدركون من خلال استرجاع أسماء الأماكن التي كانت مسرحا لخريف الغضب، عمق الزلزال الإجتماعي الذي عاشه القطر الجزائري خلال الأسبوع الأول من شهر أكتوبر عام 1988. ولابد من رسم صورة سريعة لجغرافية المدينة من أجل إدراك خطورة الإنتفاضة الشعبية الحالية. لقد سميت المدينة«الجزائر» لأنها مشيدة على شكل مسرح روماني فوق سلسلة من الهضاب والقمم والدرى يحسبها المسافر القادم إليها من البحر جزائر جبلية وسط الأبيض المتوسط، ويخالها الزائر الآتي إليها برا من الغرب عبر شعاب ومخانق سلسلة الجرجرة وسهل المتيجة «جزائر فعلية» داخل المحيط. وطوبوغرافية المدينة الشبيهة بطنجة في المغرب وبيروت في المشرق، أي أنها سلسلة متقاطعة، متلاحقة ومتداخلة من الجبيلات والتلال والهضاب والمرتفعات والأحواض والبسائط والسهول، تردع سكانها، بالطبيعة، عن التظاهر. إنها مدينة مناهضة بالطبع للمظاهرات. جغرافية المدينة لا تسمح بالتظاهر، لأن الناس حين ينزلون من الأعالي، يجدون صعوبات كبرى في الصعود إليها مجددا. وخلال ربع قرن من الإستقلال، لم تشهد الجزائر العاصمة مظاهرات حقيقية إلا مرتين : المرة الأولى في شهر يونيو 1967، حين تلاطمت أمواج الجماهير الصاعدة من الأحياء السفلى والوسطى مع الجماهير الهابطة من الأحياء العليا تعبيرا عن غضبها على الهزيمة العربية في المشرق. والمرة الثانية أثناء الأسبوع الأول من شهر أكتوبر الحالي ترجمة لنقمتها على الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية المتردية. في الحالة الأولى التي أتيحت لنا فرصة معايشتها في الشارع، هتفت الجماهير لأول مرة بحياة الرئيس هواري بومدين، لأن هذا الأخير ألقى خطابا متحمسا أكد فيه أن العروبة ليست في دمشق وعمان والقاهرة وبغداد وحدها ولكنها أيضا في طرابلس وتونس والرباط داعيا إلى الإستمرار في المقاومة. وكان ذلك الخطاب والحماس الشعبي الذي فجره بداية لشعبية بومدين الحقيقية، ومدخلا له إلى قلوب الجماهير الجزائرية. أما في المرة الثانية، أي في الوضع الراهن فقد هتف المتظاهرون ضد الشاذلي بنجديد. والسؤال المطروح الآن، لدى جميع المراقبين : هل يكون الهتاف ضد الرئيس الحالي، بداية العد التنازلي لعهده، عكس ما كان الهتاف بحياة بومدين بداية للعد التصاعدي لشعبيته؟ أم أنه مجرد «هتاف في الشارع» لا مستقبل له؟ وإذا عدنا إلى مرحلة ما قبل الإستقلال، نجد أن المظاهرات التي شهدتها العاصمة شكلت دائما نقطة فاصلة بين عهدين. وعلى سبيل المثال، فقد أدت مظاهرات ديسمبر 1960 التي تدفقت أثناءها الجماهير الجزائرية حاملة الأعلام الوطنية هاتفة «الجزائر عربية»، إلى حسم الموقف، بالنسبة لديغول مثلا إزاء تمثيلية جبهة التحرير الوطني للشعب الجزائري. حقا إن الجزائر شهدت مظاهرات طلابية وشعبية، ولكنها محدودة، قبل الإستقلال وبعده، أما المظاهرات الصاخبة، الشاملة التي تنطلق مرة واحدة وفي يوم واحد وتستمر عدة أيام في أحياء الحراش وبلكور والقبة وساحة أول مايو وحسين داي في الأقسام الشرقية، ثم من أحياء بير متدريس والأبيار وباب الواد في الأحياء الجنوبية والغربية، فلم تحدث في العهد القريب خارج المناسبات التي ذكرناها، وكان انفجارها إيذانا بتحول حاسم في المستقبل السياسي للبلاد. والسؤال الذي يرد على الذهن مباشرة بعد هذا التذكير بتاريخ المظاهرات الشعبية في العاصمة هو : هل تكون موجة الغضب الحالي، مثل سابقاتها، تدشينا لعهد جديد أم أنها ستشذ عن القاعدة؟ والجواب مايزال كامنا في مجرى الأحداث الملتهبة التي لم تتوقف، حتى كتابة هذه السطور (مساء السبت 8 أكتوبر...). واستمرارا في المقارنة، إن لجهة الإختلاف أو لجهة التشابه بين الماضي والحاضر، نلاحظ أن موجة الغضب الحالية، في الجزائر العاصمة، تختلف عن سابقاتها من عدة وجوه، وتشتبه معها في عدة جوانب. أما أوجه الخلاف فتتمثل في كون الشرارة التي أشعلت الحريق انطلقت من الثانويات، والأهداف التي ركز عليها المتظاهرون غضبهم ترمز جميعها إلى الدولة الوطنية وإلى اختياراتها السياسية والإقتصادية، وتتمثل أيضا في وقوف الدولة، بأجهزتها المختلفة، خاصة الشرطة والجيش، وربما الحزب، وجها لوجه مع قطاعات واسعة من الشباب الغاضب. وإذا أردنا أن نبحث عن ملامح مشابهة لما جرى في السابق وجدناها متوازنة مع مظاهر الإختلاف : فاليوم كما بالأمس تأتي الأحداث مفاجئة لقيادة جبهة التحرير الوطني، وينفجر الغضب تلقائيا من دون تنظيم ينسقه، ومن غير أهداف سياسية واضحة، ومن دون أداة وطنية تحاورها السلطة أو تحملها المسؤولية، ولكنه ينفجر معلنا عن رغبة عميقة ويائسة في التغيير.